ضرورة المؤسـّسات
التنفيذيـّة
مجموعة القوانين
والتشريعات لا تكفي
لإصلاح المجتمع. ولكي
يكون القانون مادّة
لإصلاح وإسعاد البشر،
فإنّه يحتاج إلى السلطة
التنفيذيّة.
لذا فإنّ الله عزَّ وجلَّ
قد جعل في الأرض ـ إلى
جانب مجموعة القوانين ـ
حكومةً وجهاز تنفيذٍ
وإدارة. الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم
كان يترأس جميع أجهزة
التنفيذ في إدارة المجتمع
الإسلاميّ. وإضافة إلى
مهام التبليغ والبيان
وتفصيل الأحكام والأنظمة،
كان قد اهتمّ بتنفيذها،
حتّى أخرج دولة الإسلام
إلى حيّز الوجود. في حينه
كان الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم لا يكتفي
بتشريع القانون الجنائيّ
مثلاً، بل كان يسعى إلى
تنفيذه. كان يقطع اليد،
ويجلد، ويرجم، ومن بعد
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم كانت مهام
الخليفة لا تقلّ عن مهام
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم. ولم يكن تعيين
الخليفة لبيان الأحكام
فحسب، وإنّما لتنفيذها
أيضاً.
وهذا الهدف هو الّذي أضفى
على الخلافة أهميّة
وشأناً، بحيث كان يُعتبر
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم لولا تعيينه
الخليفة من بعده غير
مبلّغ لرسالته. فالمسلمون
حديثو عهد بالإسلام وهم
بأمسّ الحاجة إلى من
يُنفِّذ القوانين،
ويُحكِّم أمر الله
وإرادته في الناس، من أجل
ضمان سعادتهم
في الدنيا والآخرة.
وفي الحقّ إنّ القوانين
والأنظمة الاجتماعيّة
بحاجة إلى منفّذ. في كلّ
دول العالم لا ينفع
التشريع وحده، ولا يضمن
سعادة البشر، بل ينبغي أن
تعقب سلطة التشريع سلطة
التنفيذ، فهي وحدها الّتي
تُنيل الناس ثمرات
التشريع العادل. لهذا
قرّر الإسلام إيجاد سلطة
التنفيذ إلى جانب سلطة
التشريع، فجعل للأمر
وليّاً للتنفيذ إلى جانب
تصدّيه للتعليم والنشر
والبيان.
سيرة الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم
نستفيد من سنّة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وسيرته ضرورة تشكيل
الحكومة.
أمّا أوّلاً: فلأنّه
هو بدوره قد شكّل
الحكومة. والتاريخ يشهد
بذلك وكان قد تزعّم إدارة
المجتمع، وأرسل الولاة،
وكان يجلس للقضاء بين
الناس فيما اختلفوا فيه،
ويُرسل إلى أنحاء البلاد
من يقضي بين الناس
بالعدل. وكان يُرسل
السفراء إلى خارج حدود
دولته، إلى رؤساء
القبائل، وإلى الملوك،
وكان يعقد المعاهدات،
ويقود الحروب، وبالتالي
كان يُنفِّذ جميع أحكام
الإسلام.
أمّا ثانياً: فقد
استخلف بأمرٍ من الله من
يقوم من بعده على هذه
المهام، وهذا الاستخلاف
يدلّ بوضوح على ضرورة
استمرار الحكومة من بعد
الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم. وبما أنّ
هذا الاستخلاف كان بأمرٍ
من الله، فاستمرار
الحكومة وأجهزتها
وتشكيلاتها، كلّ ذلك
بأمرٍ من الله أيضاً.
ضرورة استمرار تنفيذ
الأحكام
بديهيّ أنّ ضرورة تنفيذ
الأحكام لم تكن خاصّةً
بعصر النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم بل
الضرورة مستمرّة، لأنّ
الإسلام لا يُحدّ بزمانٍ
أو مكان، لأنّه خالد
فيلزم تطبيقه وتنفيذه
والتقيّد به إلى الأبد1.
وإذا كان حلال محمّد
حلالاً إلى يوم القيامة،
وحرامه حراماً إلى يوم
القيامة، فلا يجوز أن
تُعطّل حدوده، وتُهمل
تعاليمه، ويُترك القصاص،
أو تتوقّف جباية الضرائب
الماليّة، أو يُترك
الدفاع عن أمّة المسلمين
وأراضيهم. واعتقاد أنّ
الإسلام قد جاء لفترةٍ
محدودة أو لمكانٍ محدود،
يُخالف ضروريّات العقائد
الإسلاميّة. وبما أنّ
تنفيذ الأحكام بعد الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم وإلى الأبد من
ضرورات الحياة، لذا كان
ضروريّاً وجود حكومة فيها
مزايا السلطة المنفِّذة
المدبِّرة. إذ لولا ذلك
لساد الهرج والمرج
والفساد الاجتماعيّ،
والانحراف العقائديّ
والخُلقي، فلا سبيل إلى
منع ذلك إلّا بقيام حكومة
عادلة تُدير جميع أوجه
الحياة.
فقد ثبت بضرورة الشرع
والعقل أنّ ما كان
ضروريّاً أيّام الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وفي عهد الإمام أمير
المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليه السلام من وجود
الحكومة ـ لا يزال
ضروريّاً إلى يومنا هذا.
ولتوضيح ذلك أتوجّه إليكم
بالسؤال التالي: قد مرّ
على الغيبة
الكبرى2
لإمامنا المهديّ عجل الله
تعالى فرجه الشريف أكثر
من ألف عام، وقد تمرّ
ألوف السنين قبل أن تقتضي
المصلحة قدوم الإمام
المنتظر عجل الله تعالى
فرجه الشريف، في طول هذه
المدّة المديدة هل تبقى
أحكام الإسلام معطّلة؟
يعمل الناس في خلالها ما
يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك
الهرج والمرج؟ القوانين
الّتي صدع بها نبيّ
الإسلام صلى الله عليه
وآله وسلم وجهد في نشرها
وبيانها وتنفيذها طيلة
ثلاثة وعشرين عاماً، هل
كان كلّ ذلك لمدّةٍ
محدودة؟ هل حدّد الله عمر
الشريعة بمائتي عام
مثلاً؟ هل ينبغي أن يخسر
الإسلام من بعد الغيبة
الصغرى كلّ شيء؟! الذهاب
إلى هذا الرأي أسوأ في
نظري من الاعتقاد بأنّ
الإسلام منسوخ! فلا
يستطيع أحدٌ يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يقول:
إنّه لا يجب الدفاع عن
ثغور الوطن، أو إنّه يجوز
الامتناع عن دفع الزكاة
أو الخمس وغيرهما أو يقول
بتعطيل القانون الجزائيّ
في الإسلام، وتجميد الأخذ
بالقصاص والديّات. إذن،
فإنّ كلّ من يتظاهر
بالرأي القائل بعدم ضرورة
تشكيل الحكومة الإسلاميّة
فهو يُنكر ضرورة تنفيذ
أحكام الإسلام، ويدعو إلى
تعطيلها وتجميدها، وهو
يُنكر بالتّالي شمول
وخلود الدين الإسلاميّ
الحنيف.
الحكومة في عهد أمير
المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليه السلام:
لم يكن أحدٌ من المسلمين
يشكّ في ضرورة استمرار
وجود الحكومة من بعد
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم. الكلّ متّفقون
على ذلك، وإنّما وقع
الاختلاف في شخص من
يتولّى ذلك. فقد كانت
الحكومة موجودة بعد
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وفي زمن الإمام
أمير المؤمنين عليّ عليه
السلام خاصّة، بجميع
مؤسّساتها الإداريّة
والتنفيذيّة، من غير شكّ.
حقيقة قوانين الإسلام
وتنوّعها
ماهيّة قوانين الإسلام
دليل آخر على ضرورة تشكيل
الحكومة، فهي تدلّنا، على
أنّها جاءت لتكوين دولة،
تكون فيها إدارة، ويكون
فيها اقتصاد سليم، وثقافة
عالية.
أوّلاً ـ أحكام الشرع
تحتوي على قوانين
متنوِّعة لنظام اجتماعيّ
متكامل. وتحت هذا النظام
تُسدّ جميع حاجات
الإنسان، أخذاً من علاقات
الجوار، وعلاقات الأولاد
والعشيرة، وأبناء الوطن،
وجميع جوانب الحياة
العائليّة الزوجيّة،
وانتهاءً بالتشريعات
الّتي تخصّ الحرب والسلم،
والعلاقات الدوليّة،
والقوانين الجزائيّة،
والحقوق التجاريّة،
والصناعيّة، والزراعيّة،
كما يُنظِّم النكاح
المشروع، ويُنظِّم ما
يأكله الزوجان حالة
الزواج، وفي فترة
الرِّضاع يُنظِّم الإسلام
واجبات الأبوين الّذين
يُعهد إليهما بتربية
الأولاد، وعلاقة الزوج
بزوجته، وعلاقتها به،
وعلاقة كلٍّ منهما
بالأولاد. في جميع هذا
يملك الإسلام قوانين
وأنظمة من أجل تربية
إنسانٍ كامل فاضل،
يُجسِّد
القانون ويُحييه
ويُنفِّذه، ويعمل ذاتيّاً
لأجله. ومعلوم إلى أيّ
حدٍّ اهتمّ الإسلام
بالعلاقات السياسيّة
والاقتصاديّة للمجتمع،
سعياً وراء إيجاد إنسان
مهذَّب فاضل.
القرآن المجيد، والسنّة
الشريفة، يحتويان على
جميع الأحكام والأنظمة
الّتي تُسعد البشر، وتنحو
به نحو الكمال.
يوجد في كتاب (الكافي)3
فصل تحت عنوان: (بيان
جميع ما يحتاج الناس إليه
في الكتاب والسنّة)4
وفي الكتاب (تبيان كلّ
شيء)5
والإمام يُقسم ـ كما ورد
ذلك في بعض الأحاديث ـ
أنّ جميع ما يحتاجه الناس
موجودٌ في الكتاب والسنّة
من غير شكّ6.
ثانياً ـ عند إمعان النظر
في ماهيّة أحكام الشرع
يثبت لدينا أنْ لا سبيل
إلى وضعها موضع التنفيذ
إلّا بواسطة حكومة ذات
أجهزة مقتدرة، وأذكر لكم
أمثلةً يسيرة، وعلى
الأخوة المؤمنين استقصاء
الباقي.
أـ
الأحكام الماليـّة:
الضرائب الماليّة الّتي
شرّعها الإسلام، ليس فيها
ما يدلّ على أنّها قد
خُصِّصت لسدّ رمق
الفقراء، أو السادة منهم
خاصّة، وإنّما هي تدلّ
على أنّ تشريعها كان من
أجل ضمان نفقات دولة كبرى
ذات سيادة.
مثلاً: الخمس موردٌ ضخم
يدرُّ على بيت المال7
أموالاً طائلة تُشكِّل
النصيب الأكبر من بيت
المال، ويُؤخذ الخمس على
مذهبنا من جميع المكاسب
والمنافع والأرباح سواءً
في الزراعة أو التجارة أو
المعادن والكنوز، ويُساهم
في دفع ضريبة الخمس: بائع
الخضروات إذا حصل عنده ما
يزيد على مؤونته السنويّة
المنسجمة مع تعاليم الشرع
في الصرف والإنفاق، كما
يُساهم في ذلك ربّان
السفينة، ومستخرج الكنوز
والمعادن، ويُدفع خمس
فائض الأرباح إلى الإمام
أو الحاكم الإسلاميّ
ليجعله في بيت المال.
وبديهيّ أنّ هذا المورد
الضخم إنّما هو من أجل
تسيير شؤون الدولة
الإسلاميّة، وسدّ جميع
احتياجاتها الماليّة.
وإذا أردنا أن نحسب أخماس
أرباح المكاسب في الدولة
الإسلاميّة أو العالَم
كلّه ـ إذا كان يدين
بالإسلام ـ لتبيّن لنا
أنّ هذه الأموال الطائلة
ليست لرفع حاجات سيّد أو
طالب علم، بل لأمرٍ أكبر
وأوسع من هذا،
لسدّ
احتياجات أمّة بأكملها.
وعندما تتحقّق دولة
إسلاميّة، فلا بُدّ لها
في تسيير شؤونها من
الاستعانة بأموال الخمس
والزكاة والجزية والخراج.
السادة، متى كانوا بحاجة
إلى مثل هذا المال؟ خُمس
سوق بغداد يكفي لاحتياجات
جميع السادة، ولجميع
نفقات المجامع العلميّة
الدينيّة، ولجميع فقراء
المسلمين، فضلاً عن أسواق
طهران وإسلامبول والقاهرة
وغيرها. فميزانيّة بمثل
هذه الضخامة إنّما تُراد
لتسيير أمّة كبرى،
ولإشباع الحاجات
الأساسيّة المهمّة للناس،
وللقيام بالخدمات العامّة
الصحيّة، والثقافيّة،
والتربويّة، والدفاعيّة،
والعمرانيّة.
والتنسيق الّذي فرضه
الإسلام في جمع وحفظ وصرف
الأموال يضمن السلامة من
الحيف والإجحاف بالخزانة
العامّة، فليست لرئيس
الدولة أو الموظّفين أو
أعضاء الحكومة أيّة
امتيازات قد يُساء
استغلالها، بل الناس في
خزانة الأمّة شرعٌ سواء.
هل نُلقي بهذه الثروة
الواسعة في البحر؟ أو
ندسّها في التراب حتّى
ظهور الحجّة عجل الله
تعالى فرجه الشريف؟8
أو نوزّعها على خمسين
هاشميّاً أو خمسمائة ألف
هاشميّ؟ وإذا دُفع إليهم
هذا المال أليس يُذهلهم
ويُحيّرهم؟ ألا نعلم أنّ
حقّ الهاشميّين في هذا
المال إنّما هو بمقدار ما
يحتاجون إلى إنفاقه بقصدٍ
واعتدال. كلّ ما في الأمر
أنّ الهاشميّين يتناولون
حاجتهم من الخمس دون
سواه، وقد ورد في الحديث
أنّ هؤلاء يُعيدون
إلى الإمام ما فضل عن
مؤونة سنتهم، كما أنّ
الإمام يُعينهم حين لا
يكون ما تناولوه من بيت
المال وافياً بمؤونة
سنتهم9.
وإذا نظرنا في الأموال
الّتي تُجبى من الجِزية
والخراج لوجدنا ثروة ضخمة
لا يُستهان بها، فعلى
الحاكم أو الوالي أن يفرض
على الذميّين من الجزية
ما يتناسب مع قدرتهم
الماليّة. وكذلك يفرض
الخراج على الأراضي
الخَراجيّة المستثمرة
بإشراف الدولة، ويكون
خراجها في بيت المال.
وهذا كلّه يستلزم تشكيل
دوائر خاصّة، وحسابات
دقيقة، وتدبير وتدوين،
وبُعد نظر، حتّى لا يكون
فوضى. كلّ ذلك يدلّ بوضوح
على ضرورة تشكيل حكومة،
لأنّه لا يُمكن لتلك
التشريعات الماليّة أن
تتحقّق عمليّاً إلاّ بعد
استكمال واستقرار
التشكيلات الحكوميّة.
ب ـ أحكام الدفاع:
ومن جهة أخرى نرى أنّ
أحكام الجهاد والدفاع عن
حياض المسلمين لضمان
استقلال وكرامة الأمّة،
تدلّ هي الأخرى على ضرورة
تشكيل هذه الحكومة.
حكم الإسلام بوجوب
الإعداد والاستعداد
والتأهّب التامّ حتّى في
وقت السلم بموجب قوله
تعالى:﴿وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدْوَّ الله
وَعَدُوَّكُمْ﴾10.
وإذا كان المسلمون
ملتزمين بمدلول هذه
الآية، ومستعدّين للقتال
تحت ِ كلّ الظروف، لم يكن
في ميسور حفنة من اليهود
احتلال أراضينا، وتخريب
مسجدنا الأقصى وإحراقه من
غير أن يُقابل ذلك بأيّة
مقاومة. وكلّ ذلك إنّما
تمّ كنتيجة حتميّة لتقاعس
المسلمين عن تنفيذ حكم
الله، ولتهاونهم في تشكيل
حكومة صالحة مخلصة. وإذا
كان حكّام المسلمين
الحاليّين يسعون في تطبيق
أحكام الإسلام، نابذين
كلّ خلافاتهم، وتاركين
شقاقهم وتفرّقهم، مكوّنين
من وحدتهم يداً واحدة على
من سواهم
11،
في هذه الحال لم يكن
باستطاعة شراذمة اليهود،
وصنايع أمريكا وبريطانيا
أن ينتهوا إلى ما انتهوا
إليه مهما أعانتهم أمريكا
وبريطانيا. فسبب ذلك يعود
بالطبع إلى عدم أهليّة
حكّام المسلمين ولياقتهم.
آية
﴿وَأَعِدُّواْ
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ...﴾
تأمر بالقوّة والاستعداد
والتأهّب الكامل، حتّى لا
يسومنا الأعداء سوء
العذاب، لكنّنا لم نتّحد
بل تحسبنا جميعاً وقلوبنا
شتّى، ولم نستعدّ، فتعدّى
الظالمون حدودهم وبغوا
علينا وظلمونا.
ج ـ أحكام الحدود
والديـّات والقصاص:
ولا يُمكن لهذه الأحكام
أن تُقام بدون سلطات
حكوميّة. فبواسطتها تُؤخذ
الديّة من الجاني، وتُدفع
إلى أهلها، وبواسطتها
تُقام الحدود، ويكون
القصاص تحت إشراف ونظر
الحاكم الشرعيّ.
ضرورة الثورة
السياسيـّة
في صدر الإسلام سعى
الأمويّون ومن يُسايرهم
لمنع استقرار حكومة
الإمام عليّ بن أبي طالب
عليه السلام مع أنّها
كانت مُرضية لله وللرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
وبمساعيهم البغيضة تغيّر
أسلوب الحكم ونظامه
وانحرف عن الإسلام. لأنّ
برامجهم كانت تُخالف وجهة
الإسلام في تعاليمه
تماماً. وجاء من بعدهم
العبّاسيّون، ونسجوا على
نفس المنوال. وتبدّلت
الخلافة، وتحوّلت إلى
سلطنة وملكيّة موروثة،
وأصبح الحكم يُشبه حكم
أكاسرة فارس، وأباطرة
الروم، وفراعنة مصر،
واستمرّ ذلك إلى يومنا
هذا.
الشرع والعقل يفرضان
علينا ألّا نترك الحكومات
وشأنها. والدلائل على ذلك
واضحة، فإنّ تمادي هذه
الحكومات في غيّها يعني
تعطيل نظام الإسلام
وأحكامه. في حين توجد
نصوص كثيرة تصف كلّ نظام
غير إسلاميّ بأنّه شرك،
والحاكم أو السلطة فيه
طاغوت12.
ونحن مسؤولون عن إزالة
آثار الشرك من مجتمعنا
المسلم، وإبعادها تماماً
عن حياتنا. وفي نفس الوقت
نحن مسؤولون عن تهيئة
الجوّ المناسب لتربية
وتنشئة جيل مؤمن فاضل
يُحطِّم عروش الطواغيت،
ويقضي على سلطاتهم غير
الشرعيّة، لأنّ الفساد
والانحراف
ينمو على أيديهم، وهذا
الفساد ينبغي إزالته
ومحوه وإنزال العقوبة
الصارمة بمسبّبيه. وقد
وصف الله في كتابه المجيد
فرعون
﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ﴾13.
وفي ظلِّ حُكمٍ فرعونيّ
يتحكّم في المجتمع
ويُفسده ولا يُصلحه، لا
يستطيع مؤمن يتّقي الله
أن يعيش ملتزماً ومحتفظاً
بإيمانه وهديه. وأمامه
سبيلان لا ثالث لهما:
إمّا أن يُقْسَرَ
14على
ارتكاب أعمال مُردية15،
أو يتمرّد على حُكم
الطاغوت ويُحاربه،
ويُحاول إزالته، أو
يُقلِّل من آثاره على
الأقل. ولا سبيل لنا إلّا
الثاني، لا سبيل لنا إلّا
أن نعمل على هدم الأنظمة
الفاسدة المفسدة،
ونُحطِّم زمر الخائنين
والجائرين من حكّام
الشعوب.
هذا واجب يُكلَّف به
المسلمون جميعاً أينما
كانوا، من أجل خلق ثورة
سياسيّة إسلاميّة ظافرة
منتصرة.
ضرورة الوحدة
الإسلاميـّة
ومن جهة أخرى فقد جزّأ
الاستعمار وطننا، وحوّل
المسلمين إلى شعوب. وعند
ظهور الدولة العثمانيّة
كدولة موحّدة سعى
المستعمرون إلى تفتيتها.
لقد تحالف الروس
والإنكليز وحلفاؤهم
وحاربوا
العثمانيّين، ثمّ تقاسموا
الغنائم كما تعلمون16.
ونحن لا ننكر أنّ أكثر
حكّام الدولة العثمانيّة
كانت تنقصهم الكفاءة
والجدارة والأهليّة،
وبعضهم كان مليئاً
بالفساد، وكثير منهم
كانوا يحكمون الناس
حُكماً مَلكيّاً مطلقاً.
ومع ذلك كان المستعمرون
يخشون أن يتسلّم بعض ذوي
الصلاح والأهليّة ـ من
الناس وبمعونة الناس ـ
منصّة قيادة الدولة
العثمانيّة على وحدتها
وقدرتها وقوّتها
وثرواتها، فيبدّد كلّ
آمال الاستعماريّين
وأحلامهم. لهذا السبب ما
لبثت الحرب العالميّة
الأولى أن انتهت حتّى
قسّموا البلاد إلى دويلات
كثيرة، وجعلوا على كلّ
دويلة منها عميلاً لهم،
ومع ذلك فقد خرج قسم من
هذه الدويلات بعد ذلك عن
قبضة الاستعمار وعملائه.
ونحن لا نملك الوسيلة إلى
توحيد الأمّة الإسلاميّة
وتحرير أراضيها من يد
المستعمرين، وإسقاط
الحكومات العميلة لهم،
إلّا أنّنا نسعى إلى
إقامة حكومتنا
الإسلاميّة، وهذه بدورها
سوف تتكلّل أعمالها
بالنجاح يوم تتمكّن من
تحطيم رؤوس الخيانة،
وتدمّر الأوثان والأصنام
البشريّة والطواغيت الّتي
تنشر الظلم والفساد في
الأرض.
تشكيل الحكومة إذن يرمي
إلى الاحتفاظ بوحدة
المسلمين بعد
تحقيقها، وقد ورد ذلك في
خطبة السيّدة فاطمة
الزهراء عليها السلام:
"... وطاعتنا نظاماً
للملّة، وإمامتنا أماناً
من الفرقة..."17.
ضرورة إنقاذ
المظلومين والمحرومين
وقد استعان المستعمرون
بعملاء لهم في بلادنا من
أجل تنفيذ مآربهم
الاقتصاديّة الجائرة. وقد
نتج عن ذلك وجود مئات
الملايين من الناس
جياعاً، ويفتقدون أبسط
الوسائل الصحيّة
والتعليميّة، وفي مقابلهم
أفراد ذوو ثراء فاحش
وفساد عريض. والجياع من
الناس في كفاحٍ مستمر من
أجل تحسين أوضاعهم،
وتخليص أنفسهم من وطأة
جور حكّامهم المعتدين،
ولكنّ الأقليّات الحاكمة
وأجهزتها الحكوميّة هي
الأخرى تسعى إلى إخماد
هذا الكفاح. أمّا نحن
فمكلّفون بإنقاذ
المحرومين والمظلومين.
نحن مأمورون بإعانة
المظلومين ومناوأة
الظالمين, كما ورد ذلك في
وصيّة أمير المؤمنين عليه
السلام لولديه:
"وكونا للظالم خصماً
وللمظلوم عوناً"18.
وعلماء الإسلام مكلّفون
بمناضلة المستغلِّين
الجشعين لئلّا يكون في
المجتمع سائلٌ محروم،
مقابل مرفّه جشع أصابه
بطر. أمير المؤمنين عليه
السلام يقول:
"أما والّذي
فلق الحبّة وبرأ النسمة،
لولا حضور الحاضر، وقيام
الحجّة بوجود الناصر، وما
أخذ الله على العلماء أن
لا يُقارّوا على كظّة
ظالم ولا سغب مظلوم،
لألقيت حبلها
على غاربها،
وسقيت آخرها بكأس أوّلها،
ولألفيتم دنياكم هذه أزهد
عندي من عفطة عنز"19.
كيف يسوغ لنا اليوم، أن
نسكت عن بضعة أشخاص من
المستغلِّين والأجانب
المسيطرين بقوّة السلاح،
وهم قد حرموا مئات
الملايين من الاستمتاع
بأقلّ قدر من مباهج
الحياة ونعمها. فواجب
العلماء وجميع المسلمين
أن يضعوا حدّاً لهذا
الظلم، وأن يسعوا من أجل
سعادة الملايين من الناس،
في تحطيم الحكومات
الجائرة وإزالتها، بتأسيس
حكومة إسلاميّة عاملة
مخلصة.
ضرورة تشكيل الحكومة في
الأحاديث
تقدّم ثبوت ذلك بضرورة
العقل والشرع، وبسيرة
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وبسيرة أمير
المؤمنين عليه السلام،
وبمفاد كثير من الآيات
والأحاديث.
وكمثال على ذلك، نذكر
رواية عن الإمام الرضا
عليه السلام:
"عبد الواحد
بن محمّد بن عبدوس
النيسابوري العطّار، قال:
حدّثني أبو الحسن عليّ بن
محمّد بن قتيبة
النيسابوريّ، قال: قال
أبو محمّد الفضل ابن
شاذان النيسابوريّ: إن
سأل سائل فقال: أخبرني هل
يجوز أن يكلّف الحكيم...
فكان من جواب الإمام عليه
السلام فإن قال قائل: ولم
جعل أولي الأمر، وأمر
بطاعتهم؟ قيل لعلل كثيرة،
منها أنّ الخلق لمّا
وقفوا على حدٍّ محدود،
وأُمروا أن لا يتعدّوا
تلك الحدود، لما فيه من
فسادهم، لم يكن يثبت ذلك،
ولا يقوم إلّا بأن يجعل
عليهم فيها أميناً يأخذ
بالوقف عندما أُبيح لهم،
ويمنعهم عن
التعدّي على
ما حظر عليهم، لأنّه لو
لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا
يترك لذّته ومنفعته لفساد
غيره ـ هكذا في النسخة،
والصحيح: لما كان أحدٌ
يترك لذّته ـ ومنها أنّا
لا نجد فرقة من الفرق،
ولا ملّة من الملل بقوا
وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس،
لما لا بُدّ لهم منه في
أمر الدِّين والدنيا. فلم
يجز في حكمة الحكيم أن
يترك الخلق لما يعلم أنّه
لا بُدّ لهم منه، ولا
قِوام لهم إلّا به،
فيُقاتلون به عدوّهم
ويُقسِّمون به فيئهم،
ويُقيمون به جمعهم
وجماعتهم، ويمنع ظالمهم
من مظلومهم. ومنها أنّه
لو لم يجعل لهم إماماً
قيّماً حافظاً مستودعاً,
لدرست الملّة، وذهب
الدِّين، وغُيّرت السنن
والأحكام، ولزاد فيه
المبتدعون، ونقّص منه
الملحدون، وشبّهوا ذلك
على المسلمين، إذ قد
وجدنا الخلق منقوصين
محتاجين غير كاملين مع
اختلافهم واختلاف أهوائهم
وتشتّت حالاتهم. فلو لم
يجعل قيّماً حافظاً لِما
جاء به الرسول الأوّل،
لفسدوا على نحو ما
بيّناه، وغُيّرت الشرائع
والسنن والأحكام
والإيمان، وكان في ذلك
فساد الخلق أجمعين"20.
فأنتم ترون أنّ الإمام
يستدلّ بوجوهٍ عدّة على
ضرورة وجود وليّ الأمر21
الّذي يقوم بحكومة الناس.
وتلك العلل الّتي ذكرها
موجودة في كلّ زمان،
ويترتّب على ذلك ضرورة
تشكيل الحكومة الإسلاميّة
في كلّ وقت. لأنّ التعدّي
عن حدود الله، والسعي
وراء اللذّة الشخصيّة،
ونشر الفساد في الأرض،
وهضم حقوق الضعفاء، كلّ
ذلك موجود في كلّ زمان،
وليس في زمان دون زمان،
فاقتضت الحكمة الإلهيّة
أن يعيش الناس بالعدل في
الحدود الّتي حدّها الله
لهم. وهذه الحكمة مستمرّة
وأبديّة. وعلى هذا فوجود
وليّ الأمر القائم على
النظم والقوانين
الإسلاميّة ضروريّ، لأنّه
يمنع الظلم والتجاوز
والفساد، ويتحمّل
الأمانة، ويهدي الناس إلى
صراط الحقّ، ويُبطل بدع
الملحدين والمعاندين. ألم
تكن خلافة أمير المؤمنين
عليه السلام قد انعقدت
لأجل هذا؟ تلك العلل
والضرورات الّتي جعلت
الإمام عليّاً عليه
السلام يتولّى الناس هي
الآن موجودة بفارقٍ واحد
هو أنّ الإمام منصوص عليه
بالذّات. بينما حُدّدت
شخصية الحاكم الشرعيّ في
أيّامنا هذه بتحديد
ماهيّته وصفاته ومؤهّلاته
تحديداً عامّاً.
فإذا أردنا تخليد أحكام
الشرع عمليّاً، ومنع
الظلم والاعتداء على حقوق
الضعفاء من الخلق ومنع
الفساد في الأرض، ومن أجل
تطبيق أحكام الشرع بشكلٍ
عادل، ومحاربة البدع
والضلالات الّتي تُقرّرها
المجالس النيابيّة ـ
البرلمانيّة ـ المزيّفة،
ومنع نفوذ وتدخّل الأعداء
في شؤون المسلمين، من أجل
ذلك كلّه لا بُدّ من
تشكيل الحكومة. لأنّ ذلك
كلّه ممّا تنهض بأعبائه
الحكومة بقيادة حاكم أمين
صالح، لا جور عنده، ولا
انحراف، ولا فساد.
وفي السابق لم نعمل، ولم
ننهض سويّاً لتشكيل حكومة
تُحطِّم الحكّام الخائنين
المفسدين، وبعضنا قد أبدى
فتوراً حتّى في المجال
النظريّ وتقاعس بعضنا عن
الدعوة إلى الإسلام ونشر
أحكامه، ولعلّ بعضنا قد
انشغل بالدعاء لهم،
ونتيجةً لكلّ ذلك وُجدت
هذه الأوضاع وقلّ نفوذ
حكم الإسلام في مجتمع
المسلمين، وابتُليت
الأمّة بالتجزئة والضعف
والانحلال، وتعطّلت أحكام
الإسلام، وتبدّلت الحال،
وانتهز المستعمرون ذلك
فرصةً سانحة فاستقدموا
قوانين أجنبيّة لم يُنزل
الله بها من سلطان،
ونشروا ثقافاتهم وأفكارهم
المسمومة وأذاعوها في
المسلمين. كلّ ذلك لأنّنا
فقدنا القائد القائم على
شؤون المسلمين، وفقدنا
تشكيلات الحكومة الصالحة.
وهذا من الواضحات.
|