خصائص نظام الحكم
الإسلاميّ
الحكومة الإسلاميّة لا
تُشبه الأشكال الحكوميّة
المعروفة. فليست هي حكومة
مطلقة1
يستبدّ فيها رئيس الدولة
برأيه، عابثاً بأموال
الناس ورقابهم. فالرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وأمير المؤمنين عليّ عليه
السلام وسائر الأئمّة ما
كانوا يملكون العبث
بأموال الناس ولا
برقابهم، فحكومة الإسلام
ليست مطلقة وإنّما هي
دستوريّة، ولكن لا
بالمعنى الدستوريّ
المتعارَف الّذي يتمثّل
في النظام البرلمانيّ أو
المجالس الشعبيّة، وإنّما
هي دستوريّة بمعنى أنّ
القائمين بالأمر يتقيّدون
بمجموعة
الشروط والقواعد المبيّنة
في القرآن والسنّة،
والّتي تتمثّل في وجوب
مراعاة النظام وتطبيق
أحكام الإسلام وقوانينه،
ومن هنا الحكومة
الإسلاميّة هي حكومة
القانون الإلهيّ. ويكمن
الفرق بين الحكومة
الإسلاميّة والحكومات
الدستوريّة الملكيّة منها
والجمهوريّة في أنّ
ممثّلي الشعب أو ممثّلي
الملك هم الّذين
يُقنِّنون ويُشرِّعون، في
حين تنحصر سلطة التشريع
بالله عزَّ وجلَّ، وليس
لأحدٍ أيّاً كان أن
يُشرِّع، وليس لأحدٍ أن
يحكم بما لم يُنزل الله
به من سلطان. لهذا السبب
فقد استبدل الإسلام
بالمجلس التشريعيّ2
مجلساً آخر للتخطيط، يعمل
على تنظيم سير الوزارات
في أعمالها وتقديم
خدماتها في جميع
المجالات.
وكلّ ما ورد في الكتاب
والسنّة مقبول، مطاع في
نظر المسلمين، وهذا
الانصياع يسهّل على
الدولة مسؤوليّاتها، في
حين أنّ الحكومات
الدستوريّة الملكيّة أو
الجمهوريّة إذا شرّعت
الأكثريّة فيها شيئاً،
فإنّ الحكومة بعد ذلك
تعمل على أن تحمل الناس
على الطاعة والامتثال
بالقوّة إذا لزم الأمر.
فحكومة الإسلام حكومة
القانون، والحاكم هو الله
وحده، وهو المشرِّع وحده
لا سواه، وحكم الله نافذٌ
في جميع الناس، وفي
الدولة نفسها. كلّ
الأفراد: الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم وخلفاؤه
وسائر الناس يتّبعون ما
شرّعه لهم الإسلام, الّذي
ينزل به الوحي ويبيّنه
الله في القرآن أو
على لسان الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم.
والرسول الكريم صلى الله
عليه وآله وسلم وقد
استخلفه الله في الأرض
ليحكم بين الناس بالحقّ
ولا يتّبع الهوى، قد
كلّمه الله وحياً, أن
يُبلِّغ ما أُنزل إليه
فيمن يخلفه في الناس3،
وبحكم هذا الأمر فقد
اتّبع ما أُمر به، وعيّن
أمير المؤمنين عليّاً
عليه السلام للخلافة، ولم
يكن مدفوعاً إلى ذلك بحكم
أنّه صهره، أو أنّ له
يداً لا تُنسى وخدمات
جليلة، بل لأنّ الله أمره
بذلك.
أجل، فالحكومة في الإسلام
تعني اتّباع القانون،
وتحكيمه. والسلطات
الموجودة عن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم
وولاة الأمر الشرعيّين من
بعده إنّما هي مستمدّة من
الله. وقد أمر الله
باتّباع النبيّ وأولي
الأمر من بعده:
﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ
﴾4.
فلا مجال للآراء والأهواء
في حكومة الإسلام وإنّما
النبيّ، والأئمّة، والناس
يتّبعون إرادة الله
وشريعته.
وحكومة الإسلام ليست
ملكيّة ولا شاهنشاهيّة5،
ولا امبراطوريّة، لأنّ
الإسلام منزّه عن التفريط
والاستهانة بأرواح الناس
وأموالهم بغير حقّ، ولذلك
لا يوجد في حكومة الإسلام
نظير ما يكثر وجوده عند
السلاطين والأباطرة من
قصور ضخمة، وخدم وحشم،
وبلاط ملكيّ،
وديوان
لوليّ العهد، وأمثال ذلك
من المستلزمات التافهة
الّتي تلتهم نصف أو
غالبيّة ثروة البلاد.
حياة الرسول الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم كانت
في منتهى البساطة كما
تعلمون، بالرغم من أنّه
كان يرأس الدولة
ويُسيّرها ويحكمها بنفسه.
واستمرّت هذه السيرة من
بعده إلى حدٍّ ما، إلى ما
قبل استيلاء الأمويّين
على السلطة.
وكانت حكومة عليّ بن أبي
طالب عليه السلام حكومة
إصلاح كما تعرفون، وكان
يعيش ببساطة تامّة، وهو
يُدير دولة مترامية
الأطراف، تكون فيها إيران
ومصر والحجاز واليمن
مجرّد ولايات وأقاليم
تابعة لحكمه. ولا أظنّ
أنّ أحداً من فقرائنا
يستطيع أن يُمارس أسلوب
العيش الّذي كان عليه
الإمام عليه السلام، فقد
نُقل أنّه عندما اقتنى
ثوبين أعطى أجودهما
لخادمه(قنبر)6
وارتدى الآخر، وإذا وجد
في ردائِهِ فضلاً قطعه7.
ولو كانت تلك السيرة
مستمرّة إلى الآن لعرف
الناس طعم السعادة، ولما
نُهبت خزائن البلاد
لتُصرف في الفحشاء
والمنكر، ومصارف ونفقات
البلاط. وأنتم تعلمون أنّ
أكثر مفاسد مجتمعنا يعود
سببها إلى فساد الأسرة
الحاكمة والعائلة
المالكة.
ما هي شرعيّة هؤلاء
الحكّام الّذين يُعمِّرون
بيوت اللهو والفساد
والفحشاء والمنكر
ويُخرِّبون بيوتاً
﴿أَذِنَ
اللهُ أَن تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
﴾؟
ولولا ما يُبذِّره
البلاط، وما يختلسه لما
دخل ميزانيّة البلاد أيّ
عجز يحمل الدولة على
الاستدانة من أمريكا
وانكلترا بما يُصاحب ذلك
من ذلٍّ ومهانة. فهل قلّ
نفطنا؟ أم هل نضبت
معادننا المذخورة تحت هذه
الأرض الطيّبة؟ نحن نملك
كلّ شيء، ولا نفتقر إلى
مساعدة من أمريكا وغيرها،
لولا نفقات البلاط
وإسرافه في أموال الشعب.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى
هناك دوائر في الدولة لا
حاجة إليها، وهي تستهلك
أموالاً وطاقات وورقاً
وأدوات، وذلك إسرافٌ
محرّم في شريعتنا، لأنّ
ذلك يزيد في مشاكل الناس،
ويأخذ عليهم وقتاً
وجهداً، ويستنزف منهم
أموالاً هم أحوج ما
يكونون إليها.
ففي الإسلام ـ أيّام حكمه
ـ كان يجري القضاء،
وتُقام الحدود،
والتعزيرات، ويُفصل في
النزاعات، ببساطة تامّة.
كان القاضي يكتفي ـ ليقوم
بكلِّ ذلك ـ ببضعة أشخاص،
يُضاف إلى ذلك قلم وقليل
من الحبر والورق، ومن
وراء ذلك كان يُوجِّه
الناس إلى العمل من أجل
حياة شريفة فاضلة.
أمّا الآن فالله يعلم عدد
دوائر العدل ودواوينها
وموظّفيها، وكلّها عقيمة
لا تُقدِّم للناس نفعاً
سوى ما تُسبِّبه لهم من
أتعاب ومصاعب، وتضييع
للأوقات والأموال،
وبالتّالي تضييع للقضايا
والحقوق.
شروط الحاكم
الإسلاميّ
والشروط الّتي ينبغي
توفّرها في الحاكم نابعة
من طبيعة الحكومة
الإسلاميّة. فإنّه بصرف
النظر عن الشروط العامّة
كالعقل والبلوغ
وحسن
التدبير، هناك شرطان
مهمّان، هما:
1 ـ العلم بالقانون
الإسلاميّ.
2 ـ العدالة.
1 ـ بما أنّ الحكومة
الإسلاميّة هي حكومة
القانون، كان لزاماً على
حاكم المسلمين أن يكون
عالماً بالقانون ـ كما
ورد ذلك في الحديث. وكلّ
من يشغل منصباً أو يقوم
بوظيفة معيّنة فإنّه يجب
عليه أن يعلم في حدود
اختصاصه وبمقدار حاجته،
والحاكم أعلم من كلّ من
عداه. وكأنّ أئمّتنا قد
أثبتوا جدارتهم بأمانة
الناس بما سبقوا إليه من
العلم8.
وما أخذه علماء الشيعة
على غيرهم من مؤاخذات،
إنّما يدور أكثر ذلك حول
المستوى العلميّ الّذي
بلغه أئمّتنا وقصّر عنه
سواهم9.
فالعلم بالقانون والعدالة
من أهمِّ أركان الإمامة.
وإذا كان الشخص يعلم
الكثير عن الطبيعة
وأسرارها ويُحسن كثيراً
من الفنون، ولكنّه يجهل
القانون، فليس علمه ذاك
مؤهِّلاً إيّاه للخلافة
ومقدِّماً إيّاه على غيره
ممّن يعلم القانون ويعمل
بالعدل. وقد أصبح من
المسلَّمات لدى المسلمين
من أوّل يومٍ وحتّى يومنا
هذا أنّ الحاكم أو
الخليفة ينبغي أن يتحلّى
بالعلم بالقانون، وعنده
ملكة العدالة مع سلامة
الاعتقاد
وحسن الأخلاق. وهذا ما
يقتضيه العقل السليم،
خاصّةً ونحن نعرف أنّ
الحكومة الإسلاميّة
تجسيدٌ عمليّ للقانون،
وليست ركوب هوى، فالجاهل
بالقوانين لا أهليّة فيه
للحكم، لأنّه إن كان
مقلِّداً في أحكامه، فلا
هيبة لحكومته وإن لم
يُقلِّد فإنّه يعجز عن
تنفيذ الأحكام مع فرض
جهله التّام بها.
ومن المسلّم به:
"الفقهاء حكّام على
الملوك"10.
وإذا كان السلاطين على
جانب من التديُّن فما
عليهم إلّا أن يصدروا في
أعمالهم وأحكامهم عن
الفقهاء، وفي هذه الحالة
فالحكّام الحقيقيّون هم
الفقهاء، ويكون السلاطين
مجرّد عمّال لهم.
وطبيعيّ أنّه ليس واجباً
على كلّ موظّف أيّاً كانت
وظيفته أن يُحيط علماً
بجميع القوانين، ويتفقّه
فيها، بل يكفيه أن يتبصّر
بما يهمّه منها في شغله
أو عمله أو المهمّة الّتي
عُهد بها إليه. بهذا جرت
السيرة على عهد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وعلى عهد أمير المؤمنين
عليه السلام، فالحاكم
الأعلى يُحيط بجميع
الأحكام الإسلاميّة،
ويكتفي المبعوثون
والمرسَلون والعمّال
والولاة بالعلم بما يتّصل
بمهمّتهم من أحكام
وتشريعات، ويرجعون فيما
لا يعلمون إلى مصادر
التشريع المرسومة لهم.
2 ـ وعلى الحاكم أن
يتحلّى بأقصى حدٍّ من
كمال العقيدة، وحسن
الأخلاق مع العدل
والنزاهة من الآثام. لأنّ
من يتصدّى لإقامة الحدود
وإنفاذ الحقوق، ويُنظِّم
موارد بيت المال ومصارفه،
لا
ينبغي
أن يكون ظالماً، لأنّ
الله تعالى يقول في كتابه
العزيز:
﴿لاَ يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ
﴾11.
فالحاكم إذا لم يكن
عادلاً فإنّه لا يؤمَن أن
يخون الأمانة، ويحمل نفسه
وذويه وآله على رقاب
الناس.
فرأي الشيعة فيمن يحقّ له
أن يلي الناس معروف منذ
وفاة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وحتّى
زمان الغيبة، فالإمام
عندهم فاضل عالِم
بالأحكام والقوانين،
وعادل في إنفاذها، لا
تأخذه في الله لومة لائم.
الحاكم في زمن الغيبة
وإذا كنّا نعتقد أنّ
الأحكام الّتي تخصّ بناء
الحكومة الإسلاميّة لا
تزال مستمرّة، وأنّ
الشريعة تنبذ الفوضى، كان
لزاماً علينا تشكيل
الحكومة. والعقل يحكم
بضرورة ذلك، خاصّةً فيما
إذا دهمنا عدوّ، أو اعتدى
علينا معتدٍ لا بُدّ من
جهاده ودفعه. وقد أمر
الشرع بأن نُعدّ لهم ما
استطعنا من قوّة نُرهب
بها عدوّ الله وعدوّنا،
ويُشجّعنا على أن نردّ من
اعتدى علينا بمثل ما
اعتدى علينا، وكذلك يدعو
الإسلام إلى إنصاف
المظلوم واستخلاص حقّه،
وردع الظالم. وكلّ ذلك
يحتاج إلى أجهزة قويّة.
وأمّا نفقات الحكومة
الّتي يُراد تشكيلها من
أجل خدمة الشعب ـ مجموع
الشعب ـ فمن بيت المال
الّذي تكون موارده من
الخراج والخمس والزكاة
وغيرها.
واليوم ـ في عهد الغيبة ـ
لا يوجد نصّ على شخصٍ
معيّن يُدير شؤون
الدولة، فما هو الرأي؟ هل
نترك أحكام الإسلام
معطّلة؟ أم نرغب بأنفسنا
عن الإسلام؟ أم نقول إنّ
الإسلام جاء ليحكم الناس
قرنين من الزمان فحسب
ليُهملهم بعد ذلك؟ أو
نقول إنّ الإسلام قد أهمل
أمور تنظيم الدولة؟ ونحن
نعلم أنّ عدم وجود
الحكومة يعني ضياع ثغور
المسلمين وانتهاكها،
ويعني تخاذلنا عن حقّنا
وعن أرضنا. هل يُسمح بذلك
في ديننا؟ أليست الحكومة
ضرورة من ضرورات الحياة؟
وبالرغم من عدم وجود نصٍّ
على شخص من ينوب عن
الإمام عليه السلام حال
غيبته، إلّا أنّ خصائص
الحاكم الشرعيّ لا يزال
يُعتبر توفّرها في أيّ
شخص مؤهّلاً إيّاه ليحكم
في الناس، وهذه الخصائص
الّتي هي عبارة عن: العلم
بالقانون، والعدالة،
موجودة في معظم فقهائنا
في هذا العصر، فإذا
أجمعوا أمرهم كان لدى
ميسورهم إيجاد وتكوين
حكومة عادلة عالميّة
منقطعة النظير.
ولاية الفقيه
وإذا نهض بأمر تشكيل
الحكومة فقيه عالِم عادل،
فإنّه يلي من أمور
المجتمع ما كان يليه
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم منهم، ووجب على
الناس أن يسمعوا له
ويُطيعوا. ويملك هذا
الحاكم من أمر الإدارة
والرعاية والسياسة للناس
ما كان يملكه الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم
وأمير المؤمنين عليه
السلام على ما يمتاز به
الرسول والإمام من فضائل
ومناقب خاصّة. لأنّ
فضائلهم لم تكن تُخوِّلهم
أن يُخالفوا تعاليم
الشرع، أو يتحكّموا في
الناس بعيداً عن أمر
الله. وقد فوّض الله
الحكومة الإسلاميّة
الفعليّة المفروض تشكيلها
في
زمن الغيبة نفس ما فوّضه
إلى النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم وأمير المؤمنين
عليه السلام من أمر الحكم
والقضاء والفصل في
المنازعات، وتعيين الولاة
والعمّال، وجباية الخراج،
وتعمير البلاد، غاية
الأمر أنّ تعيين شخص
الحاكم الآن مرهون بمن
جمع في نفسه العلم
والعدل.
الولاية الاعتباريـّة
ولا ينبغي أن يُساء فهم
ما تقدّم فيتصوّر أحد أنّ
أهليّة الفقيه للولاية
ترفعه إلى منزلة النبوّة
أو إلى منزلة الأئمّة
لأنّ كلامنا هنا لا يدور
حول المنزلة والمرتبة،
وإنّما يدور حول الوظيفة
العمليّة. فالولاية تعني
حكومة الناس، وإدارة
الدولة، وتنفيذ أحكام
الشرع، وهذه مهمّة شاقّة،
ينوء بها من هو أهلٌ لها
من غير أن ترفعه فوق
مستوى البشر. وبعبارةٍ
أخرى فالولاية تعني
الحكومة والإدارة وسياسة
البلاد، وليست ـ كما
يتصوّر البعض ـ امتيازاً
أو محاباة أو أثرة، بل هي
وظيفة عمليّة ذات خطورة
بالغة.
ولاية الفقيه أمرٌ
اعتباريّ12
جعله الشرع، كما يعتبر
الشرع واحداً منّا قيّماً
على الصغار، فالقيّم على
شعب بأسره لا تختلف
مهمّته عن القيّم على
الصغار إلّا من ناحية
الكمّية. وإذا فرضنا
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم أو الإمام عليه
السلام قيّماً13على
صغار فإنّ مهمتهما في هذا
المجال لا تختلف كمّاً
ولا كيفاً عن أيّ فرد
عاديّ آخر إذا عُيّن
للقيمومة على نفس أولئك
الصغار. وكذلك قيمومتهما
على الأمّة بأسرها من
الناحية العمليّة لا
تختلف عن قيمومة أيّ فقيه
عالم عادل في زمن الغيبة.
وإذا فُرض فقيه عادل
متمكّناً من إقامة
الحدود، فهل يُقيمها على
غير الوجه الّذي كانت
تُقام عليه أيّام الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وعلى عهد الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام هل
كان النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم يجلد الزاني
غير المحصن أكثر من مائة
جلدة؟ وهل على الفقيه أن
يُنقص منها مقداراً، كي
يثبت تفاوت بينه وبين
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم؟ كلّا! لأنّ
الحاكم ـ نبيّاً كان أم
إماماً أم فقيهاً عادلاً
ـ ليس إلّا منفّداً لأمر
الله وحكمه.
والرسول صلى الله عليه
وآله وسلم كان يجبي
الضرائب: الخمس والزكاة
والجزية والخراج. هل هناك
تفاوت بين ما يُجبيه
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم وما يُجبيه
الإمام عليه السلام أو
فقيه العصر؟
فالله جعل الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم
وليّاً للمؤمنين جميعاً،
وتشمل ولايته حتّى الفرد
الّذي سيخلفه، ومن بعده
كان الإمام عليه السلام
وليّاً، ومعنى ولايتهما
أنّ أوامرهما الشرعيّة
نافذة في الجميع، وإليهما
يرجع تعيين القضاة
والولاة، ومراقبتهم
وعزلهم إذا اقتضى الأمر.
نفس هذه الولاية
والحاكميّة موجودة لدى
الفقيه، بفارقٍ واحد هو
أنّ ولاية الفقيه على
الفقهاء الآخرين لا تكون
بحيث يستطيع عزلهم أو
نصبهم، لأنّ الفقهاء في
الولاية متساوون من ناحية
الأهليّة.
بعد هذا، ينبغي للفقهاء
أن يعملوا فرادى أو
مجتمعين من أجل إقامة
حكومة شرعيّة، تعمل على
إقامة الحدود، وحفظ
الثغور وإقرار النظام.
وإذا كانت الأهليّة لذلك
منحصرة في فرد، كان ذلك
عليه واجباً عينيّاً14،
وإلّا فالواجب كفائيّ.
وفي حالة عدم إمكان تشكيل
تلك الحكومة، فالولاية لا
تسقط، لأنّ الفقهاء قد
ولاّهم الله، فيجب على
الفقيه أن يعمل بموجب
ولايته قدر المستطاع،
فعليه أن يأخذ الزكاة
والخمس والخراج والجزية
إن استطاع، ليُنفق كلّ
ذلك في مصالح المسلمين،
وعليه إن استطاع أن يُقيم
حدود الله. وليس العجز
المؤقّت عن تشكيل الحكومة
القويّة المتكاملة يعني
بأيّ وجهٍ أن ننزوي بل
إنّ التصدّي لحوائج
المسلمين، وتطبيق ما
تيسّر تطبيقه فيهم من
الأحكام، كلّ ذلك واجب
بالقدر المستطاع.
الولاية التكوينيـّة
وثبوت الولاية والحاكميّة
للإمام عليه السلام لا
تعني تجرُّده عن منزلته
الّتي هي له عند الله،
ولا تجعله مثل من عداه من
الحكّام. فإنّ للإمام
مقاماً محموداً ودرجة
سامية، وخلافةً تكوينيّة
تخضع لولايتها وسيطرتها
جميع ذرّات هذا الكون.
وإنّ من ضروريّات مذهبنا
أنّ لأئمّتنا مقاماً لا
يبلغه ملكٌ مقرّب، ولا
نبيٌّ مرسل.
وبموجب ما لدينا من
الروايات والأحاديث فإنّ
الرسول الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم والأئمّة
عليهم السلام كانوا قبل
هذا العالَم أنواراً
فجعلهم الله بعرشه
محدقين، وجعل لهم من
المنزلة والزلفى ما لا
يعلمه إلّا الله15.
وقد قال جبرئيل ـ كما ورد
في روايات المعراج ـ:
"لو دنوت أنملة لاحترقت"16.
وقد ورد عنهم عليهم
السلام: "إنّ لنا مع
الله حالات لا يسعها ملكٌ
مقرّب ولا نبيٌّ مرسل"17.
ومثل هذه المنزلة موجودة
لفاطمة الزهراء18عليها
السلام لا بمعنى أنّها
خليفة أو حاكمة أو قاضية،
فهذه المنزلة شيء آخر
وراء الولاية والخلافة
والإمرة، وحين نقول: إنّ
فاطمة عليها السلام لم
تكن قاضية أو حاكمة أو
خليفة فليس يعني ذلك
تجرّدها عن تلك المنزلة
المقرّبة، كما لا يعني
ذلك أنّها امرأة عاديّة
من أمثال ما عندنا.
وإذا قال قائل: النبيّ
أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فقد أقرّ له
بمرتبة هي فوق كونه
وليّاً أو حاكماً على
المؤمنين. ونحن لا نعارض
في هذا، بل نُؤيّده، وإن
كان ذلك ممّا استأثره
الله بعلمه.
الحكومة الإسلاميـّة
وسيلة لتحقيق الأهداف
السامية
والقيام بشؤون الدولة لا
يُكسب القائمين بالأمر
مزيد شأنٍ ورفعة، لأنّ
الحكومة وسيلة لتنفيذ
الأحكام وإقرار النظام
الإسلاميّ العادل،
وتتجرّد الحكومة عن أيّة
قيمة إذا اعتُبرت هدفاً
مقصوداً يُطلب لذاته.
أمير المؤمنين عليه
السلام قال ذات مرّة لابن
عباس ـ وقد كان بيد
الإمام عليه السلام نعل
يخصفه ـ: ما قيمة هذه
النعل؟
قال ابن عباس19: لا قيمة
لها.
قال الإمام عليه السلام:
"والله لهي أحبّ إليّ من
إمرتكم إلّا أن أُقيم
حقّاً أو أدفع باطلاً"20.
والإمام عليه السلام غير
مُتهافت على الإمرة ولا
مشغوف بها، وهو الّذي
يقول: "أما والّذي فلق
الحبّة وبرأ النسمة، لولا
حضور الحاضر، وقيام
الحجّة بوجود الناصر، وما
أخذ الله على العلماء أنْ
لا يُقارّوا
على كظّة ظالم ولا سغب
مظلوم، لألقيت حبلها على
غاربها، وسقيت آخرها بكأس
أوّلها، ولألفيتم دنياكم
هذه أزهد عندي من عفطة
عنز"21.
فالحكم ليس غاية في نفسه،
وإنّما هو وسيلة تكون له
قيمة ما دامت غايته
نبيلة، فإذا طُلب
باعتباره غاية واتُّخذت
لنيله جميع الوسائل، فقد
تدنّى إلى درك الجريمة،
وأصبح طلّابه في عداد
المجرمين.
ولم تسنح الفرص لأئمّتنا
للأخذ بزمام الأمور،
وكانوا بانتظارها حتّى
آخر لحظة من الحياة، فعلى
الفقهاء العدول أن
يتحيّنوا هم الفرص
وينتهزوها من أجل تنظيم
وتشكيل حكومة رشيدة,
يُراد بها تنفيذ أمر
الله، وإقرار النظام
العادل، وإن كان ذلك
يُحمّلهم جهوداً ومساعي
غير يسيرة، ولا عذر يُقبل
في ذلك، لأنّ نفس تولّي
الفقيه لأمور الناس
بالقدر المستطاع، يُمثِّل
بدوره انصياعاً لأمر
الله، وأداءً للوظيفة
الشرعيّة الواجبة.
وللاستدلال على أنّ
الحكومة وسيلة ليست هدفاً
نذكر ما قاله أمير
المؤمنين عليه السلام في
خطبة له خطبها في مسجد
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم بعد بيعة الناس
له: "اللّهمّ إنّك تعلم
أنّه لم يكن الّذي كان
منّا منافسة في سلطان،
ولا التماس شيء من فضول
الحطام، ولكن لنردّ
المعالم من دينك، ونُظهر
الإصلاح في
بلادك،
فيأمن المظلومون من
عبادك، وتُقام المعطّلة
من حدودك"22.
صفات الحاكم الّذي
يـُحقِّق هذه الأهداف
وفي نفس خطبته هذه يُشير
إلى الصّفات الّتي ينبغي
توفّرها في الحاكم الّذي
يُريد تحقيق الأهداف
السامية الّتي سبق أن
ذكرها الإمام عليه السلام
في خطبته، فهو يقول:
"اللّهمّ إنّي أوّل من
أناب وسمع وأجاب، لم
يسبقني إلّا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
بالصلاة. وقد علمتم أنّه
لا ينبغي أن يكون الوالي
على الفروج، والدماء،
والمغانم، والأحكام،
وإمامة المسلمين، البخيل
فتكون في أموالهم نهمته،
ولا الجاهل فيُضلّهم
بجهله، ولا الجافي
فيقطعهم بجفائه، ولا
الحائف للدول فيتّخذ
قوماً دون قوم، ولا
المرتشي في الحكم فيذهب
بالحقوق ويقف بها دون
المقاطع، ولا المعطِّل
للسنّة فيُهلك الأمّة"23.
وهذا يدور ـ كما ترون ـ
حول علم الحاكم وعدالته،
وهما شرطان ينبغي وجودهما
في الحاكم الإسلاميّ، فهو
يُشير بقوله: ولا الجاهل
فيُضلّهم بجهله إلى الشرط
الأوّل، وبباقي الحديث
إلى العدالة الّتي تعني
أن يكون الحاكم في حكمه
وعلاقاته، وعشرته للناس
آخذاً بسيرة أمير
المؤمنين
عليه السلام وبما ورد عنه
في عهده الّذي عهد به إلى
مالك الأشتر24 واليه على
مصر، ويُمكننا أن نرى في
عهده هذا عهداً إلى جميع
الولاة والعمّال والحكّام
والفقهاء في كلّ عصر
ومصر.
ولاية الفقيه في الأحاديث
الإسلاميـّة
قال أمير المؤمنين عليّ
عليه السلام: "قال رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم: اللّهمّ ارحم
خلفائي، ـ ثلاث مرات ـ
قيل: يا رسول الله، ومن
خلفاؤك؟ قال: الّذين
يأتون من بعدي، يروون
حديثي، وسنّتي،
فيعلّمونها الناس من
بعدي"25.
يذكر الشيخ الصدوق26 رحمه
الله هذه الرواية في جامع
الأخبار27 ، وعيون أخبار
الرضا28 ، والمجالس29 في خمسة
أسناد، أو أربعة على
أقلِّ
تقدير بسبب الاشتراك في
أسماء راويين في طريقين
من هذه الطرق. وإذ تُذكر
هذه الرواية مرسلة30 فهي
تخلو من جملة "فيعلّمونها
الناس من بعدي" وإذ تُذكر
مسندة31 بعدّة أسناد ففي
بعضها جملة "فيُعلّمونها
الناس" وفي البعض الآخر
"فيُعلّمونها"32 فقط.
وحديثنا حول هذا الحديث
سيدور حول افتراضين:
1ـ لنفرض أنّ هذا من
أخبار الآحاد، وقد زيدت
فيه جملة "فيعلّمونها..."
أو كانت موجودة وسقطت ـ
وهذا الاحتمال أقرب إلى
الواقع ـ لأنّنا لا
يُمكننا اتهام الرواة،
لأنّهم ثلاثة لا تربط
بينهم أيّة روابط وكان
أحدهم يسكن بلخ والآخر من
نيشابور، والثالث من مرو،
ومن البعيد جدّاً أن
يتواطأ هؤلاء ـ على ما
بينهم من البعد وعدم
التعارف ـ على زيادة هذه
الجملة ـ إذن، نحن
يُمكننا أن نقطع بأنّ
جملة "فيعلّمونها..." في
الرواية المنقولة بطريق
الصدوق، قد سقطت من قلم
النسّاخ، أو أنّ الصدوق
قد نسيها.
2 ـ نفرض أنّ هناك
روايتين، إحداهما تخلو من
جملة "فيعلّمونها"
والأخرى تشتمل عليها.
ولنفرض أنّ هذه الجملة
موجودة، فالحديث لا يشمل
ـ قطعاً ـ أولئك الذين
يكون شغلهم الشاغل
نقل الحديث فقط، من
دون إمعان، ونظر، واجتهاد
واستنباط وقدرة على
التوصّل إلى الحكم
الواقعيّ، فلا يُمكننا أن
نصف أمثال هؤلاء الرواة
بأهليّتهم للخلافة ما
داموا مجرّد نقلة للحديث
أو كتبة له، يسمعون
الرواية فينقلونها إلى
الناس، هذا مع اعترافنا
بقيمة خدمتهم الّتي
يُقدِّمونها للإسلام،
فمجرّد نقل الأحاديث
وروايتها ليس أمراً
يُؤهِّل الناقل أو الراوي
لخلافة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، لأنّ بعض
الرواة والمحدِّثين قد
يكون مصداقاً لعبارة
"رُبَّ حامل فقه غير
فقيه"33.
وهذا لا يعني أنّه لا
يوجد في المحدِّثين
والرواة أيّ فقيه، فما
أكثر المحدِّثين الفقهاء
كالكلينيّ34، والشيخ
الصدوق وأبيه35 ، فإنّهم
كانوا فقهاء يُعلِّمون
الناس. وحين نُفرِّق بين
الشيخ الصدوق والشيخ
المفيد36 ، لا نقصد أنّ
الشيخ الصدوق ليس بفقيه،
أو أنّه أقلّ فقاهة
من المفيد، كيف وقد نُقل
عن الشيخ الصدوق أنّه
بيّن الأصول والفروع
المذهبيّة في مجلسٍ واحد37.
لكنّ الفرق بينهما أنّ
الشيخ المفيد أكثر
اجتهاداً في الاستنباط،
وأشدّ إمعاناً ودقّة نظر
في الروايات.
فالحديث يُقصد به أولئك
الّذين يسعون في نشر علوم
الإسلام وأحكامه،
ويُعلِّمونها الناس، كما
كان الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم والأئمّة عليهم
السلام يُعلِّمون،
وينشرون ويتخرّج على
أيديهم الألوف من
العلماء. وإذا قلنا: إنّ
الإسلام دين العالَم ـ
وهذا واضح وبديهيّ ـ كان
لزاماً على علماء الإسلام
أن ينشروا ويبثّوا
ويُذيعوا أحكام هذا الدين
في العالَم كلّه.
ولنفرض أنّ جملة
"يُعلّمونها الناس..."
ليست من ضمن الحديث
فلننظر ماذا يعني قوله
صلى الله عليه وآله وسلم:
"اللّهمّ ارحم خلفائي...
الّذين يأتون من بعدي
ويروون حديثي وسنّتي"38 ؟
وفي هذا الغرض، فالحديث
أيضاً لا يعني الرواة من
غير ذوي الفقه، لأنّ سنّة
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم هي سنّة الله،
ومن أراد نشرها فعليه
الإحاطة بجميع الأحكام
الإلهيّة، مميّزاً بين
الأحاديث صحيحها وغير
صحيحها، ويطّلع على
العامّ والخاصّ، والمطلق
والمقيّد، ويجمع بينها
جمعاً عرفيّاً عقلائيّاً،
ويعرف الروايات الصادرة
في ظروف التقيّة الّتي
كانت تُفرض على الأئمّة
عليهم السلام بحيث كانت
تمنعهم من إظهار الحكم
الواقعيّ
في تلك الحالات.
فالمحدِّث الّذي لم يبلغ
مرتبة الاجتهاد، وهو
مكتفٍ بنقل الحديث لا
يستطيع التوصّل إلى حقيقة
السنّة، وهو في نظر
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم غير ذي بال.
ومن المعلوم أنّ الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
ما كان يُريد للناس أن
يكتفوا بـ"قال رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم" أو "عن رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم" بغضّ النظر
حتّى عن طريق الرواية
وسندها، وإنّما كان يُريد
أن تُنشر السنّة على
حقيقتها.
ورواية "من حفظ على أمّتي
أربعين حديثاً من أمر
دينها بعثه الله يوم
القيامة فقيهاً"39
وغيرها
من الروايات الّتي
تُمجِّد من يسعى في نشر
الأحاديث، لا تعني
المحدِّث الّذي لا يفقه
ما ينقل، ولعلّه ينقل إلى
من هو أفقه منه، وإنّما
تعني من يؤدّي إلى الناس
أحكام الإسلام الواقعيّة،
ويستنبطها من مصادرها على
الموازين الّتي رسمها له
الإسلام نفسه، والأئمّة
أنفسهم. هؤلاء المجتهدون
هم خلفاء رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
يستحقّون أنْ يدعو الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
لهم بالرحمة من عند الله.
فلا شكّ إذن أنّ رواية: "اللّهمّ ارحم
خلفائي..." لا علاقة
لها بنقَلة الحديث ورواته
المجرّدين عن الفقه، لأنّ
كتابة الحديث وحدها لا
تُؤهّل الشخص لخلافة
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم، بل المقصود هم
فقهاء الإسلام الّذين
يبسطون تعاليم الإسلام
وآدابه، والّذين يجمعون
إلى فقههم وعلمهم ـ
العدالة والاستقامة في
الدِّين.
الفقيه يُميّز بين الرجال
الّذين يصحّ الأخذ عنهم،
وبين من لا يصحّ الأخذ
عنهم. ففي الرواة من
يفتري على لسان النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
أحاديث لم يقلها. ولعلّ
راوياً كسمرة بن جندب40
يفتري أحاديث تمسّ من
كرامة أمير المؤمنين عليّ
عليه السلام، ولعلّ
راوياً لا يمتنع أن يروي
آلاف الأحاديث في فضل
الحكّام الجائرين وحسن
سلوكهم عن طريق أعوان
الظلَمة وعلماء البلاط،
تمجيداً بالسلاطين،
وتزكيةً لأعمالهم.
ومثل هذا ـ كما ترون ـ
واقع الآن. وما أدري
لماذا يتمسّك بعض الناس
بروايتين ضعيفتين في
مقابل القرآن الّذي أمر
الله فيه موسى بالنهوض في
وجه فرعون41، وهو أحد
الملوك، وفي مقابل كلِّ
ما ورد من الأحاديث
الكثيرة الآمرة بمحاربة
الظالمين ومقاومتهم42
فالكسالى من الناس هم
الّذين يطرحون كلّ ذلك
جانباً ليتمسّكوا
بروايتين ضعيفتين تُزكّي
الملوك وتُبرِّر التعاون
معهم، ولو كان هؤلاء
متديّنين لرووا إلى جانب
تلك الروايتين
الضعيفتين
مجموعة من الروايات
المناهضة للظلمة
وأعوانهم.
مثل هؤلاء الرواة لا
عدالة لهم، لما بدر منهم
من انحياز إلى أعداء
الله، وابتعادهم عن
تعاليم القرآن والسنّة
الصحيحة. بطنتهم دعتهم
إلى ذلك لا العلم، وفي
البطنة وفي حبّ الجاه ما
يدعو إلى السير في ركاب
الجائرين.
إذن، فنشر أحكام الإسلام
وعلومه مهمّة يقوم بها
الفقهاء العدول الّذين في
ميسورهم التمييز بين
الحقّ والباطل، ويعرفون
ظروف التقيّة الّتي كان
يعيشها الأئمّة عليهم
السلام، هذه التقيّة
الّتي كانت تُتّخذ لحفظ
المذهب من الاندراس، لا
لحفظ النفس خاصّة.
ولا مجال للشكّ في دلالة
الرواية على ولاية الفقيه
وخلافته في جميع الشؤون.
والخلافة الواردة في جملة
"اللّهمّ ارحم خلفائي، لا
يختلف مفهومها في شيء عن
الخلافة الّتي تُستعمل في
جملة عليّ خليفتي".
وجملة "الّذين يأتون من
بعدي ويروون حديثي"
تُبيّن شخصيّة الخليفة،
وليس فيها توضيح لمعنى
الخلافة، لأنّ الخلافة
كانت في صدر الإسلام من
المفاهيم الواضحة، وهي
واضحة حتّى عند السائل
الّذي لم يسأل النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم عن
معنى الخليفة أو الخلافة،
وإنّما سأله بقوله: ومن
خلفاؤك؟
ولم يكن أحدٌ يُفسِّر
منصب الخلافة على عهد
أمير المؤمنين عليه
السلام وبالنسبة إلى
الأئمّة عليهم السلام من
بعده بأنّه منصب الإفتاء
فقط، وإنّما
فسّر
المسلمون هذا المنصب
بأنّه الولاية والحكومة،
وتنفيذ أمر الله،
واستدلّوا على ذلك بما
يطول ذكره. ولكن لماذا
يتوقّف بعضنا في معنى
جملة "اللّهمّ ارحم
خلفائي"؟
لماذا يظنّ هذا البعض أنّ
خلافة الرسول محدودة
بشخصٍ معيّن؟ وبما أنّ
الأئمّة عليهم السلام
كانوا هم خلفاء الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم،
فليس لغيرهم من العلماء
أن يحكم الناس ويسوسهم،
وليبق المسلمون بلا حاكم
شرعيّ، ولتبق أحكام
الإسلام معطّلة، وثغوره
مفتوحة للأعداء. هذا
الظنّ وهذا الموقف بعيد
عن الإسلام، لأنّه انحراف
في التفكير يبرأ الإسلام
منه.
الفقهاء حصون الإسلام
محمّد بن يحيى، عن أحمد
بن محمّد، عن ابن محبوب،
عن عليّ بن أبي حمزة قال:
سمعت أبا الحسن موسى بن
جعفر عليه السلام يقول:
"إذا مات المؤمن بكت
عليه الملائكة، وبقاع
الأرض الّتي كان يعبد
الله عليها، وأبواب
السماء الّتي كان يصعد
فيها بأعماله، وثلم في
الإسلام ثلمة لا يسدّها
شيء، لأنّ المؤمنين
الفقهاء حصون الإسلام
كحصن سور المدينة لها"43.
في نفس الباب من كتاب
الكافي رواية أخرى ورد
فيها: "إذا مات المؤمن
الفقيه..."44.
في حين يخلو صدر الرواية
الأولى من كلمة الفقيه،
لكن يُستفاد من ذيل
روايتنا السابقة الّتي
ورد فيها: "لأن
المؤمنين الفقهاء..."
أنّ كلمة الفقيه سقطت من
صدر الرواية، لأنّها
تتناسب وقوله: "ثلم في
الإسلام" وقوله
"حصن" وأمثالها من
كلّ ما يتناسب وشأن
الفقهاء المؤمنين.
مفهوم الحديث
قوله عليه السلام:
"لأنّ المؤمنين الفقهاء
حصون الإسلام...".
تكليف للفقهاء أن يحفظوا
الإسلام بعقائده وأحكامه
وأنظمته، وليس هذا
التعبير صادراً من الإمام
ثناءً أو إطراء أو على
سبيل المجاملة المتعارفة
فيما بيننا حينما أقول لك
حجّة الإسلام، وتقول لي
مثل ذلك.
وإذا اعتزل الفقيه الناس
وأمورهم، وقبع في زاويةٍ
من داره، ولم يُحافظ على
قوانين الإسلام، ولم
ينشرها، ولم يعمل في
إصلاح شؤون المجتمع، ولم
يهتم بالمسلمين، فهل
يُمكن اعتباره حصناً
للإسلام أو سوراً له؟
إذا أرسل رئيس الحكومة
شخصاً إلى ناحية صغيرة
وأمره أن يحفظها ويرعاها،
فهل يسمح له واجبه أن
يُغلق عليه أبواب داره،
ليرتع العدوّ، ويعيث في
تلك الناحية فساداً، أم
أنّ وظيفته تحمله على أن
يبذل كلّ ما بوسعه في
سبيل حفظ ورعاية ما ولّي
عليه؟
إذا قُلتم: نحن نحتفظ
ببعض الأحكام فأنا أتوجّه
إليكم بهذا
السؤال:
ـ هل تُقيمون الحدود،
وتُنفّذون قانون العقوبات
في الإسلام؟
ـ لا!
فأنتم هنا قد أحدثتم
صدعاً في بناء الإسلام،
كان يجب عليكم رأبه
ورتقه، أو منع حدوثه من
أوّل الأمر.
ـ هل تُدافعون عن الثغور،
وتُحافظون على سلامة أرض
الإسلام واستقلالها؟
ـ لا! نحن ندعو الله أن
يفعل ذلك.
وهنا قد انهار جانب آخر
من البناء إلى جانب ما
انهار سابقاً.
ـ هل تجمعون حقوق الفقراء
الّتي فرضها الله في
أموال الأغنياء
وتُؤدّونها إلى أصحابها
تنفيذاً لما أُمرتم به في
ذلك؟
ـ لا! ذلك ليس من شأننا.
إن شاء الله يتحقّق ذلك
على يد غيرنا.
ماذا بقي من البناء؟ لقد
أوشك البناء كلّه على
الخراب، مثلكم في ذلك
كمثل شاه سلطان حسين45
وأصفهان.
أيّ حصن للإسلام أنتم؟ ما
يكاد يُعهد إلى أحدكم
بحفظ جانب إلّا اعتذر
منه! هل المراد من حصن
الإسلام هو هذا الّذي
أنتم عليه؟!
فقوله عليه السلام:
"الفقهاء حصون الإسلام"
يعني أنّهم مكلّفون بحفظ
الإسلام بكلّ ما
يستطيعون.
وحفظ الإسلام من أهمّ
الواجبات المطلقة بلا
قيدٍ ولا شرط46.
وهذا ممّا يجب على
المجامع والهيئات
العلميّة الدينيّة أن
تُفكّر في شأنه طويلاً,
لتُجهّز نفسها بأجهزةٍ
وإمكانات وظروف يُحرس
فيها الإسلام ويُصان
ويُحفظ: أحكاماً وعقائداً
وأنظمة، كما حافظ عليه
الرسول الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم والأئمّة
الهداة عليهم السلام.
نحن اكتفينا بمقدارٍ يسير
من الأحكام نبحث فيه
خلفاً عن سلف، وطرحنا
الكثير من مسائله
وجزئيّاته ومفرداته.
كثيرٌ من مسائله غريب
علينا. والإسلام كلّه
غريب، ولم يبق منه إلّا
اسمه، فقد أُغفلت
عقوباته. والعقوبات
الواردة في القرآن تُقرأ
كآيات، فلم يبق من القرآن
إلّا رسمه.
نحن نقرأ القرآن لا لشيء
إلّا لنُحسن إخراج الحروف
من مخارجها الطبيعيّة،
أمّا الواقع الاجتماعيّ
الفاسد، وانتشار الفساد
في طول البلاد وعرضها تحت
سمع الحكومات وبصرها أو
بتأييدٍ منها للفجور
والفحشاء وإشاعتها، فذلك
أمرٌ لا شأن لنا به.
حسبنا أن نفهم أنّ الزاني
والزانية قد جُعل لهما
حدّ معين. أمّا تنفيذ ذلك
الحدّ وغيره من الحدود
فليس ذلك من شأننا!
نحن نسأل: أهكذا كان
الرسول الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم؟ هل كان
يكتفي بتلاوة القرآن
وترتيله من غير إقامةٍ
لحدوده، وتنفيذٍ لأحكامه؟
هل كان خلفاؤه
من بعده يكتفون بإبلاغ
الأحكام الشرعيّة إلى
الناس ثمّ يتركون الحبل
على الغارب بعد ذلك؟ ألم
يكن الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ومن بعده
يقيمون حدّ الجلد والرجم
والحبس والنفي؟ عودوا إلى
دراسة باب الحدود والقصاص
والديّات لتجدوا أنّ جميع
ذلك من صميم الإسلام.
الإسلام جاء لتنظيم
المجتمع بواسطة الحكومة
العادلة الّتي يُقيمها في
الناس.
نحن مكلّفون بحفظ
الإسلام، وهذا من أهمِّ
الواجبات ولعلّه لا يقلّ
أهميّة عن الصلاة والصوم.
وهذا هو الواجب الّذي
أُريقت في سبيل أدائه
دماء زكيّة. فليس أزكى من
دم الحسين عليه السلام
وقد أُريق في سبيل
الإسلام.
علينا أن نفهم هذا
ونُفهّمه الناس. أنتم
تكونون خلفاء الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم إذا
علّمتم الناس وعرّفتموهم
بالإسلام على واقعه. لا
تقولوا ندع ذلك حتّى ظهور
الحجّة |! فهلّا تركتم
الصلاة بانتظار الحجّة؟!
لا تقولوا كما قال بعضٌ:
ينبغي إشاعة المعاصي كي
يظهر الحجّة عجل الله
تعالى فرجه الشريف! بمعنى
أنّ الفواحش إذا لم تنتشر
فإنّ الحجّة لن يظهر! لا
تكتفوا بالجلوس هنا
للتباحث في أمورٍ خاصّة،
بل تعمّقوا في دراسة سائر
الأحكام. انشروا حقائق
الإسلام. اكتبوا، وانشروا
فذلك سيؤثّر في الناس
بإذن الله، وقد جرّبت ذلك
بنفسي.
الفقهاء أمناء الرسل
عليّ عن أبيه، عن النوفلي،
عن السكوني، عن أبي عبد
الله عليه السلام
قال:
"قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم:
الفقهاء أمناء الرسل ما
لم يدخلوا في الدنيا.
قيل: يا رسول الله: وما
دخولهم في الدنيا؟ قال:
اتّباع السلطان، فإذا
فعلوا ذلك فاحذروهم على
دينكم"47.
ولا يسعنا تتبّع الرواية
بتمامها، فذلك يستلزم
بحثاً طويلاً. علينا أن
نُمعن النظر في جملة:
"الفقهاء أمناء الرسل".
لا بُدّ أوّلاً من معرفة
واجبات ووظائف وصلاحيّات
ومجموعة أعمال الأنبياء
والرسل، لنتوصّل بعدها
إلى معرفة التكاليف الّتي
كلّف بها الفقهاء الّذين
ائتمنهم الرسل.
أهداف الرسالات
بحكم ضرورة العقل لا
ينحصر الهدف من بعثة
الرسل في بيان وتوضيح
الأحكام والشرائع الّتي
يتلقّونها بالوحي. فلم
يكن الأنبياء قد عيّنوا
لأداء هذه الأحكام إلى
الناس بأمانة تامّة فحسب،
ولم يعهدوا إلى الفقهاء
أن يكتفوا ببيان المسائل
الّتي أخذوها عنهم للناس.
ولا تعني جملة
"الفقهاء أمناء الرسل"
أنّهم مؤتمنون على النقل
عنهم.
فقد كان أهمّ ما كلّف به
الأنبياء هو إقرار النظام
العادل في المجتمع وتنفيذ
الأحكام. وقد يُستفاد ذلك
كلّه من قوله
تعالى:﴿ لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ
﴾48.
فقد كان الهدف الحقيقيّ
من بعثة الأنبياء هو
إقامة العدل والقسط في
الناس، وتنظيم حياتهم
بموجب الموازين الشرعيّة،
ولا يتمّ ذلك إلّا
بالحكومة الّتي تُنفِّذ
الأحكام وهذه الحكومة كما
تتمثّل في شخص النبيّ أو
الرسول، تتمثّل كذلك في
الأئمّة عليهم السلام وفي
الفقهاء العلماء المؤمنين
العدول من بعدهم. لأنّ
القيام على الناس واقرار
الحقّ والنظام العادل
فيهم مطلوبٌ على كلّ حال.
حينما يقول الله:
﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا
غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى﴾49
ويقول:﴿ خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
﴾50
، وغير ذلك من الأوامر،
فلا يعني ذلك أنّ الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
مكلّفٌ بابلاغ ذلك إلى
الناس فحسب، بل هو مأمورٌ
بالعمل به وتنفيذه،
مأمورٌ أن يجبي هذه
الضرائب من أهلها ليصرفها
في مصالح المسلمين،
ومأمورٌ أن يُشيع العدل
فيهم، ويُقيم حدود الله
ويحفظ ثغور المسلمين،
ويمنع البلاد من الأعداء،
ويمنع خزانة الأمّة أن
يحيق عليها أحد.
وقد جاء في القرآن
الكريم:
﴿أَطِيعُواْ
اللهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ
﴾51.
وذلك لا يعني وجوب
التصديق بما أخبرونا به
فحسب، وإنّما يُقصد من
ذلك العمل والاتباع، فإنّ
في ذلك مجلبة لرضا الله،
لأنّ الله تعالى يقول في
موضع آخر من كتابه:﴿
وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا وَاتَّقُوا
اللهَ{
52فإطاعة
الرسول إطاعةٌ لله لأنّ
الرسول لا ينطق عن الهوى،
إن هو إلّا وحيٌ يوحى.
فإذا أمر الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم بالالتحاق
ببعثة أسامة53
، فلا يحقّ لأحد أن
يتخلّف أو يُراجعه في
ذلك، لأنّ في ذلك معصية
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم والرسول صلى
الله عليه وآله وسلم قد
فوّض إليه أمر المسلمين
فهو يُدير شؤونهم
ويُرشدهم ويوجّههم،
ويُعيّن لهم الولاة
والحكّام والقضاء، ويعزل
منهم إذا لزم الأمر.
أهليـّة الفقهاء
لقيادة الأمـّة
والحديث السابق الّذي
يؤتمن فيه الفقهاء من قبل
الرسل يشترط على الفقهاء
ألّا يدخلوا في الدنيا،
لأنّ الفقيه إذا كان همّه
أن يجمع الحطام لم يكن
عادلاً، ولم يعد مؤتمناً
للرسول، ومنفّذاً لأحكام
شريعته، فالفقهاء العدول
وحدهم المؤهّلون لتنفيذ
أحكام الإسلام وإقرار
نُظمه، وإقامة حدود الله،
وحراسة ثغور المسلمين.
وعلى كلّ حال فقد فوّض
إليهم الأنبياء جميع ما
فُوّض إليهم، وائتمنوهم
على
ما أؤتمنوا هم عليه، فهم
يجبون الضرائب، ليُنفقوها
في مصالح المسلمين، وهم
يُصلحون كلّ فاسدٍ من
أمور المسلمين.
وقد كان الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم مكلّفاً
بتطبيق الأحكام وإقرار
النظام. كذلك الفقهاء،
فإليهم الحكم، وعليهم يقع
عبء تنفيذ الأحكام،
وإقامة حدود الله،
ومحاربة أعدائه، والقضاء
على كلّ منشأ للفساد.
أمانة الفقهاء لتطبيق
القانون
وبما أنّ حكومة الإسلام
هي حكومة القانون،
فالفقيه هو المتصدّي لأمر
الحكومة لا غير. هو ينهض
بكلّ ما نهض به الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
لا يزيد ولا ينقص شيئاً،
فيُقيم الحدود كما أقامها
الرسول ويحكم بما أنزل
الله، ويجمع فضول أموال
الناس كما كان ذلك يُمارس
على عهد الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، ويُنظّم
بيت المال، ويكون مؤتمناً
عليه.
وإذا خالف الفقيه أحكام
الشرع ـ والعياذ بالله ـ
فإنّه ينعزل تلقائيّاً عن
الولاية، لانعدام عنصر
الأمانة فيه. فالحاكم
الأعلى في الحقيقة هو
القانون، والجميع
يستظلّون بظلّه، والناس
أحرار من يوم يولدون فيه
في تصرّفاتهم المشروعة،
فليس لأحدٍ على غيره أيّ
حقّ، وليس لأحدٍ ـ بعد
تنفيذ القانون ـ أن يقسر
أحداً على الجلوس في مكان
معيّن، أو الذهاب إلى
مكان معيّن بغير حقّ.
فحكومة الإسلام تُطمئن
الناس وتؤمنهم، ولا
تسلبهم أمنهم واطمئنانهم،
شأن الحكومات الّتي
تُشاهدون أنتم، كيف يعيش
المسلم تحت بأسها خائفاً
يترقّب، يخشى في كلّ ساعة
أن يهجموا على داره
وينتزعوا منه روحه
وأمواله وكلّ ما لديه؟!
وقد حدث مثل ذلك في أيّام
معاوية، فقد كان يقتل
الناس على الظنّة والتهمة
ويحبس طويلاً، وينفي من
البلاد، ويُخرج كثيراً من
ديارهم بغير حقّ إلّا أن
يقولوا ربّنا الله. ولم
تكن حكومة معاوية تُمثّل
الحكومة الإسلاميّة أو
تُشبهها من قريب ولا
بعيد. وإذا قدّر الله
للحكومة الإسلاميّة أن
تقوم ـ وليس ذلك على الله
ببعيد ـ فالكلّ آمن على
نفسه وماله وأهله وما
يملك، لأنّه لا يحقّ
لحاكمٍ أن يخطو في الناس
بما يتنافى وما قُرّر في
الشرع الإسلاميّ الحنيف،
وهذا هو ما ترمي إليه
كلمة "أمين"،
ومعلوم ـ كما سبق ـ أنّ
الأمانة لا تقتصر على
الأمانة في النقل أو
الرواية أو الإفتاء فحسب،
وإنّما تشمل الأمانة في
العمل والتطبيق والتنفيذ،
وإن كانت أمانة النقل
والإفتاء ذات شأن كبير.
وقد كان الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم وأمير
المؤمنين عليه السلام
يقولون ويعملون، وقد
ائتمنهم الله على رسالته،
وقد ائتمن الرسل الفقهاء
على أن يقولوا ويعملوا
ويُقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة، ويأمروا بالمعروف
وينهوا عن المنكر،
ويسيروا في الناس بالقسط.
فالإسلام يعتبر القانون
آلةً ووسيلة لتحقيق
العدالة في المجتمع،
وسبيلاً إلى تهذيب
الإنسان خُلقيّاً
وعقائديّاً وعمليّاً
وكانت مهمّة الأنبياء هي
تجسيد القانون والحكم بين
الناس فيما اختلفوا فيه،
وأن يسوسوهم، ويقودوهم
إلى ما فيه سعادتهم في
الدنيا والآخرة.
لقد تقدّم في الحديث عن
الإمام الرضا عليه السلام
قوله: "لو لم يجعل
لهم إماماً قيّماً
حافظاً مستودعاً لدرست
الملّة..."54.
وفي نفس هذه الرواية
يقول: "الفقهاء أمناء
الرسل"، ويُستفاد من
مجموع القضيّتين55
أنّ الفقهاء هم الّذين
ينبغي أن يقودوا مسيرة
الناس لئلّا يندرس
الإسلام. واندراس الإسلام
فعلاً وتعطّل حدوده يرجع
إلى أنّ الفقهاء في بلاد
المسلمين لم يتمكّنوا من
ولاية الناس، وقد أثبتت
التجربة رأي الإمام عليه
السلام في قوله: "لو
لم يجعل لهم إماماً...
لدرست الملّة".
ألم يندرس الإسلام؟
أليس الإسلام مندرساً
الآن؟
ألم تُعطّل أحكامه في
بلاد الإسلام العريضة؟
هل تُراعى تشريعاته
ويُتّبع نظامه؟
أليس الأمر فوضى؟
هل الإسلام هو هذا الحبر
على الورق؟
أفحسبتم أنّ ديننا، حسبه
في الحياة أن تُجمع
أحكامه في كتاب الكافي
ويوضع بعد ذلك على الرفّ؟
هل يُحفظ الإسلام إذا
قبّلنا القرآن ووضعناه
فوق رؤوسنا وتلونا آياته
بصوتٍ حسنٍ أناء الليل
وأطراف النهار؟
وقد انتهى الإسلام إلى
هذه النهاية المفجعة
لأنّنا لم نُفكِّر في
تنظيم المجتمع، وإسعاده
بواسطة حكومةٍ إسلاميّة.
وقد استُعملت بحقّ
المسلمين قوانين فاسدة
جائرة تُجافي تعاليم
الإسلام، لأنّ الله لم
يكن لينزل بها من سلطان.
وقد كان الإسلام يندرس في
أذهان بعض السادة
الأجلّاء، وكاد يُنسى إلى
حدّ حمل البعض على تفسير
قوله عليه السلام
"الفقهاء أمناء الرسل"
بأنّ ذلك يعني الأمانة في
حفظ المسائل، ويُفسّر
آيات القرآن والأحاديث
الدالة على ولاية الفقهاء
للناس في عصر الغيبة،
يؤوّل كلّ ذلك بتولّي
بيان المسائل وشرح
الأحكام! هل هذه هي
الأمانة؟!
أليس على الأمين المؤتمن
أن يحفظ أحكام الإسلام
حيّة حياةً واقعيّة،
ويحرسها من الإهمال
والتعطيل؟
أليس من واجب الأمين على
بلد أن لا يترك المعتدين
يتحرّكون بدون جزاء؟ أليس
عليه أن يمنع الفوضى
ويُحارب البدع والضلالات،
ويضرب على أيدي العابثين
بأموال الناس وأرواحهم؟
أجل هذا ما تقتضيه
الأمانة، ويقتضيه ائتمان
الرسل إيّاهم.
أهميـّة منصب القضاء
في الإسلام
عن محمّد بن يحيى، عن
محمّد بن أحمد، عن يعقوب
بن يزيد، عن يحيى بن
مبارك، عن عبد الله بن
جميلة، عن إسحاق بن عمار،
عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: "قال أمير
المؤمنين صلوات الله عليه
لشريح: يا شريح، قد جلست
مجلساً لا يجلسه (ما جلسه)
إلّا نبيّ،
أو وصيّ نبيّ، أو
شقيّ"56.
وكان شريح57
هذا قد شغل منصب القضاء
قرابة خمسين عاماً وكان
متملّقاً لمعاوية، يمدحه،
ويُثني عليه، ويقول فيه
ما ليس له بأهل، وكان
موقفه هذا هدماً لما
تبنيه حكومة أمير
المؤمنين عليه السلام
إلّا أنّ عليّاً عليه
السلام لم يستطع عزله،
لأنّ من قبله قد نصّبه،
ولم يكن عزله، بسبب ذلك،
في متناول أمير المؤمنين،
إلّا أنّه عليه السلام
اكتفى بمراقبته، وردعه عن
الوقوع فيما يُخالف
تعاليم الشرع.
القضاء من شؤون
الفقيه العادل
لئن كان قد وقع في مسألة
الولاية خلاف، فذهب بعض
العلماء كالمرحوم
النراقيّ
58والمرحوم
النائينيّ
59
إلى أنّ
للفقيه جميع ما للإمام من
الوظائف والأعمال في مجال
الحكم والإدارة والسياسة،
وذهب
بعض إلى أنّ ولاية الفقيه
ليست من الشمول بحيث تكون
ولاية الإمام عليه
السلام، لئن كان قد وقع
في ذلك خلاف، فلا أرى أنّ
خلافاً وقع في أنّ منصب
القضاء من مختصّات الفقيه
العادل. نظراً إلى أنّ
الحديث شمل بالذكر
"النبيّ، والشقيّ،
والوصيّ". ومعلوم أنّ
الفقهاء ليسوا أنبياء،
ولا شكّ أنّهم ليسوا في
عداد الأشقياء فبالضرورة
يصدق عليهم أنّهم
"أوصياء". وبسبب غلبة
استعمال كلمة "الوصيّ"
في
الوصيّ الأوّل أمير
المؤمنين عليه السلام،
لذا يُرى البعض لا يأخذ
بهذه الرواية كدليل على
موضوعنا.
وقد سبق أن قلنا أنّه لا
ينبغي أن يتوهّم متوهّم
أنّ منصب الحكم كان يرفع
من منزلة الأئمّة عليهم
السلام، إذ سياسة الناس
والحكم فيهم لم يكن كلّ
ذلك إلّا قياماً بالواجب،
وإحقاقاً للحقّ، وتقويماً
للمجتمع ونشراً للعدالة
بين الناس. وقد كانت
للأئمّة مراتب عالية،
ومنازل لا يعلمها إلّا
الله، ولا يكون لتعيينهم
للخلافة أو عدم تعيينهم
لها في تلك المراتب مزيد
أثرٍ أو نقصان، لأنّ هذا
المنصب ليس هو الّذي يرفع
من شأن الإنسان، أو
يُكسبه شأناً، بل إنّ من
يكون ذا شأنٍ وفقهٍ وصلاح
يكون مؤهّلاً لإشغال هذا
المنصب كجزء من واجباته
الحياتيّة.
وعلى كلّ حال، فنحن نفهم
من الحديث أنّ الفقهاء هم
أوصياء الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم من بعد
الأئمّة وفي حال غيابهم،
وقد كُلِّفوا بالقيام
بجميع ما كُلِّف الأئمّة
عليهم السلام القيام به.
وحديثٌ آخر يؤيّد
موضوعنا، ولعلّه أرجح من
الأوّل سنداً ودلالة. وقد
ورد عن الكلينيّ بطريق
ضعيف، إلّا أنّ الصدوق
رواه عن طريقٍ سليمان بن
خالد، وهو صحيحٌ ومعتبر.
وعن عدّة من أصحابنا، عن
سهيل بن زياد، عن محمّد
بن عيسى، عن أبي عبد الله
المؤمن، عن ابن مكان، عن
سليمان بن خالد، عن أبي
عبد الله عليه السلام
قال: "اتقوا الحكومة،
فإنّ الحكومة إنّما هي
للإمام العالِم بالقضاء
العادل في المسلمين،
لنبيٍّ (كنبيّ) أو وصيّ
نبيّ"60.
ورواه الصدوق بإسناده عن
سليمان بن خالد.
فأنتم ترون أنّ من يحكم
أو يقضي بين الناس لا
بُدّ أن يكون إماماً
عالِماً بالقوانين
والأحكام، وأن يكون
عادلاً، وهذه الشروط لا
تكون إلّا في نبيٍّ أو
وصيّ نبيّ. وقد بيّنت من
قبل أنّ من البديهيّات
الفقهيّة أنّ منصب القضاء
لا يحقّ إلّا للفقيه
العادل أن يُمارسه،
والفقيه يعني العالِم
بالعقائد والأحكام
والأنظمة والأخلاق
الإسلاميّة، أي محيطاً
بجميع ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد حصر الإمام عليه
السلام القضاء بمن كان
نبيّاً أو وصيّ نبيّ،
وبما أنّ الفقيه ليس
نبيّاً، فهو إذن وصيّ
نبيّ، وفي عصر الغيبة
يكون هو إمام المسلمين
وقائدهم، والقاضي بينهم
بالقسط، دون سواه.
مكاتبة إسحاق بن
يعقوب
الرواية الثالثة توقيع61
صدرعن الإمام الثاني عشر
القائم المهديّ عجل الله
تعالى فرجه الشريف،
وسنعرضه مع بيان كيفيّة
الاستفادة منه:
في كتاب "إكمال الدين
وإتمام النعمة"62
عن محمّد بن محمّد بن
عصام، عن محمّد بن يعقوب،
عن إسحاق بن يعقوب، قال:
سألت محمّد بن عثمان
العمريّ أن يوصل لي
كتاباً قد سألت فيه عن
مسائل أُشكلت عليّ، فورد
التوقيع بخطّ مولانا صاحب
الزمان عجل الله تعالى
فرجه الشريف: "أمّا ما
سألت عنه أرشدك الله
وثبّتك ـ إلى أن قال ـ:
وأمّا الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا، فإنّهم حجّتي
عليكم، وأنا حجّة الله،
وأمّا محمّد بن عثمان
العمري، فرضي الله عنه
وعن أبيه من قبل، فإنّه
ثقتي، وكتابه كتابي"63.
وطبيعيّ أنّ المقصود من
الحوادث الواقعة ليس هو
المسائل والأحكام
الشرعيّة، فالسائل كان
يعرف مرجعه في هذه
المسائل والأحكام، وكان
الناس يرجعون إلى الفقهاء
إذا أُشكلت عليهم مسألة
من مسائل الشرع وأحكامه،
وقد كان ذلك يحدث حتّى في
زمن الأئمّة عليهم السلام
أنفسهم إذا كان الناس
بعيدين عن الإمام عجل
الله تعالى فرجه الشريف،
وفي
مصر غير مصره، فالسائل
المعاصر لأوائل غيبة
الإمام عجل اله تعالى
فرجه الشريف وهو على
اتّصال بنوّابه، ويُراسل
الإمام ويستفتيه ـ لم يكن
يسأل عن المرجع في
الفتوى، لأنّه كان يعرف
ذلك جيّداً، إنّما كان
يسأل عن المرجع في
المشكلات الاجتماعيّة
المعاصرة، وفيما يجد من
تطوّرات في حياة الناس.
فهو إذ تعذّر عليه الرجوع
في تلك الأمور إلى
الإمام، بسبب غيبته،
يُريد أن يعرف المرجع في
تقلّبات الحياة وتطوّرات
المجتمع والحوادث
الطارئة، وهو لا يدري
ماذا يفعل. وقد كان سؤاله
عامّاً لا يخصّ جهة
معيّنة بالذكر فكانت
الإجابة عامّة كذلك،
مناسبة للسؤال.
وكان الجواب كما عرفتم:
ارجعوا إلى رواة حديثنا
فإنّهم حجّتي عليكم وأنا
حجّة الله.
حجّة الله تعني ماذا؟
ماذا تفهمون منها؟ هل
تعني خبر الواحد
64؟ هل معنى
"حجّة الله" أنّ صاحب
الأمر عجل الله تعالى
فرجه الشريف إذا أخبر عن
الرسول بخبر فعلينا أن
نأخذ به كما نأخذ بخبر
زرارة65
؟ هل هو حجّة الله في
بيان المسائل والأحكام
فقط؟ إذا قال الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم إنّي
جعلت عليّاً عليه السلام
حجّة
عليكم، فهل معنى ذلك:
إنّني سأذهب واخلف فيكم
عليّاً يبيّن لكم المسائل
والأحكام ويوضّحها؟ أم
ماذا؟
حجّة الله تعني أنّ
الإمام مرجع للناس في
جميع الأمور، والله قد
عيّنه، وأناط به كلّ
تصرّف وتدبير من شأنه أن
ينفع الناس ويُسعدهم،
وكذلك الفقهاء، فهم مراجع
الأمّة وقادتها.
فحجّة الله هو الّذي
عيّنه الله للقيام بأمور
المسلمين، فتكون أفعاله
وأقواله حجّة على
المسلمين، يجب إنفاذها،
ولا يُسمح بالتخلّف عنها،
في إقامة الحدود، وجباية
الخمس والزكاة والخراج
والغنائم وإنفاقها، وذلك
يعني أنّكم إذا راجعتم ـ
مع وجود الحجّة ـ حكّام
الجور فأنتم محاسَبون على
ذلك ومعاقَبون عليه يوم
القيامة.
فالله ـ سبحانه ـ يحتجّ
بأمير المؤمنين عليه
السلام على الّذين خرجوا
عليه، وخالفوا عن أمره،
كما يحتجّ على معاوية
وحكّام بني أميّة وبني
العباس وأعوانهم
ومساعديهم، بما غصبوه من
الحقّ، وبما أشغلوه من
المنصب الّذي ليسوا له
بأهل.
والله يُحاسب حكّام الجور
وكلّ حكومة منحرفة عن
تعاليم الإسلام ويأخذهم
بما كانوا يكسبون،
ويُحاسبهم على أموال
المسلمين فيما أنفقوها
ويُحاسبهم على ما بدّدوه
من الأموال في حفلات
التتويج،
وفي
حفلات مرور 25 قرناً على
حكم السلاطين في إيران66
، ماذا سيقول
عند الحساب؟
لعلّه يعتذر ويقول: إنّ
ظروفنا الخاصّة كانت
تُحتّم ذلك، وتدعو إلى
بناء أضخم القصور، وإلى
الإسراف والتبذير بغير
حسابٍ في حفلات التتويج
وأمثالها من أجل الشهرة
وذيوع الصيت في العالم!
فإنّه يُقال له: ألم يكن
لك في عليّ عليه السلام
أسوة حسنة؟
ألم يكن حاكماً للمسلمين،
وأميراً على أمّة مترامية
الأطراف؟
هل كنت تفعل للناس أكثر
ممّا فعله أمير المؤمنين
عليه السلام لهم؟
هل كنت تًريد أن ترفع
للإسلام شأناً لم يرفعه
عليّ عليه السلام؟!
أيّ الدولتين أكبر، دولتك
أم دولته؟ دولتك لم تكن
إلّا ولاية من ولايات
دولته إلى جانب مصر
والعراق والحجاز واليمن،
ومع كلّ هذا ألم تعرف أنّ
ديوانه كان في المسجد،
ودكّة قضائه كانت في إحدى
زواياه؟ وهو يعقد ألوية
الجيوش والعساكر في
المسجد ليبدأ انطلاقها
وتحرّكها من المسجد؟
ألم تر أنّهم كانوا
يذهبون إلى الحرب على
يقينٍ من أمرهم، والصلاة
تملأ جوانحهم؟ ألم تعرف
كيف كانوا يتقدّمون
ويزحفون، ويفتح الله على
أيديهم الفتوح؟
فالفقهاء اليوم هم الحجّة
على الناس، كما كان
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم حجّة الله
عليهم، وكلّ ما كان يُناط
بالنبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم فقد أناطه
الأئمّة بالفقهاء من
بعدهم، فهم المرجع في
جميع الأمور والمشكلات
والمعضلات، وإليهم قد
فوّضت الحكومة وولاية
الناس وسياستهم والجباية
والإنفاق، وكلّ من يتخلّف
عن طاعتهم، فإنّ الله
يؤاخذه ويُحاسبه على ذلك.
هذه الرواية الّتي
نقلناها واضحة في
دلالتها، فإن لم تبلغ
مرتبة الدليل على رأينا
في الموضوع فهي على الأقل
مؤيّدة ومساندة لما نراه
ونذهب إليه.
آيات من القرآن
المجيد
هناك رواية أخرى تؤيّد
موضوع بحثنا، بل تدلّ
عليه، وهي
مقبولة67
عمر بن حنظلة، وقد وردت
فيها آية من الذكر
الحكيم. فلنعرض الآن بعض
الآيات، وندرسها إلى حدٍّ
ما لننتقل بعدها إلى ذكر
تلك الرواية وغيرها.
أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم.
﴿إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ
إِنَّ اللهَ كَانَ
سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ أَطِيعُواْ
اللهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً﴾68.
يعتقد البعض أنّ المراد
من الأمانة هو ما يودع
عند الفرد من مال الناس،
وما أودعه الله عند الناس
من أحكام شرعيّة يكون
العمل بموجبها والالتزام
بها ردّاً للأمانة إلى
أهلها، فتلك أمانة الناس،
وهذه أمانة الله69.
ويُفسّر آخرون الأمانة
بالإمامة70
، وقد ورد ذلك في مضامين
بعض الأحاديث إذ يُبدي
الإمام أنّ المقصود من
هذه الآية نحن الأئمّة
71،
فقد أمر الله الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم بردّ
الأمانة ـ أي الإمامة ـ
إلى أهلها وهو أمير
المؤمنين عليه السلام
وعليه هو أن يردّها إلى
من يليه وهكذا...
وفي ذيل الآية الأولى:
﴿
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
بِالْعَدْلِ﴾
خطاب إلى من
يُمسكون بأيديهم أزمّة
الأمور، وليس ذلك خطاباً
خاصّاً بالقضاة وإن كان
يصدر منهم الحكم, لأنّ
القضاة جزء من الحكومة
المهيمنة على أمور الناس،
وليسوا هم الحكومة كلّها.
ومن المعروف في الدول
الحديثة وجود ثلاث سلطات
تتشكّل منها الحكومة
وأجهزة الدولة، هي السلطة
القضائيّة والسلطة
التشريعيّة والسلطة
التنفيذيّة. فقوله تعالى:
}وَإِذَا حَكَمْتُم...{
خطاب عامّ شامل لكلّ من
تتألّف منه الحكومة من
أفراد هذه السلطات.
فالحكومة العادلة من
مفردات الأمانة الّتي يجب
تسليمها إلى أهلها، ويجب
على أهلها القيام عليها
أحسن قيام.
فهذه الحكومة تعمل بموجب
موازين القانون والشرع
الشريف، والقاضي فيها
يحكم بالعدل والإنصاف لا
بالجور والظلم، مستمدّاً
أحكامه من الدِّين
الحنيف.
والسلطة التشريعيّة فيها
تدور في فلك التعاليم
الشرعيّة والأحكام
والقوانين الإسلاميّة
العامّة الشاملة ولا
تتعدّاها ولا تتجاوزها،
وتعمل السلطات التنفيذيّة
كما يُريد لها الدِّين أن
تعمل في الناس بما
يُسعدهم ويُبعد عنهم شبح
الفقر والجوع والتخلّف،
وتعمل كذلك على إقامة
الحدود وحفظ الأمن
والنظام، كلّ ذلك باعتدال
وتوازن من
غير إفراط أو تفريط.
كان أمير المؤمنين عليه
السلام بعد قطعه يد
السارق يعطف عليه، ويرفق
به، ويُعالج يده، ويحسمها
بالزيت، حتّى ليعود
المقطوع من أشدّ الناس
محبّة له72.
وحين يبلغه أنّ جيش
معاوية قد أغار على "الأنبار"
وأنّ الرجل منهم ليأتي
الذميّة والأخرى المعاهدة
فينزع عنها قرطها
وخلخالها ـ كان يتفطّر
حزناً وألماً ويقول:
"فلو أنّ امرء مات من بعد
هذا أسفاً ما كان به
ملوماً، بل كان به عندي
جديراً"73.
ومع هذه العواطف
الجيّاشة، كان يحمل سيفه
إذا لزم الأمر ليضعه في
رقاب المفسدين الّذين
يعيثون في الأرض فساداً.
هذه هي العدالة!
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حاكم عادل، فهو
إذا أمر باحتلال موقع، أو
القضاء على طائفة مفسدة
من الناس فقد حكم بالعدل،
لأنّه إن لم يفعل فقد
خالف العدل، وذلك لأنّ
حكمه منسجم دائماً مع
ضرورات صالح المسلمين، بل
مع ضرورات الحياة
البشريّة كلّها.
فالحاكم الأعلى لا بُدّ
أن يكون نظره في المصالح
العامّة، ولا يعبأ
بالعواطف، ولا تأخذه في
الله لومة لائم، ولذا نرى
أنّ كثيراً من المصالح
الخاصّة ذات الأثر قد
قُضي عليها رعاية للمصلحة
العامّة. ونرى أنّ
الإسلام حارب طوائف من
الناس لما يصدر عنهم من
الضرر، فقد
أتى الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم على يهود بني
قريظة74
عن آخرهم لما لمسه منهم
من الإضرار بالمجتمع
الإسلاميّ وبحكومته
وبجميع الناس. فجرأة
الحاكم وشهرته في الله
عند تنفيذ أمره وإقامة
حدوده من غير خضوع لعاطفة
أو انسياق لهوى، وكذلك
عطفه ورأفته وحنانه
وشفقته بالناس، هاتان
الصفتان تجعلان من الحاكم
كهفاً يلجأ الناس إليه.
وأمّا هذا الّذي نراه من
خوفٍ وقلق في أيّامنا
هذه، فإنّما هو بسبب عدم
شرعيّة الحكومات
الفعليّة، لأنّ الحكومة
اليوم تُعطي مفهوم
التسلّط والأثرة
والتجبّر. أمّا في مثل
حكومة أمير المؤمنين عليه
السلام أو في أيّة حكومة
إسلاميّة حقيقيّة، فلا
خوف على الناس ولا هم
يحزنون، وللإنسان أن يأمن
كلّ الأمن ما لم يخن أو
يظلم أو يتجاوز حدود
الله.
وقد ورد في الحديث أنّ
قوله تعالى:
﴿أَن
تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا﴾
يتعلّق بالأئمّة عليهم
السلام وقوله:﴿وَإِذَا
حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ...﴾
يتعلّق
بالأمراء، وقوله:
﴿وأَطِيعُواْ اللهَ...﴾
خطاب عامّ للمسلمين
جميعاً يأمرهم فيه أن
يتّبعوا أولي الأمر ـ أي
الأئمّة ـ ويأخذوا عنهم
التعاليم ويُطيعوا
أوامرهم75.
وقد عرفتم سابقاً أنّ
المقصود من طاعة الله،
اتّباع أمره في كلّ
الأحكام الشرعيّة،
العباديّة وغيرها، وطاعة
الرسول تعني اتّباع
أوامره كلّها بما فيها
ممّا يتّصل بتنظيم
المجتمع وتنسيقه وتهيئة
القوى المعنويّة
والماديّة للدفاع عن
كيانه، وإن كان ذلك طاعة
لله أيضاً. فطاعتك للرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
هو امتثالك لأوامره
الصادر إليك، فلو فرض
عليك أن تلتحق بجيش
أسامة، أو تُرابط في
الثغور، أو تدفع الضرائب
أو تجبيها أو تُعاشر
الناس بالّتي هي أحسن، لم
يكن لك في كلّ ذلك أن
تتخلّف. وقد أمرنا الله
أن نأخذ ما آتانا الرسول
وننتهي عمّا نهانا عنه،
كما أمرنا أن نأخذ من
أولي الأمر الّذين هم
الأئمّة عليهم السلام، مع
العلم أنّ إطاعة الرسول
وإطاعة أولي الأمر هي
إطاعة لله، لأنّ إطاعتنا
إيّاهم امتثال لأمر الله
إيّانا باتباعهم.
وفي ذيل الآية يقول:
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
والنزاع بين الناس قد
يكون على أمور حقوقيّة
يعمل فيها القاضي بموجب
البيّنات والأيمان، وقد
لا يكون ذلك النزاع
اختلافاً على شيء حقوقيّ،
بل القضيّة قضيّة
جزائيّة، قضيّة ظلم أو
عدوان أو قتل أو سرقة
وغيرها. في مثل هذه الحال
يُرفع الأمر إلى الجهات
المسؤولة لتبدأ عملها في
مثل هذه القضايا
الجزائيّة او المزدوجة ـ
أي الحقوقيّة الجزائيّة ـ
أحياناً. وتُصدر أحكامها
في ذلك الشأن قاضية فيها
بما أمر الشرع أن يُقضى
به.
فالقرآن يأمرنا بردّ كلّ
هذه القضايا حقوقيّةً
كانت أم جزائيّة، إلى
الرسول باعتباره رئيس
الدولة، وهو بدوره مأمورٌ
أن يُحقّ الحقّ ويُبطل
الباطل، ومن بعده الأئمّة
عليهم السلام ومن بعدهم
الفقهاء العدول.
وبعد ذلك يقول عزَّ
وجلَّ:﴿أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ
مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ
أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُواْ أَن
يَكْفُرُواْ بِهِ﴾76.
والمقصود من الطاغوت كلّ
هيئة وسلطة قضائيّة أو
حكوميّة تحكم أو تقضي
بغير ما أنزل الله، وتعمل
في الناس بالجور والإثم
والعدوان، وقد أمرنا الله
أن نكفر بمثل ذلك، وأن
نتمرّد على كلّ حكومة
جائرة وإن كان ذلك
يُكلّفنا الصعاب
ويُحمّلنا المشاق.
مقبولة عمر بن حنظلة
والآن لننظر ماذا تقوله
هذه المقبولة وما المقصود
منها:
محمّد بن يعقوب، عن محمّد
بن يحيى، عن محمّد بن
الحسين، عن محمّد بن
عيسى، عن صفوان بن يحيى،
عن داود بن الحصين، عن
عمر بن حنظلة: "قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام
عن رجلين من أصحابنا
بينهما منازعة في دَيْنٍ
أو ميراث، فتحاكما إلى
السلطان وإلى القضاة
أيحلُّ ذلك؟ قال: من
تحاكم إليهم في حقٍّ أو
باطل فإنّما تحاكم إلى
الطاغوت، وما يُحكم له
فإنّما يأخذه سحتاً وإن
كان
حقّاً ثابتاً له, لأنّه
أخذه بحكم الطاغوت وما
أمر الله أن يُكفر به،
قال الله تعالى:
﴿يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُواْ أَن
يَكْفُرُواْ بِهِ﴾، قلت
كيف يصنعان؟ قال: ينظران
من كان منكم ممّن قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا
وحرامنا وعرف أحكامنا...
فليرضوا به حكماً فإنّي
قد جعلته عليكم
حاكماً..."77.
تحريم التحاكم إلى
حكّام الجور
لقد نهى الإمام في مقام
جوابه عن سؤال السائل، عن
الرجوع إلى حكّام الجور
في المسائل الحقوقيّة أو
الجزائيّة نهياً عامّاً.
وهذا يعني أنّ من رجع
إليهم فقد رجع إلى
الطاغوت في حكمه وقد أمر
الله أن يُكفر به.
فالشرع يأمر أن لا نأخذ
بما حكم به حكّام الجور
"فإنّما يأخذ سحتاً وإن
كان حقّاً ثابتاً له"،
فيحرم على المسلم أن
يترافع إليهم في دَين له
على أحد، فيستوفي دينه
بأمرهم وحكمهم، فلا يجوز
له التصرّف فيما أُعطي.
ولقد قال بعض الفقهاء
بأنّه حتّى في الأمور
العينيّة لا يجوز أخذ
العين المملوكة78
ـ كالعباءة ـ والتصرّف
فيها إذا كان استردادها
بأمرهم وحكمهم.
وكانت هذه المقبولة حكماً
سياسيّاً يحمل المسلمين
على ترك
مراجعة
السلطات الجائرة وأجهزتها
القضائيّة، حتّى تتعطّل
دوائرهم إذا هجرها الناس،
ويفتح السبيل للأئمّة
عليهم السلام ومن نصّبهم
الأئمّة عليهم السلام
للحكم بين الناس. والغرض
الحقيقيّ من هذه الرواية
هو أن لا يكون حكّام
الجور مرجعاً للناس في
أمورهم، لأنّ الله قد نهى
عن رجوع الناس إليهم،
وأمر بتركهم واعتزالهم
والكفر بهم وبحكمهم, بسبب
ظلمهم وجورهم وانحرافهم
عن سواء السبيل.
علماء الإسلام هم
مرجع الأمور
بموجب ما ورد عن الإمام
عليه السلام فالمرجع هو
من روى حديثهم وعرف
حلالهم وحرامهم، ونظر
بدقّة في أحكامهم بموجب
ما لديه من الموازين
الاجتهاديّة. والإمام في
جوابه عن السؤال الوارد
في الرواية لم يترك
غموضاً أو إبهاماً،
واشترط في المرجع إلى
جانب روايته الحديث أن
تكون له معرفة بالحلال
والحرام ونظر دقيق
وتبصّر، فناقل الحديث من
غير نظر ومعرفة ليس
مرجعاً.
العلماء منصوبون
للحكم
يقول عليه السلام:
"فإنّي قد جعلته عليكم
حاكماً" فعلى الناس
أن يرضوا به حاكماً
يرجعون إليه في قضاياهم
ومنازعاتهم، ولا يحقّ لهم
الرجوع إلى غيره. ففي
الفصل في الدعاوى يرجع
إلى من عيّنه الإمام دون
غيره، وهذا الحكم الشرعيّ
يعمّ المسلمين جميعاً
وليس مشكلة
تخصّ
عمر بن حنظلة ليكون
الجواب الصادر عن الإمام
جواباً خاصّاً به. وكما
كان أمير المؤمنين عليه
السلام يُعيّن الولاة
ويأمر الناس بالرجوع
إليهم وطاعتهم، فكذلك
الإمام الصادق عليه
السلام باعتباره وليّاً
وحاكماً على المسلمين
وعلى العلماء والفقهاء،
فقد عيّن في أيّام حياته
ولما بعد وفاته حكّاماً
وقضاة.
وذلك ما عبّر عنه بقوله
عليه السلام: "جعلته
عليكم حاكماً".
والحكم هنا لا يقتصر على
الأمور القضائيّة، بل
يشتمل عليها وعلى غيرها.
ويُستفاد من هذه الآية
والآيات المتقدّمة
والرواية أنّ جواب الإمام
لا يخصّ تعيين القضاة
فقط، وإنّما هو شيء أعمّ
من ذلك. والرواية من
الواضحات ولا تشكيك في
سندها أو دلالتها. ولا
شكّ أنّ الإمام قد عيّن
الفقهاء للحكومة والقضاء،
وألزم المسلمين كافّة أن
يأخذوا ذلك بنظر
الاعتبار.
ومن أجل جلاء الموضوع
وإيضاحه أكثر، ننتقل إلى
رواية أبي خديجة:
محمّد بن حسن بإسناده عن
محمّد بن عليّ بن محبوب،
عن أحمد بن محمّد عن حسين
بن سعيد، عن أبي الجهم،
عن أبي خديجة79،
قال: "بعثني أبو عبد
الله عليه السلام إلى أحد
أصحابنا فقال: قل لهم:
إيّاكم إذا وقعت بينكم
خصومة أو تدارى في شيء من
الأخذ والعطاء،
أن تُحاكموا إلى
أحدٍ من هؤلاء الفسّاق،
اجعلوا بينكم رجلاً قد
عرف حلالنا وحرامنا فإنّي
قد جعلته عليكم قاضياً،
وإيّاكم أن يُخاصم بعضكم
بعضاً إلى السلطان
الجائر"80.
والمقصود من الفسّاق:
القضاة الّذين نصّبهم
ولاة الأمور في ذلك
الوقت. وفي حديث سابق نهى
عن الرجوع إلى سلاطين
الجور وقضاة الجور، وفي
هذا الحديث نصّب القاضي
الّذي ينبغي الرجوع إليه،
وفي مقبولة حنظلة نصّب
الحاكم المنفّذ والقاضي
أيضاً. ويظهر من ذيل
الحديث أنّ السلطان كان
مرجعاً لبعض المخاصمات
غير ما كان القضاة
مراجعاً لها.
هل عـُزل العلماء عن
منصب الحكم؟
نتساءل الآن عن الحكّام
والقضاة الّذين عيّنهم
الإمام عليه السلام أيّام
حياته بموجب الأحاديث،
وحديث عمر بن حنظلة بشكلٍ
خاصّ، وأوكل إليهم أمور
الحكم والقضاء بين الناس،
هل عُزلوا عن مناصبهم بعد
وفاة الإمام عليه السلام
أم لا؟
نحن نعلم أنّ أوامر
الأئمّة عليهم السلام
تختلف عن أوامر غيرهم.
وعلى مذهبنا فإنّ جميع
الأوامر الصادرة عن
الأئمّة في حياتهم نافذة
المفعول، وواجبة الاتباع
حتّى بعد وفاتهم، فما هو
الرأي بالنسبة إلى من
عيّنهم الإمام عليه
السلام بصفة خاصّة أو
عامّة كحكّام أو قضاة؟
في الدول سواء الملكيّة
منها أو الجمهوريّة أو
أيّ شكلٍ آخر، إذا
توفّي
الرئيس أو الملك أو حدث
انقلابٌ فإنّ ذلك كلّه لا
يؤثّر على الرتب والمناصب
العسكريّة والإداريّة
تلقائيّاً وإن كان بإمكان
النظام الجديد أو الحاكم
الجديد أن يُغيّر ويُبدّل
في ذوي المناصب إلّا أنّ
هذه الرتب لا تُلغى
تلقائيّاً.
ونحن نرى أنّ بعض الأمور
تزول تلقائيّاً كما لو
أنّ فقيهاً وكّل شخصاً في
بلدٍ معيّن أو منح إجازة
حسبيّة81
لشخصٍ فإنّ ذلك يزول
ويرتفع تلقائيّاً بموت
الفقيه، ولكنّ الفقيه إذا
عيّن قيّماً على صغير، أو
ولّى أحداً على وقف، فإنّ
ذلك لا يتأثّر بوفاة
الفقيه، وإنّما يبقى
الأمر على حاله باستمرار.
فمن أيّ نوع يكون تعيين
الفقهاء للحكم والقضاء
بين الناس؟
منصب العلماء محفوظ
دائماً
نحن نعتقد أنّ المنصب
الّذي منحه الأئمّة عليهم
السلام للفقهاء لا يزال
محفوظاً لهم، لأنّ
الأئمّة الّذين لا نتصوّر
فيهم السهو أو الغفلة،
ونعتقد فيهم الإحاطة بكلّ
ما فيه مصلحة للمسلمين،
كانوا على عِلمٍ بأنّ هذا
المنصب لا يزول عن
الفقهاء من بعدهم بمجرّد
وفاتهم، وإذا كان الإمام
يعرف أنّ أمر هذا التعيين
منوط بحياته لكان ينبغي
له أن يُلفت أنظار الناس
إلى ذلك، بأن يبيّن لهم
أنّ منصب هؤلاء الفقهاء
موقوت
بحياة الأئمّة، وبعدها
يكون الفقهاء معزولين.
إذن، فالعلماء بموجب هذه
الرواية، قد عُيّنوا من
قبل الإمام للحكومة
والقضاء بين الناس،
ومنصبهم لا يزال محفوظاً
لهم. ولا نحتمل أن يكون
الإمام الّذي تلا الإمام
الصادق عليه السلام قد
عزل الفقهاء عن هذا
المنصب، لأنّ هذا
الاحتمال ضعيف وغير وارد،
وأنّ الإمام عليه السلام
نفسه ينهى عن الرجوع إلى
سلاطين الجور وقضاته،
ويعتبر الرجوع إليهم
رجوعاً إلى الطاغوت،
ويتمسّك بالآية الشريفة
الّتي أمر الله فيها أن
يُكفر بالطاغوت.
فإذا كان الإمام اللّاحق
قد عزل هؤلاء الفقهاء ولم
يُعيّن آخرين، فإلى من
يرجع المسلمون في
خلافاتهم ومنازعاتهم؟ هل
يرجعون إلى الفسّاق
والظلمة، وحكم الطاغوت،
أم يكون فوضى وضياع
للحقوق وأكل للمال
بالباطل، وتعدٍّ لحدود
الله من غير رادع؟!
نحن على يقينٍ من أنّ
الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام لا يُمكن أن ينقض
ما جاء به الإمام الصادق
عليه السلام في هذا
الموضوع وفي غيره. ولا
يُمكن أن يمنع من الرجوع
إلى الفقهاء العدول، أو
يأمر بالرجوع إلى حكم
الطاغوت أو يرضى بضياع
الحقوق والأموال والأنفس.
فالإمام لا ينقض الأسس
العامّة الّتي بيّنها
وأرشد إليها سلفه، إلّا
أنّ بإمكانه التبديل
والتغيير في أشخاص
الحكّام والقضاة في أيّام
حياته لمصلحة عامّة تقتضي
ذلك، وذلك لا يُعتبر
نقضاً لما تبنّاه سلفه.
وإليكم رواية أخرى
مؤيّدة، وقد كانت
الروايات السابقة شديدة
الظهور والوضوح، وكلّها
تآزرت على إثبات ما ذهبنا
إليه.
صحيحة قدّاح
عليّ بن إبراهيم، عن
أبيه، عن حمّاد بن عيسى،
عن القدّاح (عبد الله بن
ميمون) عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "من سلك
طريقاً يطلب فيه علماً
سلك الله به طريقاً إلى
الجنّة، وإنّ الملائكة
لتضع أجنحتها لطالب
العِلم رضاً به، وإنّه
يستغفر لطالب العِلم من
في السماء ومن في الأرض
حتّى الحوت في البحر،
وفضل العالم على العابد
كفضل القمر على سائر
النجوم ليلة البدر، وإنّ
العلماء ورثة الأنبياء،
وإنّ الأنبياء لم
يورِّثوا ديناراً ولا
درهماً، ولكن ورّثوا
العِلم، فمن أخذ منه أخذ
بحظٍّ وافر"82.
الحديث صحيح، وحتّى أبو
علي بن إبراهيم83
(إبراهيم بن هاشم) فهو من
كبار الثقاة في نقل
الحديث. وقد وردت هذه
الرواية باختلافٍ يسير في
النصّ، بطريقٍ آخر ضعيف،
أي أنّ السند فيه من هو
ضعيف وإن كان باقي السند
صحيحاً، وهذا الحديث
ينتهي إلى أبي البختري،
وهو ضعيف، وبسببه يُضعّف
الحديث.
رواية أبي البختري
عن محمّد بن يحيى، عن
أحمد بن محمّد بن عيسى،
عن محمّد بن خالد، عن أبي
البختري.
عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: "إنّ
العلماء ورثة الأنبياء،
وذاك أنّ الأنبياء لم
يورِّثوا درهماً، ولا
ديناراً، وإنّما أورثوا
أحاديث من أحاديثهم، فمن
أخذ بشيء منها فقد أخذ
حظّاً وافراً، فانظروا
علمكم هذا عمّن تأخذونه،
فإنّ فينا أهل البيت في
كلّ خلف عدولاً ينفون عنه
تحريف الغالين وانتحال
المبطلين، وتأويل
الجاهلين"84.
مقصودنا من نقل هذا
الحديث الّذي تمسّك به
المرحوم النراقي85
هو توضيح معنى جملة
"العلماء ورثة الأنبياء"
الواردة هنا في هذا
الحديث وهنا بحوث:
1ـ ما هو المراد
بالعلماء؟
احتمل البعض أن يكون
المراد هم الأئمّة،
والصحيح أنّ المقصود هو
علماء المسلمين، بدليل أن
الأئمّة لا يُتصوّر أنّ
من مناقبهم أن يُقال فيهم
مثل ذلك، ولا يكون هذا
الحديث معرّفاً لهم بأيّ
حال.
وفي رواية أبي البختري
ورد بعد جملة "العلماء
ورثة الأنبياء" قوله:
"فانظروا علمكم هذا
عمّن تأخذونه" ولا
يُتصوّر هذا في الأئمّة
عليهم السلام، لأنّ من
اطّلع على ما ورد في
شأنهم ومنزلتهم عند رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقطع بأنّ المقصود
من العلماء في الروايتين
ليس الأئمّة وإنّما
العلماء.
وهذه المنقبة للعلماء
ليست كثيرة عليهم ولا
غرابة فيها، لكثرة ما
ورد في شأنهم من الإعظام
والتبجيل، من قبيل:
"علماء أمّتي كسائر
الأنبياء قبلي"86
و"علماء أمّتي
كأنبياء بني إسرائيل"87
، وعلى كلّ حال
فالمراد من العلماء هم
علماء الأمّة الإسلاميّة.
2ـ لعلّ معترِضاً يقول:
لا تُستفاد ولاية الفقيه
من جملة "العلماء ورثة
الأنبياء" لأنّ هذه
الوراثة قد تكون باعتبار
ما أُوتي الأنبياء من
عِلمٍ بالسنن والأحكام،
وهذا الاعتبار لا يتضمّن
ولاية شؤون الناس، لأنّ
ولايتهم أو إمامتهم
وقيادتهم إنّما تثبت
باعتبارٍ آخر غير
الاعتبار الأوّل. ولم يكن
الحديث صريحاً كصراحة
قولنا: "العلماء
بمنزلة موسى وعيسى"،
حتّى تُستفاد من ذلك
ولاية الفقهاء.
في ردّ هذا الاعتراض
أقول: إنّ المقياس في فهم
الروايات أخذاً بظواهر
ألفاظها، هو العُرف
والفهم المتعارَف، وليس
التحليل العلميّ والفحوص
المخبريّة.
ونحن نصدر في فهمنا عن
العُرف. وإذا قُدِّر
لفقيه أن يستعمل التحليل
العلميّ والدقّة
الفلسفيّة، فإنّه قد
تفوته أشياء كثيرة.
وإذا رجعنا إلى العُرف في
فهم عبارة: "العلماء
ورثة الأنبياء"
وسألنا العُرف هل أنّ هذه
العبارة تعني أنّ الفقيه
بمنزلة موسى وعيسى عليهما
السلام؟ لأجاب: نعم! لأنّ
هذه الرواية تجعل العلماء
بمنزلة الأنبياء، وبما
أنّ موسى وعيسى من
الأنبياء، فالعلماء
بمنزلة الأنبياء، وإذا
سألنا العُرف: هل أنّ
الفقيه وارث رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم؟
لأجاب: نعم، لنفس ما سبق.
فنحن لا نأخذ معنى
النبوّة على أنّه مجرّد
تلقّي الوحي أو العِلم
بالسنن والأحكام، ولئن
كان هذا الاحتمال وارداً
في صيغة المفرد فهو غير
محتمل في كلمة "الأنبياء"
بصيغة الجمع، فورود كلمة
الأنبياء بصيغة الجمع،
إنّما يُقصد به كلّ
الأنبياء، لا بما هم
أنبياء مجرّدين عن غير
تلقّي الوحي، بل بما هم
أولياء أيضاً. لأنّ تجريد
الأنبياء عن كلّ صفةٍ
وكلّ شأن غير العِلم
والوحي، وتنزيل العلماء
منزلتهم في العِلم
بالأحكام والسنن والشرائع
فقط فهم خاطئ مخالف لعُرف
العقلاء.
3 ـ وحتّى لو نزّلنا
العلماء منزلة الأنبياء
بوصفهم أنبياء فإنّه
ينبغي إعطاء جميع أحكام
المشبّه به للمشبّه.
مثلاً: إذا قُلت: فلان
بمنزلة العادل، ثُمّ
قُلت: يجب إكرام العادل،
فنحن نفهم أنّ هذا الّذي
نُزِّل منزلة العادل يجب
إكرامه، فنحن نستطيع أن
نستفيد من قوله تعالى:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنفُسِهِمْ﴾88
أنّ منصب الولاية ثابت
للعلماء أيضاً، ببيان أنّ
المراد من الأولويّة في
أقلّ
تقدير هي الولاية والإمرة
كما ورد ذلك في مجمع
البحرين تعقيباً على هذه
الآية في حديثٍ عن الإمام
الباقر عليه السلام أنّه
قال: "أنّها نزلت في
الإمرة"89
يعني في الإمارة.
فالنبيّ وليٌّ للمؤمنين،
وأميرٌ عليهم، وكلّ ذلك
ثابت للعلماء، مع أنّ
الآية ذكرت النبيّ بما هو
نبيّ من غير إضافة اعتبار
آخر.
4 ـ ولعلّ هناك من يقول
أنّ ميراث النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم
منحصرٌ في الأحاديث الّتي
تركها، ومن أخذ منها فقد
ورث النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم، ولا يثبت بذلك
وراثة الفقيه منصب
الولاية والإمرة العامّة.
والحديث لا يزيد على
توريث العِلم، وحديث أبي
البختري يقول: "إنّما
أورثوا أحاديث من
أحاديثهم".
هذا الاعتراض غير صحيح،
لأنّه قائمٌ على أساس
امتناع وراثة الولاية
والإمارة. ونحن ـ كما
تعرفون ـ نصدر في فهمنا
عن العُرف، فإذا سألنا
عقلاء الدنيا عن وارث
العرش الفلانيّ فهل يكون
جوابهم: أنّ وراثة العرش
غير ممكنة؟ أم يذكرون لنا
وريث العرش والتاج؟
والولاية كغيرها يُمكن
انتقالها إلى الآخرين في
نظر عُرف العقلاء.
وإذا نظرنا في قوله
تعالى:
﴿النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾
وتأمّلنا في قوله عليه
السلام: "العلماء ورثة
الأنبياء"
عرفنا أنّ الولاية من
الأمور الاعتباريّة الّتي
يُمكن انتقالها، وذلك غير
مستحيل عُرفاً.
وحتّى لو فرضنا أنّ جملة
"العلماء ورثة
الأنبياء" واردة في
الأئمّة عليهم السلام على
حدّ ما جاء في بعض
الروايات فلا يُراودنا
الشكّ في أنّ المراد بهذه
الوراثة هي وراثة الأئمّة
للأنبياء في جميع الأمور90،
لا في الأحكام والعلوم
فحسب.
وعلى هذا فإذا أخذنا
بجملة "العلماء ورثة
الأنبياء" وأعرضنا عن
صدر الرواية وذيلها، كنّا
مع ذلك على يقين من أنّ
جميع شؤون الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم
قابلة للانتقال والوراثة،
ومن جملتها الإمارة على
الناس، وتولّي أمورهم من
كلّ ما ثبت للأئمّة عليهم
السلام من بعده وللفقهاء
من بعد الأئمّة عليهم
السلام، يُستثنى من ذلك
ما اختصّ به النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم
نفسه، بدليلٍ خارجيّ،
ونحن نستثني ما استثناه
الدليل، ليكون كلّ ما لم
يُستثن باقياً على حاله،
ويكون العموم حجّة فيه.
وعمدة ما يُقوّي الشبهة
السابقة أنّ جملة
"العلماء ورثة الأنبياء"
وردت ضمن جمل تصلح أن
تكون قرينة على أنّ
المراد من الميراث فيها
هو ميراث الأحاديث لا
غير، كما ورد في صحيحة
قدّاح: "إنّ الأنبياء
لم يُورِّثوا ديناراً ولا
درهماً، ولكن ورّثوا
العلم" وفي رواية أبي
البختري: "لم
يُورِّثوا درهماً ولا
ديناراً، وإنّما أورثوا
أحاديث"، وأنّ
الأنبياء لم يتركوا
ميراثاً سواها، خاصّة مع
استعمال كلمة (إنّما)
في الحديث الأخير وهي
تُستعمل في الحصر. وهذه
الشبهة واهية، لأنّه إن
كان ما ورَّثه النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم هو
الأحاديث دون سواها، فإنّ
ذلك يُخالف ضرورة المذهب،
لأنّ رسول الله الّذي كان
يلي من أمور الناس كلّ
شيء، قد عيّن من بعده
والياً على الناس, أمير
المؤمنين عليه السلام،
واستمرّ انتقال الإمامة
والولاية من إمامٍ إلى
إمام إلى أن انتهى الأمر
إلى الحجّة القائم عجل
الله تعالى فرجه الشريف.
يُضاف إلى ذلك أنّ كلمة
"إنّما" لم يثبت
استعمالها للحصر دائماً،
وكلمة "إنّما" غير
موجودة في صحيحة قدّاح،
ولكنّها جاءت في رواية
أبي البختري، وقد تقدّم
أنّها ضعيفة من ناحية
السند.
لننظر في الصحيحة لنرى هل
أنّ فيها قرينة تدلّ على
انحصار الوراثة في
الأحاديث أم لا؟
"من سلك طريقاً يطلب
فيه علماً سلك الله به
طريقاً إلى الجنّة"91.
في هذه الجملة ثناءٌ على
العلماء. وفي تعريف
العالِم ارجعوا إلى ما
ورد في الكافي من بيان
صفاته ووظائفه لتعلموا
أنّ هذا الوصف لا يُطلق
على أيٍّ كان بمجرّد نيله
قسطاً يسيراً من العِلم،
بل إنّ هناك شروطاً
وقيوداً تجعل الأمر
صعباً.
"وإنّ الملائكة لتضع
أجنحتها لطالب العِلم
رضاً به".
وهذا كناية عن الاحترام
والإكبار والإجلال92.
"وإنّه ليستغفر لطالب
العِلم من في السماء ومن
في الأرض حتّى الحوت في
البحر...".
هذه الجملة بحاجة إلى
توضيح مفصّل خارج عن نطاق
بحثنا.
"وفضل العالِم على
العابد، كفضل القمر على
ساير النجوم ليلة
البدر..." ومعناها
واضح.
"وإنّ العلماء ورثة
الأنبياء...".
وهذا من فضائل العلماء
ومناقبهم بالإضافة إلى ما
تقدّم من شأنهم في هذا
الحديث. ووراثة العلماء
للأنبياء إنّما تكون
فضيلة إذا حلّوا محلّ
الأنبياء في ولاية الناس
وإدارة جميع شؤونهم.
وأمّا ذيل الحديث الّذي
ورد فيه: "إنّ
الأنبياء لم يُورِّثوا
ديناراً ولا درهماً..."93
، فليس يعني أنّهم لم
يُورِّثوا سوى العِلم
والشريعة والأحكام،
وإنّما تعني هذه الجملة
أنّ الأنبياء بالرغم ممّا
تولّوه من شؤون الناس،
وما في أيديهم من السلطة
والإمرة، لم يكن عندهم من
الجشع ما يحملهم على
الانشغال بطيّبات الحياة
وجمع الحطام، والاهتمام
بزخارف الحياة. وهذا
الأسلوب الحياتيّ البسيط
الّذي عاشه الأنبياء على
ما لديهم من الأمر، يختلف
تماماً عن التّرف والبطر
والبذخ الّذي يُمارسه
السلاطين وأعضاء الحكومات
الحاليّة الّتي يكون
تولّي الأمور فيها سبيلاً
إلى الإثراء الفاحش غير
المشروع.
وقد كانت حياة النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم في
منتهى البساطة، لم يملك
لنفسه فيها شيئاً من
المال، وقد ترك عِلماً هو
أشرف من المال، علماً
مصدره الوحي الإلهيّ
المباشر، وإنّما ذكر
العِلم أو الحديث في هذه
الروايات، في مقابل المال
وحطام الحياة.
مؤيـّدات أخرى
وإذا فرضنا أنّ ما تقدّم
من الروايات يدلّ على
ميراث العِلم بالسنن
والأحكام فقط، ولم
يُورِّث النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم غير ذلك
وحتّى لو قال النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم عليّ
وارثي، فلنفرض أنّها لا
تدلّ على خلافته وإمرته
وحكومته، فنحن في هذا
الغرض مضطّرون للرجوع إلى
النصوص الأخرى الّتي تدلّ
على خلافة عليّ بن أبي
طالب عليه السلام وعلى
ولاية الفقهاء.
مؤيـّد من الفقه
الرضويّ
في عوائد94
النراقي ص 186 الحديث 7
عن الفقه الرضويّ وردت
هذه الرواية: "منزلة
الفقيه في هذا الوقت
كمنزلة الأنبياء في بني
إسرائيل".
وبالطبع فنحن لا نعتبر
كلّ ما ورد في الفقه
الرضويّ صحيحاً، ولكن
نأخذ الحديث كمؤيّد
لموضوع بحثنا.
المراد من أنبياء بني
إسرائيل هم الفقهاء
المعاصرون لموسى
عليه
السلام ولعلّهم كانوا
يُسمّون أنبياء لجهةٍ من
الجهات، وكانوا يتّبعون
موسى ويأخذون بسيرته في
سلوكهم وأعمالهم، وكان
حينما يبعثهم في وجه،
يولّيهم شؤون الناس في
وجههم ذاك، ونحن لا نملك
معرفة دقيقة مفصّلة عن
أحوالهم، ولكنّنا نعرف
أنّ موسى عليه السلام
نفسه كان نبيّاً من
أنبياء بني إسرائيل،
وكلّما كان رسول الإسلام
صلى الله عليه وآله وسلم
قد كلّف به، فقد كلّف به
موسى عليه السلام من قبل
ـ على تفاوتٍ في الرتبة
والشرف ـ فنحن نفهم من
عموم كلمة المنزلة
الواردة في الرواية، إنّ
ما كان يتولّاه موسى من
أمر الحكومة وولاية الناس
فهو ثابت للعلماء أيضاً.
مؤيـّد آخر
في جامع الأخبار عن
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم: "أفتخر يوم
القيامة بعلماء أمّتي،
وعلماء أمّتي كساير
الأنبياء قبلي"95.
في مستدرك الوسائل نُقلت
رواية عن (الغرر) بهذا
المضمون: "العلماء
حكّام على الناس"96،
ونقلت أيضاً بلفظ:
"حكماء على الناس"97،
ولا أظن ذلك صحيحاً، لأنّ
ما جاء منقولاً عن
(الغرر) كان بلفظ
"حكّام على الناس".
وهناك مؤيّدات أخرى من
هذا النوع.
في تحف العقول98
تحت عنوان: "مجاري
الأمور والأحكام على أيدي
العلماء"99
رواية مطوّلة.
القسم الأول منها ينقل
الإمام الحسين عليه
السلام عن أبيه أمير
المؤمنين ما قاله في
الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
والقسم الثاني خطاب وجّهه
سيّد الشهداء الحسين عليه
السلام إلى الناس في
(منى) في شأن ولاية
الفقيه وواجباته في
محاربة الظلمة ودولهم،
والقضاء عليها، وإحلال
الحكومة الإسلاميّة
الشرعيّة محلّها، وذكر
فيه أسباب إعلانه الجهاد
ضدّ الدولة الأمويّة
الجائرة. ويُستفاد من هذه
الرواية أمران: أحدهما:
ولاية الفقيه.
والآخر: ضرورة قيام
الفقهاء بفضح حكّام
الجور، وزلزلة عروشهم،
وإيقاظ الناس وتوعيتهم
ثُمّ الوصول إلى تحطيم
الكيان الجائر، وإقامة
كيانٍ حكوميّ إسلاميّ
شرعيّ محلّه، والسبيل إلى
ذلك هو الجهاد والأمر
بالمعروف والنهي عن
المنكر، وهذا هو النصّ:
اعتبروا أيّها الناس بما
وعظ الله به أولياءه من
سوء ثنائه على الأحبار إذ
يقول:
﴿لَوْلاَ
يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾100 ،
وقال:
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ مِن بَنِي
إِسْرَائِيلَ ـ إلى قوله
ـ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ
يَفْعَلُونَ﴾101.
وإنّما عاب الله ذلك
عليهم لأنّهم كانوا يرون
من الظلَمة الّذين بين
أظهرهم المنكر والفساد
فلا ينهونهم عن ذلك رغبة
فيما كانوا ينالون منهم،
ورهبة ممّا يحذرون والله
يقول:
﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾102،
وقال:
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ﴾103.
فبدأ الله بالأمر
بالمعروف والنهي عن
المنكر فريضةً منه لعلمه
بأنّها إذا أُدّيت
وأُقيمت، استقامت الفرائض
كلّها هيّنها وصعبها.
وذلك أنّ الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر دعاء
إلى الإسلام مع ردّ
المظالم، ومخالفة الظالم،
وقسمة الفيء والغنائم،
وأخذ الصدقات من مواضعها
ووضعها في حقّها.
ثُمّ أنتم أيّتها
العصابة، عصابة بالعِلم
مشهورة، وبالخير مذكورة،
وبالنصيحة معروفة، وبالله
في أنفس الناس مُهابة,
يهابكم الشريف، ويُكرمكم
الضعيف، ويُؤثركم من لا
فضل لكم عليه، ولا يد لكم
عنده، تشفعون في الحوائج
إذا امتنعت من طلّابها،
وتمشون في الطريق بهيبة
الملوك وكرامة الأكابر.
أليس كلّ ذلك إنّما
نلتموه بما يُرجى عندكم
من القيام بحقّ الله
وإن كنتم عن أكثر حقّه
تُقصِّرون؟ فاستخففتم
بحقّ الأمّة، فأمّا حقّ
الضعفاء فضيّعتم، وأمّا
حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا
مالاً بذلتم، ولا نفساً
خاطرتم بها للّذي خلقها،
ولا عشيرة عاديتم في ذات
الله. أنتم تتمنّون على
الله جنّته ومجاورة رسله
وأماناً من عذابه.
لقد خشيت عليكم أيّها
المتمنّون على الله أن
تحلّ نقمة من نقماته
لأنّكم بلغتم من كرامة
الله منزلةً فضّلتم بها،
ومن يعرف بالله لا
تُكرمون، وأنتم بالله في
عباده تُكرمون.
وقد ترون عهود الله
منقوضة فلا تفزعون، وأنتم
لبعض ذمم آبائكم تفزعون،
وذمّة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم محقورة،
والعمي والبكم والزمن في
المدائن مهملة لا ترحمون،
ولا في منزلتكم تعملون،
ولا من فيها تُعينون،
وبالإدهان والمصانعة عند
الظلمة تأمنون.
كلّ ذلك ممّا أمركم الله
به من النهي والتناهي
وأنتم عنه غافلون. وأنتم
أعظم الناس مصيبة لما
غلبتم عليه من منازل
العلماء لو كنتم تسمعون.
ذلك بأنّ مجاري الأمور
والأحكام على أيدي
العلماء بالله الأمناء
على حلاله وحرامه.
فأنتم المسلوبون تلك
المنزلة، ما سُلبتم ذلك
إلّا بتفرّقكم عن الحقّ
واختلافكم في السنّة بعد
البيّنة الواضحة. ولو
صبرتم على الأذى،
وتحمّلتم المؤونة في ذات
الله كانت أمور الله
عليكم ترد وعنكم تصدر
وإليكم ترجع ولكنّكم
مكّنتم الظّلمة من
منزلتكم وأسلمتم أمور
الله في أيديهم, يعملون
بالشبهات ويسيرون في
الشهوات. سلّطهم على ذلك
فراركم
من الموت وإعجابكم
بالحياة الّتي هي
مفارقتكم، فأسلمتم
الضعفاء في أيديهم، فمن
بين مستعبد مقهور وبين
مستضعَف على معيشته
مغلوب، يتقلّبون في الملك
بآرائهم، ويستشعرون الخزي
بأهوائهم اقتداءً
بالأشرار وجرأةً على
الجبّار، في كلّ بلدٍ
منهم على منبره خطيب يصقع،
فالأرض شاغرة وأيديهم
فيها مبسوطة، والناس لهم
خول، لا يدفعون يد لامس،
فمن بين جبّارٍ عنيد وذي
سطوةٍ على الضعفة شديد
مطاع لا يعرف المبدئ
والمعيد، فيا عجباً ومالي
لا أعجب والأرض من غاش
غشوم ومتصدّق ظلوم، وعامل
على المؤمنين بهم غير
رحيم. فالله الحاكم فيما
فيه تنازعنا، والقاضي
بحكمه فيما شجر بيننا..
"اللّهمّ إنّك تعلم أنّه
لم يكن ما كان منّا
تنافساً في سلطان ولا
التماساً من فُضول
الحطام، ولكن لنُري
المعالم من دينك ونُظهر
الإصلاح في بلادك ويأمن
المظلومون من عبادك،
ويُعمل بفرائضك وسننك
وأحكامك. فإن لم تنصرونا
وتُنصفونا، قوي الظلمة
عليكم وعملوا في إطفاء
نور نبيّكم، وحسبنا الله
وعليه توكّلنا وإليه
أنبنا وإليه المصير"104.
فهو عليه السلام يقول:
"اعتبروا أيّها الناس بما
وعظ الله به أولياءه من
سوء ثنائه على الأحبار"105.
وهذا الخطاب لا يخصّ من
واجههم الإمام وشافههم من
حاضري مجلسه، أو
الموجودين في (منى) أو
الناس كلّهم في ذلك
العصر، وإنّما هو عامٌّ
يشمل جميع الناس في كلّ
زمان ومكان وهو من ناحية
عمومه وشموله نظير خطابه
تعالى المتكرِّر في
القرآن بقوله:
﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
والمقصود بالأولياء في
هذه الفقرة هم أهل الله
المتّجهون إليه الّذين
يتحمّلون مسؤوليّاتهم
المعروفة، وليس المقصود
من ذلك الأئمّة عليهم
السلام.
"إذ يقول:
﴿لَوْلاَ
يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ مَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ﴾106".
وبديهيّ أنّ هذا اللوم
والتوبيخ لا يخصّ علماء
اليهود والنصارى فقط، بل
يشمل علماء الإسلام أيضاً
إذا سكتوا على ما يرون من
أعمال الجور والظلم.
وبديهيّ أنّ هذا اللوم لا
يخصّ جيلاً سابقاً من
العلماء، فقط، وإنّما
الأجيال الماضية والحاضرة
والّتي ستوجد، هم في ذلك
سواء.
فالإمام أمير المؤمنين
عليه السلام يستشهد
بالقرآن ليذكّر علماء
الإسلام ويحملهم على
الاعتبار واليقظة وأداء
ما يجب من الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وإنكار
الظلم ومنع إقراره
والسكوت عليه. ويشير
الإمام في استشهاده
بالآية الكريمة إلى
نقطتين:
1 ـ إنّ تقاعس العلماء
وسكوتهم أشدّ ضرراً من
تقاعس من سواهم،
فالمخالفة أو المعصية
الصادرة من شخصٍ عاديّ،
لا يتجاوز ضررها في
الغالب نفسه، بينما يكون
فيما يصدر عن العالِم من
مخالفة ومعصية أو سكوت
على الظلم ضررٌ عظيم على
الإسلام كلّه، وإذا عمل
بواجبه على الوجه الأكمل
وتكلّم حيث ينبغي
التكلّم، فإنّ نفع ذلك
يعود على الإسلام كلّه
أيضاً.
2 ـ إعطاء أهميّة بالغة
لقول الإثم وأكل السحت،
باعتبارهما من المنكرات
البشعة، ولعلّهما أشدّ
خطراً من سائر المنكرات
ويجب محاربتهما بشدّة،
فبعض ما يصدر عن أجهزة
حكّام الجور من كلامٍ أو
تصريح قد يكون أشدّ ضرراً
وخطراً على الإسلام
وسمعته من سياستهم
المنحرفة وأعمالهم
الشرّيرة وغير المشروعة.
فالله في هذه الآية يلوم
كلّ من يسكت على قول
الإثم ولا يُنكره أو
يُحاول تغييره، وهو يدعو
إلى تكذيب كلّ من يدّعي
خلافة الله بغير حقٍّ أو
يدّعي أنّه يُمثّل
الدِّين في تصرّفاته
وأفعاله المخالفة لأحكام
الدِّين أو يدّعي العدالة
لنفسه في حين تبرأ
العدالة منه.
وقد ورد في الحديث: "إذا
ظهرت البدع في أمّتي
فليُظهر العالِم علمه فمن
لم يفعل فعليه لعنة
الله"107.
فمخالفة العالِم لأهل
البدع، وبيانه لأحكام
الله وتعاليمه المناهضة
للمبدعين والظلمة والعصاة،
يحمل عامّة الناس على
اكتشاف الفساد
الاجتماعيّ، الناتج عن
مظالم الحكّام الخائنين
الفاسقين الكافرين،
ويحملهم
بعد ذلك على مقاومتهم
ومقاطعتهم أو التمرّد
عليهم وعلى أوامرهم
الصادرة عن مواقف الخيانة
والظلم والفساد.
فالعالِم في مواقفه
المتصلّبة الشديدة يقود
عمليّة النهي عن المنكر
الّتي تستتبع أن يقتدي
الناس به بمجموعهم
وجماهيرهم ضدّ السلطة
المنحرفة، حتّى إذا لم
ترجع السلطة عن غيّها،
ولم تلتزم بما أمر الله،
وعمدت إلى استخدام السلاح
في وجوه الناس، اعتبرها
الناس حينذاك فئة باغية
يجب على الناس قتالها
حتّى تفيئ إلى أمر الله.
وأنتم اليوم لا تملكون
القدرة على مقاومة بدع
الحكّام، أو دفع هذه
المفاسد دفعاً تامّاً،
ولكن لماذا السكوت؟ هؤلاء
يُذلّونكم فاصرخوا في
وجوههم على الأقل،
واعترضوا، وأنكروا،
وكذّبوهم، لا بُدّ في
مقابل ما يملكون من وسائل
النشر والإعلام أن يكون
في جانبكم شيء من تلك
الوسائل حتّى تُكذّبوا ما
ينشرون وما يبثّون, من
أجل أن تُظهروا للناس أنّ
ما يدّعونه من العدالة
ليس من العدالة
الإسلاميّة في شيء.
فالعدالة الإسلاميّة
الّتي منحها الله للفرد
والمجتمع والعائلة قد
دُوِّنت وشُرِّعت بكلّ
دقّة من أوّل يوم. يجب أن
يكون لكم صوت مسموع حتّى
لا تتّخذ الأجيال القادمة
من سكوتكم ما يُبرِّر
أعمال الظلمة من قول
الإثم وأكل السحت، وأكل
أموال الناس بالباطل.
وما أشدّ ضيق التفكير لدى
بعض الناس حين يتصوّر أنّ
المراد من
أكل
السحت لا يكاد يتجاوز
النقص في الميزان والبخس
في المكيال ـ والعياذ
بالله ـ ولا يدور في خلده
ما يجري من أكل السحت
بالأشكال الفظيعة الأخرى،
من اختلاس أموال الشعب
كلّها، وابتلاع بيت المال
كلّه. هؤلاء يسرقون نفطنا،
ويبيعونه في أسواق
الاحتكارات الأجنبيّة تحت
اسم الاستثمارات، وعن هذا
الطريق يصلون إلى الإثراء
غير المشروع. وتتعاون على
نفطنا عدّة دول أجنبيّة
تستخرجه وتُسوّقه108 ،
وتُعطي قباله أجراً
زهيداً تُسلّمه إلى
عملائها من الحّكام،
ليُعاد إليها مرّة أخرى
بكلّ وسيلة ممكنة، وإذا
وصل إلى خزينة الدولة شيء
فلا يعلم إلّا الله, كيف
يُصرف وكيف يُنفق ومتى
وأين؟
هذا أكلٌ للسحت على نطاقٍ
عالميّ، وهو منكرٌ فظيع
خطر، ليس هناك ما هو أشدّ
منه فظاعةً وخطراً ونكراً.
تأمّلوا في أوضاع
مجتمعنا، وفي أعمال
الدولة وأجهزتها لتتبيّن
لكم أشكال فظيعة من أكل
السحت. فإذا حدثت زلزلة
في مكانٍ ما من
البلاد
غنم بذلك الحكّام قبل
المنكوبين أموالاً طائلة.
في المعاهدات
والاتفاقيّات المعقودة
بين الحكّام الخائنين مع
الدول أو الشركات
الأجنبيّة، تنصبّ في جيوب
الحكّام ملايين كثيرة،
وتنصبّ ملايين أخرى في
جيوب الأجانب، من دون أن
يحصل أبناء الشعب على
شيءٍ من ثروات بلادهم.
هذه أشكالٌ من أكل السحت
تجري بمسمعٍ منّا ومرأى،
وما لا نعلمه كثير. ونظير
ذلك يقع في الاتفاقيّات
التجاريّة وامتيازات
التنقيب عن النفط
واستخراجه، وامتيازات
استثمار الغابات، وسائر
الموارد الطبيعيّة،
والاتفاقيّات العمرانيّة
أو ما يتّصل بالمواصلات
وشراء الأسلحة من
الاستعماريّين الغربيّين
او الشيوعيّين.
يجب علينا أن نُقاوم أكل
السحت وانتهاب الثروات
الوطنيّة، وهذا واجب على
جميع الناس، ولكنّ مهمّة
العلماء في هذا أشدّ وطأة
وأكثر أهميّة، ونحن يجب
علينا في هذا الجهاد
المقدّس والواجب الخطير
أن نسبق سائر الناس بحكم
مهمّتنا وموقفنا، ولئن
كنّا اليوم نفقد القدرة
على المقاومة وصدّ
الخائنين وآكلي السحت
ومنتهبي أموال الشعب،
وإنزال العقوبة بهم،
فإنّه يجب علينا أن نسعى
لتحصيلها بجميع الوسائل
المشروعة، وعلينا أن لا
نُفرِّط على الأقل ـ ونحن
في مسيرتنا هذه نحو
القوّة ـ بإظهار الحقائق،
وفضح عمليّات السلب
والنهب الّتي تتعرّض لها
البلاد، وإذا وصلنا إلى
القوّة فإنّنا لا نكتفي
بتحسين الاقتصاد. والحكم
بين الناس بالقسط، بل
نُذيق هؤلاء الخونة
المجرمين سوء العذاب بما
كانوا يعملون.
لقد أحرقوا المسجد
الأقصى، ونحن نصرخ: دعوا
آثار الجريمة ، في حين
يفتح نظام الشاه اكتتاباً
في البنوك لإعادة بناء
وترميم المسجد الأقصى،
وعن هذا الطريق يملأ
جيوبه وخزائنه ويزيد في
أرصدته، وبعد ترميم
المسجد يكون قد غطّى وستر
كلّ آثار الجريمة109
الصهيونية.
هذه مصائب أحاطت بالأمّة،
ووصلت بها إلى هذا
المصير، ألا ينبغي أن
يقول العلماء في ذلك
رأيهم، ويصرخوا ويُنكروا
ويُقاوموا؟ }لَوْلاَ
يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ{110
ثمّ يقول الإمام: "وإنّما
عاب الله ذلك عليهم
لأنّهم كانوا يرون من
الظلمة الّذين بين أظهرهم
المنكر والفساد فلا
ينهونهم عن ذلك, رغبةً
فيما كانوا ينالون منهم،
ورهبةً ممّا يحذرون"111.
فالله يعيب على المفرّطين
بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر خوفاً وطمعاً
ويقول:﴿فَلاَ
تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾112.
لماذا الخوف؟ فليكن
حبساً، أو نفياً، أو
قتلاً، فإنّ أولياء الله
يشرون أنفسهم ابتغاء
مرضاة الله
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ﴾113.
ثمّ يقول عليه السلام:
"فبدأ الله بالأمر
بالمعروف والنهي عن
المنكر فريضة منه, لعلمه
بأنّها إذا أُدّيت
وأُقيمت استقامت الفرائض
كلّها هيّنها وصعبها،
وذلك أنّ الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر دعاءٌ
إلى الإسلام، مع ردّ
المظالم ومخالفة الظالم
وقسمة الفيء والغنائم،
وأخذ الصدقات من مواضعها
ووضعها في حقّها"114.
ولهذه العظائم شرّع
الإسلام وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن
المنكر لا لصغار الأمور
فقط ممّا نرى ونسمع
يوميّاً، وإن وجب إنكارها
والردع عنها.
ماذا يضرّ لو هبّ العلماء
وصاروا يداً واحدة في وجه
الظلم؟ ما ضرّهم لو
اعترضوا جميعاً وأرسلوا
البرقيّات من جميع أنحاء
العالم
الإسلاميّ، يستنكرون فيها
الأعمال الجائرة الّتي
تقوم بها السلطات؟ إذن
لتراجعوا تحت تأثير ذلك
الضغط الهائل، فهم جبناء
كما أعرفهم، ولكنّهم حين
عرفوا فينا الضعف جالوا
وصالوا.
أيّام كان العلماء يداً
واحدة ومن ورائهم الشعب
في كلّ أنحاء البلاد
تراجعت السلطة عن مواقفها115، ثُمّ عادت لتغرس فينا
بذور الشقاق والخلاف.
ونتج عن ذلك أن تجرّأت
السلطة فكانت بعدها تعمل
ما تشاء وتختار ما كان
لأحد من الناس الخيرة في
أمره.
فالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر دعاءٌ إلى
الإسلام مع ردّ المظالم
ومخالفة الظالم، فينبغي
توجيه أكبر قدر من الأمر
والنهي إلى العابثين
بأرواح الناس وأموالهم
وممتلكاتهم.
وقد تطفو على سطح بعض
الصحف بعض أعمال السلب
والاختلاس فيما يتعلّق
بالتبرّعات الخاصّة
بإغاثة منكوبي الفيضانات
والسيول أو الزلازل.
أحد علماء "ملاير" كان
يقول: في حادثة ذهب
ضحيّتها الكثيرون أرسلنا
سيارة شحن مليئة
بالأكفان. إلّا أنّ
المسؤولين كانوا يمانعوننا في إيصالها،
ويُريدون أن يأكلوها!
لأجل هذا وأمثاله من
الآثام قد ورد
التأكيد
على الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
الآن أسألكم: ألا نعتبر
بخطاب الإمام حين يقول:
أيّها الناس؟ ألسنا من
الناس؟ أليس الخطاب
شاملاً لنا؟ هل كانت
خطابات الإمام مقصورة على
أصحابه ومعاصريه؟
وقد قلت سابقاً أنّ
تعاليم الأئمّة كتعاليم
القرآن لا تخصّ جيلاً
خاصّاً وإنّما هي تعاليم
للجميع في كلّ عصر ومصر
وإلى يوم القيامة يجب
تنفيذها واتّباعها. فكما
يُلام الأحبار
والربّانيّون على سكوتهم
الّذي لا مبرّر له كذلك
يُلام العلماء إذا سكتوا
على الضيم ولم يُنكروه أو
يُحاولوا تغييره بكلّ ما
أوتوا من قوّة.
ثُمّ يُوجّه خطابه إلى
فئة من علماء الإسلام:
"عصابة بالعلم مشهورة
وبالخير مذكورة وبالنصيحة
معروفة وبالله في أنفس
الناس مُهابة، يهابكم
الشريف ويُكرمكم الضعيف
ويُؤثركم من لا فضل لكم
عليه ولا يد لكم عنده،
تشفعون في الحوائج إذا
امتنعت من طلّابها وتمشون
في الطريق بهيبة الملوك
وكرامة الأكابر، أليس كلّ
ذلك إنّما نلتموه بما
يُرجى عندكم من القيام
بحقّ الله.
وإن كنتم عن أكثر حقّه
تُقصّرون، فاستخففتم بحقّ
الأمّة، فأمّا حقّ
الضعفاء فضيّعتم، وأمّا
حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا
مالاً بذلتموه ولا نفساً
خاطرتم بها للّذي خلقها
ولا عشيرة عاديتموها في
ذات الله. أنتم تتمنّون
على الله جنّته ومجاورة
رسله وأماناً من عذابه.
لقد خشيت عليكم أيّها
المتمنّون على الله أن
تحلّ بكم نقمة من نقماته
لأنّكم بلغتم
من
كرامة الله منزلةً
فُضّلتم بها ومن يعرف
بالله لا تُكرمون، وأنتم
بالله في عباده تُكرمون.
وقد ترون عهود الله
منقوصة فلا تفزعون وأنتم
لبعض ذمم آبائكم تفزعون،
وذمّة رسول الله مخفورة".
ويستمر الإمام في التحدّث
إلى الناس وتوجيه بعض
اللوم إليهم فيقول:
"والعمي والبكم والزُّمن116
في المدائن مهملة لا
ترحمون"117.
أتظنّون أنّ ما تضجّ به
أجهزة الإعلام صحيح كلّه؟
اذهبوا إلى القرى
والأرياف فلا تكادون
تجدون في كلّ مائة قرية
أو مائتين مصحّاً أو
مستشفى واحداً! لم
يُفكّروا في الجياع
العراة، ولم يدعوهم
يُفكّروا، ولم يدعوا
الإسلام يحلّ معضلتهم.
فالإسلام ـ كما تعرفون ـ
حلّ مشكلة الفقر وقرّر في
أوّل الأمر:
﴿إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاء...﴾118.
وقد رتّب الإسلام ذلك
ونظّمه، ولكنّهم لا
يتركون للإسلام إلى
المسلمين سبيلاً.
الأمّة تعيش حالة الشظف119،
والسلطات تُمعن إسرافاً
في الأموال، وتُمعن في
زيادة الضرائب، تشتري
طائرات الفانتوم ليتدرّب
عليها الإسرائيليّون،
وبما أنّ إسرائيل في حالة
حرب مع المسلمين فكلّ من
يُساعدها ويُساندها يكون
هو بدوره في حالة حرب مع
المسلمين، وقد بلغ النفوذ
الإسرائيليّ في بلدنا
حدّاً لا يُطاق، حتّى أنّ
العسكريّين
العسكريّين الإسرائيليّين
يتخذون من أراضينا قواعد
لهم، وأسواقاً لبضائعهم
ممّا سيؤدّي إلى اندحار
أسواق المسلمين
تدريجيّاً.
وهكذا ترون أنّ الحديث
كلّه يدور حول العلماء
بالله عامّة، ولا يخصّ
مفهوم "العلماء بالله"
الأئمّة عليهم السلام،
لأنّ علماء الإسلام علماء
بالله وربّانيّون وحافظون
لحدود الله وأمناء على
حلاله وحرامه.
وحين يقول عليه السلام:
"إنّ مجاري الأمور
والأحكام على أيدي
العلماء بالله الأمناء
على حلاله وحرامه"120 فهو لا
يقصد علماء ذلك الجيل
خاصّة، بل إنّما يقصد
علماء أمّة بأكملها.
وإذا كان العلماء أمناء
على الحلال والحرام،
وجمعوا إلى علمهم العدالة
وحسن السيرة كان بإمكانهم
تولّي الأمور وإقامة
الحدود، وإقرار نظام
الدِّين، فلا بؤس ولا
مسكنة ولا مسغبة ولا
تعطيل للأحكام.
هذه الرواية من مؤيّدات
بحثنا، ولولا ضعف سندها
لاعتبرناها من أقوى أدلّة
موضوعنا إن لم نقل أنّ
مضامينها تدلّ على صحّة
صدورها عن المعصوم عليه
السلام.
إلى هنا ننتهي من بحث
موضوع ولاية الفقيه. ولا
حاجة إلى الدخول في فروع
البحث من رسم كيفيّة
جباية الضرائب، وعلى أيّ
نحو تُقام الحدود، فتلك
بحوث فرعيّة لا يتّسع لها
صدر هذا البحث. وقد بحثنا
أصل الموضوع وهو ولاية
الفقيه أو الحكومة
الإسلاميّة، وتبيّن لنا
أنّ ما ثبت للرسول صلى
الله عليه وآله وسلم
والأئمّة عليهم السلام
فهو ثابت للفقيه. ولا شكّ
يعتري
هذا الموضوع، وليس
الموضوع جديداً ابتدعناه،
وإنّما المسألة بُحثت من
أوّل الأمر.
عندما حكم المرحوم
الميرزا الشيرازي121 بحرمة التنباك كان صادراً في
حكمه عن موقف ولاية
الفقيه العامّة على الناس
والفقهاء الآخرين، وكان
فقهاء إيران ـ باستثناء
قلّة منهم ـ قد التزموا
بهذا الحكم. ولم يكن حكمه
ذاك قضاءً في نزاع أو
خلاف بين اثنين، وإنّما
كان حكماً حكوميّاً روعيت
فيه مصالح المسلمين بحسب
الوقت والظروف والملابسات
وبارتفاع تلك الظروف
ارتفع الحكم.
المرحوم ميرزا محمّد تقي
الشيرازي122 حين أفتى
بالجهاد ـ الدفاع ـ
واتّبعه العلماء في ذلك،
كان حكمه صادراً عن موقف
حكومته وولايته الشرعيّة
العامّة.
وقد ذكرت لكم أنّ المرحوم
النراقيّ ـ من المتأخّرين
ـ يرى أنّ جميع شؤون رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم ثابتة للفقهاء، مع
استثناء ما استُثني من
شؤونه الخاصّة. وكان
المرحوم الشيخ النائينيّ
يقول: إنّ هذا الموضوع
يُستفاد كلّه من مقبولة
(عمر بن حنظلة).
وعلى كلّ حال فالموضوع
ليس جديداً، وقد اكتفينا
بتقريب موضوع
الحكومة الشرعيّة إلى
السادة الأجلّاء،
واتّباعاً لأمر الله في
كتابه وعلى لسان نبيّه
صلى الله عليه وآله وسلم
فقد بيّنا ما تمسّ الحاجة
إليه من المواضيع الّتي
نحتاجها في حياتنا، ولكنّ
الموضوع هو الموضوع الّذي
فهمه واقتنع به الكثيرون.
وقد طرحنا الموضوع على
بساط البحث، فعلى أجيال
الغد أن تتعمّق بعزمٍ
وثبات وروح مثابرة لا
سبيل لليأس والقنوط
إليها. وسيوفّقون بإذن
الله إلى التوصّل إلى
تشكيل الحكومة، وتنظيم
سائر الشؤون بتبادل وجهات
النظر المخلصة الموضوعيّة
النزيهة، وتتسلّم بإذن
الله أعمال الحكومة
الإسلاميّة أيدٍ أمينة
عارفة خبيرة وحكيمة
رساليّة ذات عقيدة راسخة،
وتقطع أيدي الخونة الّتي
تمتدّ إلى الحكم أو الوطن
أو بيت مال المسلمين،
وإنّ الله على نصرهم
لقدير.
|