الفصل الأول: مكانة المسجد
المسجد محور الحركة الإسلامية

عندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة ليبدأ بصياغة معالم المجتمع الإسلامي كانت أول خطوة قام بها صلى الله عليه وآله وسلم أن بنى مسجد المدينة، كخطوة أولى وكحجر أساس لهذا المجتمع، ومنذ تلك اللحظة صار المسجد محور الحركة الإسلامية كلها في المجتمع ليس كمجرد عرف تعارف عليه المسلمون، بل شرع ومنهج أكدت عليه الروايات وأكد عليه القرآن الكريم بالإضافة إلى سيرتهم عليه السلام كما سيظهر جلياً خلال طيات هذا الكتاب.

وقد شددت الروايات على ضرورة احترام هذه المركزية وحفظها حتى ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لجار المسجد صلاة إذا لم يشهد المكتوبة في المسجد، إذا كان فارغاً صحيحاً".

فهذه الرواية تؤكد على المسلم وتنبه إلى ضرورة أداء الصلاة الواجبة في المسجد، وتحث جار المسجد على حضور صلاة الفريضة فيه ما لم يكن معذوراً لمرض أو غيره من الأعذار الشرعية.

من هو جار المسجد؟

ربما يتصور البعض أن الجار هو من كان بيته ملاصقاً للمسجد،

11


ولكن الروايات تفسره بأوسع من ذلك بكثير، حيث اعتبرت أن الجيرة تمتد لمسافة أربعين داراً، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حريم المسجد أربعون ذراعاً والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها".1

وبعضها فسَّرت الجار بأنه من سمع النداء" أي الآذان"، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد، إلاّ أن يكون له عذر أو به علة، فقيل ومن جار المسجد يا أمير المؤمنين ؟ قال: " من سمع النداء".

فإذا كانت أوقات الصلاة الفريضة ثلاث فهذا يعني انه سيتردد إلى المسجد يومياً ثلاث مرات، وهذا بالطبع سيعطي المسجد صفة المحورية بالنسبة لحركة الإنسان المسلم.

وعندما هاجر الإمام الخميني قدس سره بالشعب المسلم في إيران من حكم الفراعنة ومجتمع الملوك، والسلاطين، إلى حكم الله تعالى ومجتمع التوحيد العملي، عاد ليضع حجر الأساس لهذا المجتمع ويؤكد عليه من جديد ألا وهو المسجد.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "اسعوا في إعادة المساجد إلى ما كانت عليه في صدر الإسلام، ولتنتبهوا إلى انه ليس في الإسلام عزلة أو اعتزال"
2.


12


ويوضح في كلمة أخرى ما هو المقصود بالضبط من إعادة المسجد إلى ما كان عليه في صدر الإسلام فيقول: "كان المسجد في الإسلام وفي صدر الإسلام دوماً مركزاً للتحرك الإسلامي وكان الإعلام الإسلامي يبدأ من المسجد، وتنطلق الجيوش وقوى المسلمين منه لدحر الكفار وإدخالهم تحت لواء الإسلام. فالمسجد في صدر الإسلام كان مركزاً للتحرك والانطلاق دوماً"3.

فالمسجد ليس مجرد مرجع روحي للفرد المسلم بل هو محور لعمل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي أيضاً.

رمزية المسجد:

إن الأمام الخميني قدس سره يعرض مفهوم المسجد ليس من جهة كونه بناء يتردد إليه الناس في أوقات من النهار، بل يتوسع بهذا المفهوم، ليجعله يشير إلى ساحات معينة يصل الإنسان المخلص في كل نشأة من نشآت وجوده. فهو المعنوية التي تعبر عن الاتصال بالله سبحانه وتعالى، والتوجه والانقياد إليه سبحانه.

ويشير الإمام الخميني قدس سره إلى ثلاث من هذه النشآت:

أ: النشأة الطبيعية والمرتبة الظاهرية الدنيوية، ومكانها أرض الطبيعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"
4.


13


ويقول قدس سره: "فللسالك أن يفهم نفسه ويذوق بذائقة روحه أن دار الطبيعة هي مسجد عبادة الحق وانه قدم إلى هذه النشأة لأجل هذا المقصد كما يقول الحق جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ..."5.

وإذا كانت الدنيا كلها مسجداً فهذا يعني أن المؤمن فيها بحالة اعتكاف مستمر. يقول الإمام الخميني قدس سره: "فإذا وجد دار الطبيعة مسجداً للعبادة ورأى نفسه معتكفاً فيه، لا بد وان يقوم بآدابه ويصوم عن تذكر غير الحق، وألاّ يخرج عن مسجد العبودية إلاّ بقدر الحاجة.

فإذا انقضت حاجته يعود ولا يستأنس بغير الحق ولا يتعلق قلبه بغيره، فإن هذا كله خلاف آداب العكوف على باب الله..."6.

2ـ مرتبة القوى الظاهرة والباطنة التي هي جنود ملكية وملكوتية للنفس، ومحلها الأرض الطبيعية الإنسانية، وهي هذه البنية والبدن
7.

حيث يجعل هذه النفس مسجداً يحرم دخول الشياطين عليه ويسجد فيها جنود النفس. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وأدب السالك في هذا المقام أن يفهم باطن قلبه بأن أرض الطبيعة نفسه وهي مسجد الربوبية ومحل السجدة للجنود الرحمانية"
8.

وأحكام المسجدية تسري عليه. فلا يجوز تنجيسه بنجاسات


14


الأعمال الشيطانية والهوى. يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلا ينجسها بقاذورات تصرف إبليس كي تشرق أرض الطبيعة بشروق نور الرب وتخرج عن ظلمة البعد عن الساحة الربوبية وكدورته. فيرى قواه الملكية الملكوتية معتكفة في مسجد البدن ويعامل بدنه معاملة المسجد. ومع قواه بعين العكوف إلى فناء الله، وتكليف السالك في هذا المقام أكثر لأن تنظيف المسجد وطهارته أيضاً على عهدته كما انه بنفسه أيضاً يتكفل أدب المعتكفين في هذا المسجد"9.

3ـ "النشأة الغيبية للسالك ومحلها البدن البرزخي الغيبي للنفس الذي يتكون بإنشاء النفس وخلاقيتها"
10. وهذه النشأة تعتبر الأساس ولها انعكاسها على باقي النشآت. ويشير إلى ذلك الإمام الخميني قدس سره: "والأدب للسالك في هذا المقام أن يذوق نفسه أن التفاوت بين هذا المقام والمقامات الأخر كثير وحفظ هذا المقام هو من مهمات السلوك لأن القلب هو إمام المعتكفين في هذا الجانب وبفساده يفسد الجميع، إذا فسد العالِم فسد العالَم"11.

ويختلف هذا المقام عن المقامين السابقين لأن تكليف الإنسان لا ينحصر بتطهيره ورفع الدنس منه والتعامل معه كمسجد، بل هو مكلف ببناء هذا المسجد من الأساس، فهذا يختلف عن سابقيه في أن بناء


15


هذا المسجد النفسي عهدته على الإنسان فعليه أن يبدأ بهذا البناء ليصل بعد ذلك إلى الاعتكاف. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وتكاليف السالك في هذا المقام تكون أكثر من هذين المقامين لأنه قد كلف بناء المسجد أيضاً بنفسه ومن الممكن لا سمح الله أن يكون مسجده مسجد ضرار وكفر وتفريق بين المسلمين، ولا يجوز في هذا المسجد الملكوتي الإلهي بيد التصرف الرحماني وبيد الولاية وطهر بنفسه هذا المسجد عن جميع القاذورات والتصرفات الشيطانية واعتكف فيه فلا بد له أن يجاهد حتى يخرج نفسه من العكوف في المسجد ويعتكف بفناء صاحب المسجد فإذا تطهّر عن التملق بالنفس وخرج عن قيد نفسه يصير هو بنفسه منزلاً للحق بل مسجداً للربوبية ويثني الحق على نفسه في ذاك المسجد بالتجليات الفعلية ثم الاسمائية ثم الذاتية وهذا الثناء هو صلاة الرب يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح"12.

وبعد كل هذا يتضح أن حجر الأساس للمجتمع الإسلامي ومحور حركة الإسلام المسلم الرسالي، كل ذلك تختصره كلمة " المسجد"!

فما هو المسجد؟

المسجد بيت الله

﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ً13.


16



أن يكون الشيء لله سبحانه وتعالى فهذا يعني أن هذا الشيء هو خير محض ومحور هداية وصفاء إلهي في سماء هذه الدنيا الملبدة بغيوم الوهم والضياع.

أن يكون الشيء لله فهذا يعني انه رافد إلهي يستمد منه الإنسان زاده في هذه الدنيا القاحلة الجرداء لو لا هذه الروافد.

هذا إذا كان الشيء لله سبحانه وتعالى، ولكن المسجد ليس مجرد شيء لله سبحانه بل هو بيت الله كما تصفه الروايات.

فعن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"14.

فما المقصود من كلمة "بيت الله

بيت الشيء هو الذي يتوقع أن يصاب فيه هذا الشيء فبيت المال ـ مثلاً ـ هو المكان الذي تجمع فيه الأموال لتوزع بعد ذلك بين الناس. وبيت الإنسان هو المكان الذي يمكن أن تقصده فيه لتجده وتستفيد منه في حاجتك، وهكذا كل شيء جعلنا له بيتا...

وبيت الله هو المكان الذي يُتوقع فيه الاتصال مع الله تعالى والحصول على عونه وطلب الخير منه، حيث يكون الإنسان في المسجد أقرب إلى الله تعالى من الجهة الروحية، منقطعاً عن العوامل التي تشغله وتمنعه من التوجه إلى الله.

وقد نتساءل هنا: على ماذا سنحصل في المسجد يا ترى؟


17


فبيت المال نجد فيه المال، وبيت السلاح نجد فيه السلاح، وهكذا... فكلمة الله تعالى ماذا أرادت أن تختصر، وبالتالي ماذا يمكننا أن نجد في بيت الله؟

بعض الناس قد يقصدون المسجد للعبادة فقط.

وبعضهم يقصدونه لطب الرحمة والمغفرة.

وآخرون يقصدونه لطب التوفيق في الدنيا...

فهل المسجد بيت يتوقع فيه مغفرة الذنوب فقط؟ أو يتوقع فيه التوفيق في الدنيا فقط؟ أم هو للعبادة فقط؟

لو كان المطلوب من المسجد أحد هذه الأمور دون غيرها لكان المناسب أن نسميه بها. فنقول: بيت الرحمة، أو بيت المغفرة، أو بيت العبادة...

لكننا نجد أن الإسلام لم يسمه بهذه الأسماء بل سماه " بيت الله"، فما ميزة هذا الاسم المقدس "الله

ميزته انه لا يشير إلى صفة إلهية دون غيرها من الصفات، وإنما هو جامع للصفات كلها، وقد قال تعالى عن نفسه
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ15.

وعليه فبيت الله هو بيت شامل يتوقع فيه كل شيء له علاقة

بالصفات الإلهية، فهو منطلق لكل الخيرات على جميع المستويات، كما اخبر عن نفسه "الحمد لله"، فكل خير وكل أمر يستحق الثناء هو لله تعالى، والمسجد هو بيته ومركزه، وسنذكر ذلك بالتفصيل في الفصول القادمة إن شاء الله تعالى.

فما هو تكليفنا تجاه هذه البيت وهذه النعمة؟


18


هوامش
1- وسائل الشيعة ج3، ص478.
2- الكلمات القصار ص64.
3- منهجية الثورة، ص478.
4- الآداب المعنوية للصلاة، ص185.
5- نفس المصدر، ص185.
6- الآداب المعنوية للصلاة، ص185ـ 186.
7- نفس المصدر. ص186.
8- نفس المصدر، ص186.
9- نفس المصدر، ص186.
10- الآداب المعنوية للصلاة، ص168.
11- نفس المصدر، ص186، 187.
12- الآداب المعنوية للصلاة، ص187.
13- سورة الجن، الآية 18.

14- بحار الأنوار، ج77، ص 308.
15- البقرة:115