الدرس الأوّل: الجزيرة العربيـّة قبل الإسلام

أهداف الدرس

أن يستطلع الطالب جغرافيّة شبه الجزيرة العربيّّة.
أن يُدرك مقوّمات العصر الجاهليّ.
أن يُحدِّد ملامح الحياة السياسيّّة في الجزيرة العربيّّة قبل الإسلام.
أن يتعرّف إلى الحالة الدينيّة عند العرب قبل الإسلام.


7


الموقع الجغرافيّ والأوضاع الاجتماعيّّة والسياسيّّة

تقع شبه جزيرة العرب, والتي تُسمّى أيضاً "جزيرة العرب", في الجنوب الغربيّ من قارّة آسيا، وهي أكبر شبه جزيرة في العالم.
ويحدُّها من الجنوب خليج عدن والمحيط الهنديّ وبحر عُمان، ومن الغرب البحر الأحمر، ومن الشرق خليج عُمان والخليج الفارسيّ والعراق، وتُتاخمها من الشمال صحراء واسعة تنتهي بسهل الفرات.

مناخها قاسٍ، وهواءها جافّ، وليس في طول البلاد وعرضها مياه - عدا الأقسام الجنوبية - ولا أنهار صالحة للملاحة فيها، والسبب في جفافها هو كونها محاطة بجدار جبليّ شاهق من ثلاث جهات 2.
وهذا الجدار هو الذي يصدّ رطوبة البحار ويمنعها من الوصول إلى هذه المنطقة.


9


أقسام الجزيرة الرئيسة

1 ـ الوسطيّ الذي يُسمّى بالصحراء العربيّّة.
2 ـ الشماليّ وهو ما يُعرف باسم الحجاز.
3 ـ الجنوبيّ الذي يُعرف باسم اليمن 3.

ويتميّز القسم الجنوبيّ (اليمن) بكثرة هطول الأمطار فيه، وكونه منطقة زراعية مزدهرة وتقطنها أعداد غفيرة من السكان. ولهذا لا تكاد تُقارَن بشمال ووسط جزيرة العرب؛ وهذا ما استدعى نشوء القرى والمدن واجتماع الناس في هذا القسم، ممّا أدّى إلى وجود أنظمة وقوانين (وإن كانت بدائية)، وما يُلازِم ذلك من تأسيس الحكومات التي ظهرت في هذه المنطقة قبل ولادة المسيح عليه السلام بمئات السنين، نذكر منها:
1 ـ الدولة المعينية: (1400 ـ 850 قبل الميلاد).
2 ـ الدولة السبئية: (850 ـ 115 قبل الميلاد).
3 ـ دولة قتبان (865 ـ 540 قبل الميلاد).
4 ـ دولة حضرموت: (1020 قبل الميلاد ـ 65 بعد الميلاد).
5 ـ دولة سبأ وريدان وحضرموت وأطراف اليمن، وكان يُسمّى ملوكها "تُبَّع"، واستمرّ حكمها من عام 115 قبل الميلاد إلى عام 523 بعد الميلاد 4.

وأثنى المؤرّخون كثيراً على الحضارة الزاهرة التي نشأت في اليمن، ووصفوا قصور سبأ بأنّها قصور نضرة ذات أبواب مُرصَّعة بالجواهر، ومساكنها عامرة، وفيها أوانٍ من الفضّة والذهب، وفيها سدّ مأرب الذي انهار قبل أربعمائة سنة


10


من ظهور الإسلام5 نتيجة إهمال من أمّة آخذة في الإنحطاط.


أدّى هذا الخراب والانحلال إلى مهاجرة عدد كبير من أهل اليمن، وحدوث تحوّلات كبيرة في شبه جزيرة العرب، حيث توجّه رهط تنّوخ من قبيلة الأزد اليمانية إلى الحيرة (العراق)، وتوجّه آل جفنة إلى الشام، وسارت قبيلتا الأوس والخزرج إلى يثرب (المدينة المنوّرة)، بينما توجّهت خزاعة إلى مكّة وما جاورها 6.


الجاهليّّة والقبيلة

عُرف عصر ما قبل الإسلام في الجزيرة العربيّّة بـ"العصر الجاهليّّ". ورغم أنّ كلمة الجاهليّّة مشتقّة من الجهل، إلّا أنّ الجهل هنا لا يقع في النقطة المقابلة للعلم، وإنّما يقع في النقطة المقابلة للعقل والمنطق، فهي تعني السفه والغضب والأنفة، وهي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام لِما كانوا عليه من مزيد جهل في كثير من الأعمال والأحكام 7. فإطلاق كلمة جاهل على ذلك المجتمع يُعزى إلى رؤيتهم المغلوطة والبعيدة عن العقل والمنطق.

ويذهب بعض المؤرّخين إلى القول بأنّ تسمية الجاهليّّة الأولى الواردة في القرآن الكريم يُراد منها الزمن الذي ولِد فيه النبيّّ إبراهيم عليه السلام، وقيل: إنّها الفترة ما بين آدم ونوحL، وهي ثمانمائة سنة، في حين ذهب بعض المعاصرين للقول بـأنّها الفترة ما بين عيسى عليه السلام ومحمّد صلى الله عليه واله وسلم، وهو الذي


11


تنصرف إليه الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر أحكام الجاهليّّة، وظنُّ الجاهليّّة، وحميّة الجاهليّّة، وتبرّج الجاهليّّة الأولى 8.


وكانت القبيلة هي الوحدة السياسيّّة عند العرب في عصر ما قبل الإسلام، فأفراد القبيلة ينتمون أو يعتقدون أنّهم ينتمون إلى أصل واحد مشترك، تجمعهم وحدة الجماعة وتربطهم رابطة الدم والعصبيّة للأهل والعشيرة.


العصبيّة

العصبيّة عند العرب نوعان


عصبيّة الدم وهي أساس القرابة ومصدر الترابط.

وعصبيّة الانتماء إلى أبٍ بعيد أو جدٍّ مشترك، من نسله تكوّنت القبيلة أو القبائل المنتمية إليه. وعلى هذا الأساس كان شعور العرب بالقوميّة الشاملة ضعيفاً، ذلك لأنّ وعيها السياسيّ كان ضعيفاً محدوداً لا يتجاوز القبيلة.
وهكذا كان المجتمع العربيّ قبل الإسلام مجتمعاً مفكّكاً سياسيّاً ينقسم إلى وحدات متعدّدة قائمة بذاتها، تُمثِّلها القبائل المختلفة.

نُظُم الحكم

كان لكلّ قبيلة مجلس من شيوخها، يرأسه رجل يَتمُّ اختياره من بين أفراد القبيلة، ويُطلقون عليه ألقاباً منها: الرئيس والشيخ والأمير والسيّد، ويُشترط أن تتوفّر فيه بعض الصفات، منها: الشجاعة والحكمة والصبر والكرم وسعة النفوذ.
ويتولّى سيّد القبيلة واجبات؛ أهمّها: قيادة الجيش، وأمر المفاوضات مع القبائل الأخرى، وفضّ النزاعات، والحُكم في الخلافات، وإعانة الضعفاء،


12


والمحافظة على وحدة القبيلة. وكان مجلس القيادة يعقد اجتماعاته في دار الندوة، أو المنتدى، حيث تُناقش الأمور والمسائل التي تخصّ القبيلة كإعلان الحرب، أو إقرار السلم.

خلاصة الكلام: لم يكن يخضع عرب الحجاز قبل ظهور الإسلام لسلطة حكومة، ولم يكن لهم نُظُم ولا تشكيل سياسيّ، ولهذا السبب كانت حياتهم تختلف اختلافاً كليّاً عمّا كانت عليه حياة المجتمعات في بلاد فارس وبلاد الروم، حيث الحكومة المركزية التي تتولّى شؤون الناس في كلّ أرجاء البلاد، ولهذا كان العرب يشعرون بالضعف مقابل الفرس والروم.


مفاسد المجتمع العربيّ

المجتمع العربيّ كان قائماً على

التعصُّب القبليّ الأعمى؛ ينتصرون للقبيلة سواء أصابت أم أخطأت9 .

الثأر من القبيلة كلّها حتّى ولو كان المُخطئ فيها أحد أفرادها.

التفاخر بالأنساب10 ولا سيّما بين العدنانيّين (عرب الشمال)، والقحطانيّين (عرب الجنوب).

الحروب والنهب والقتل؛ حيث لم يكن العربيّ يحمل مشاعر ودّية للناس خارج إطار قبيلته، سوى تحريمهم للقتال في الأشهر الحُرم (ذي القعدة، وذي الحجّة، ومحرّم، ورجب) وكان ذلك ممّا تمسّك به العرب من ملّة إبراهيم وإسماعيل.


13


من أبرز المفاسد ومظاهر الجهل عند عرب الجاهليّّة نظرتهم إلى المرأة، التي حُرِمت من قيمتها الإنسانيّّة ومن حقوقها الاجتماعيّّة، ومن الإرث. وكان الرجل إذا مات وله زوجة تزوّجها ابنه من بعده إن لم تكن أمّه، لأنّها من المواريث، فضلاً عن وأدهم للبنات وهُنَّ أحياء لكونهنّ عاراً على القبيلة، ولعدم قدرة المرأة على القتال والدفاع عن نفسها في الحروب، وخوفاً من السبي.


الحالة الدينيّة في الجزيرة العربيّّة

لم يكن سكان الجزيرة العربيّّة جميعهم على دينٍ واحد إبّان ظهور الإسلام، فكانت الديانة الغالبة آنذاك هي عبادة الأصنام، كما كان هناك أتباع ديانات أخرى كالمسيحيّة واليهوديّة والحنيفيّة والمانويّة والصابئة، يقطنون في بقاع شتّى من الجزيرة.
ولم يَسْلَم أيّ من تلك الأديان من التشويش والتحريف اللّذين طرآ عليها عبر الزمن، فانطوت على كثير من المغالطات والتضليل فنفرت النفوس منها.

وفيما يلي شرحٌ موجزٌ عن الأديان المعروفة والمتَّبعة آنذاك

الموحّّدون

الموحّدون أو الحنفاء 11، هم الذين كانوا يرفضون عبادة الأصنام، ويُؤمنون بوحدانية الله تعالى، وأحياناً بالبعث والحساب ويوم القيامة، وكان قسمٌ من هذه الجماعة من أتباع الديانة المسيحيّة، ومنهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وقُسّ بن ساعدة الأياديّ، وزهير بن أبي سلمى...
ونزوع هؤلاء الأشخاص إلى التوحيد يرجع إلى سلامة فطرتهم، والفراغ الدينيّ في ذلك المجتمع، وفقدان الديانتين المسيحيّة واليهوديّة لأصالتهما،


14


وعدم قدرتهما على بثّ السكينة في النفوس، ولذلك كان الموحِّدون يبحثون عن الديانة الحقّة، ويقطعون المسافات للقاء علماء من النصارى واليهود، للتحقُّق منهم حول العلامات الواردة في الكتب السماويّة عن بعثة رسول الإسلام صلى الله عليه واله وسلم. وغالباً ما كانوا يَصِلون إلى نتيجة مفيدة.

المسيحيّة

انتشرت المسيحيّة في بعض أجزاء جزيرة العرب، ففي الجنوب عن طريق الحبشة، وفي الشمال عن طريق سورية 12، وشبه جزيرة سيناء، إلّا أنّها لم تجتذب إليها أنصاراً كُثُر، وكان من هؤلاء النصارى: قيس بن ساعدة، وحنظلة الطائي، وأُميّة بن أبي الصلت.
وتغلغلت المسيحيّة في اليمن منذ القرن الرابع الميلاديّ. وعند ظهور الإسلام كانت بعض أحياء العرب في اليمن على دين النصرانيّة. وأهمّ مواطن النصرانيّة في جزيرة العرب كان نجران، وهي مدينة خصبة عامرة بالسكان والتجارة 13.

وبقيت النصرانيّة رائجة في اليمن إلى أن حَكَمَ ذو نوّاس أرض اليمن، فوقع بالنصارى وقتلهم إرغاماً لهم على ترك دينهم، وعندما رأى ثباتهم أحرقهم في أخدود نارٍ حفره لهم. وقد استنجد النصارى بالحبشة فأنجدوهم، وغزوا بلاد العرب سنة 525م، وهزموا ذا نوّاس، وعاد المسيحيّون إلى الحُكم من جديد 14.


15


وكذلك انتشرت المسيحيّة في الحِيرة قرب الكوفة، بواسطة أسرى الحرب الرومانيّين... وأهمّ دليل يشهد على وجود هذا الدين في زمن نزول القرآن في جزيرة العرب، هو مباهلة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قساوسة وفد نجران15 .

اليهوديّة

انتشرت اليهوديّة في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام لا سيّما في اليمن، وخيبر ويثرب، حيث بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع. وكان لليهود وزنهم السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، واستطاعوا أن يستهلكوا من الدولة الإسلاميّّة فيما يُقارب سبع سنوات من الحروب والغزوات، حتّى استطاع الإسلام أن يقضي عليهم سياسيّاً وعسكريّاً. وقد كان اليهود هم المحرِّضون الفعليّون للمشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهم المتآمرون الأكثر خبثاً ودهاءً مع الفرس على الدولة الإسلاميّّة وعقيدتها.

لقد كان اليهود يعتبرون أنفسهم شعبَ الله المختار، وأنّهم القادة الذين رشّحهم الله تعالى لقيادة البشريّة، ولذلك كانوا يَرَون بعثة الرسول صلى الله عليه واله وسلم من العرب - لا من بني إسرائيل - انتزاعاً للقيادة من أيديهم وتسليمها لغيرهم، ولذلك كانت عداوتهم عنيفة، وكان حقدهم شديداً.


نشر اليهود في جزيرة العرب تعاليم التوراة (المُحرَّفة) وما جاء فيها حتّى تهوّد كثيرٌ من قبائل اليمن. ومن أشهر المتهوِّدين ذو نوّاس ـ ملك اليمن ـ وقد اشتُهر بتحمُّسه لليهوديّة واضطهاده لنصارى نجران، وإعلانه اليهوديّة ديناً رسميّاً 16.


16


الوثنيّة

كانت الوثنيّة منتشرة في جميع أنحاء الجزيرة العربيّّة، فكادت تُعتبر الديانة الأكثر أتباعاً وانتشاراً فيها، وهنا لا بدّ من ذكر النقاط التالية

1 ـ نشأة الوثنيّة: يُنقل أنّ أوّل من أدخل عبادة الأصنام إلى مكّة عمرو بن لُحيّ الخُزاعي، الذي أُصيب بمرض الحكّة في جلده، فَوُصِفَ له الاغتسال بماءٍ حارّة في بلاد حوران، فذهب واغتسل بها فشفاه الله، ووجد الناس هناك يعبدون الأصنام، فحمل معه صنماً فنصبه في الكعبة الشريفة، وقيل غير ذلك 17.
2 ـ أصنام العرب: من أصنامهم مناة، اللاّت، العُزّى، هُبل (وهو الذي جاء به عمرو بن لُحيّ)، إساف ونائلة، ودّ، يغوث، يعوق، نَسر...
3 ـ إيمان الوثنيّين بالله تعالى: كان الوثنيّون يؤمنون بالله العليِّ الأعلى، وأنّه هو الخالق البارئ المصوّر، وقد حكى القرآن الكريم إيمانهم هذا بقوله تعالى:
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُالحالة الدينيّة في الجزيرة العربيّّة18.
وهم لا يعبدون هذه الأصنام إلّا لتكون وسيلتهم إلى الله، كما قال تعالى على لسانهم
﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى 19، وبذلك وقعوا في مفارقات غريبة لا يقبلها عقل، ولا يُقرُّ بها منطق.

الصابئة


ظهرت هذه الديانة في عهد حكم طهمورث، ومؤسّس هذه الديانة هو يوذاسف.


17


وقيل عنهم بأنّهم أُناسٌ يوحّدون الله ويُنزِّهونه عن القبائح ويصفونه بالسلب لا بالإيجاب، كقولهم: لا يُحدّ ولا يُرى ولا يَظلم ولا يجور، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها، وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال؛ مثل هيكل بعلبكّ لصنم الشمس، وهياكل في حرّان منسوبة إلى القمر. وقد آلت هذه الديانة في عصرنا إلى الانقراض 20.

هذا بالإضافة إلى الديانة المانويّة والزردشتية التي تُقدِّس النار (المجوسيّة) والمزدكية. وقال بعضٌ: بأنّ هذه الديانات لم تكن منتشرة في الجزيرة العربيّّة باستثناء المانويّة.
كما وكان قسم من أهالي الجزيرة العربيّّة يعبدون الجنّ والملائكة.


18


شبه الجزيرة العربيّة طبيعيّاً

شبه الجزيرة العربيّة طبيعيّاً


19


خلاصة



إنّ التعرُّف إلى تاريخ وجغرافيّة المنطقة التي وُلِد فيها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه واله وسلم، ونشأ وعاش في أرجائها حتّى بعثه الله برسالته؛ يُساعدنا على الوقوف على الدور الذي لعبه النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم ورسالته المباركة، في النقلة الحضارية الكبرى لإنسان هذا الموطن، الذي كانت همومه وآماله تُؤطِّرها هموم وآمال القبيلة، حيث لم يعرف الدولة وقوانينها، ولم يحمل مظاهر الحضارة، حتّى إذا ظهر الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وأسّس الدولة الإسلاميّّة في المدينة المنوّرة، حدث التحوُّل التاريخي في حياة إنسان الجزيرة وجوارها.

إنّ دراسة الظواهر والحالات التي كانت تكتنف المجتمع الجاهليّّ قبل الإسلام، تُسهم في التعرُّف.

أوّلاً: إلى قِيَم هذا المجتمع وأحواله.
ثانياً: تُساعدنا أيضاً في التعرُّف إلى الدور الذي لعبته الرسالة في تحرير هذا الإنسان، ونقله بنورها إلى عالمٍ أرحب هو عالم العدل وكرامة الإنسان والمساواة التي لم يكن ينعم بها الإنسان من قبل.

كانت الحالة السياسيّّة للمجتمع العربيّ الجاهليّ قبل الإسلام عبارة عن الحُكم القَبَليّ، فالقبيلة هي الوحدة السياسيّّة، وأفراد القبيلة ينتمون إلى أصلٍ واحد مشترك، تجمعهم وحدة الجماعة وتربطهم رابطة الدم والعصبيّة للعشيرة، وهذا ما أدّى إلى وجود الانحلال والتفكّك في ذلك المجتمع، ولم يكن هناك وجود لسلطة حكوميّة ولا نُظُم ولا تشكيل سياسيّ، والحاكم السياسيّّ هو التعصُّب القبليّ الأعمى. وهذا ما رفضه الإسلام بدعوته.
تعدّدت الأديان التي كانت منتشرة قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّّة والمناطق المحيطة بها، فبالإضافة إلى الموحِّدين والمسيحيّة واليهوديّة كانت هناك المجوسيّة، وكانت الوثنيّة أكثر انتشاراً في أنحاء الجزيرة العربيّّة.
للمطالعة


منزلة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم الأخلاقيّة في العهد الجاهليّ

إنّ الصيغة القرآنيّة، لمواصفات الشخصيّة المؤمنة بنماذجها المختلفة، قد أخذت طريقها للتجسيد العمليّ في شخصيّة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.
فشخصيّة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد مثّلت قمّة التسلسل، بالنسبة لدرجات الشخصيّة الإسلاميّّة، التي توجد عادة في دنيا الإسلام، فكان صلى الله عليه واله وسلم عظيماً في فكره ووعيه، قمّة في عبادته وتعلّقه بربّه الأعلى، رائداً في أساليب تعامله مع أسرته والناس جميعاً، مثاليّاً في حسم الموقف، والصدق في المواطن، ومواجهة المِحن، فما من فضيلة إلّا ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم سابقٌ إليها، وما من مكرُمة إلّا وهو متقلّد لها.

ومهما قيل من ثناء أخلاقيّاته السامية قديماً وحديثاً، فإن ثناء الله تعالى عليه في كتابه العزيز، يظلّ أدقّ تعبير وأصدق وصف لمواصفات شخصيّته العظيمة دون سواه.
فقول الله تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 21عجز كلّ قلم وكلّ تصوّر وبيان عن تحديد عظمته، فهو شهادة من الله سبحانه وتعالى على عظمة أخلاق الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وسمو سجاياه، وعلوّ شأنه، في مضمار التعامل مع ربّه ونفسه ومجتمعه، بناءً على أنّ الأخلاق مفهوم شامل لجميع مظاهر السلوك الإنسانيّ.

وقبل أن يتحدّث القرآن عن عظمة أخلاقه، فقد نطق الكفّار والمشركون بهذه الحقيقة، والنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم لم يُبعث بعد، فاتّصاف النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بالخُلُق العظيم، لم يكن وليد الفترة التي بُعث فيها، أو من إفرازات تلك المرحلة تمشّياً مع أهميّة الدور الملقى على عاتقه، لا، بل التاريخ يذكر أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم كان ذا منزلة أخلاقيّة عظيمة في العهد الجاهليّ، وكان محلّ إعجاب وتقدير قومه ومجتمعه، بل ومضرب المثل في ذلك. وقد شهد الكفّار أنفسهم لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم بصدق اللهجة والأمانة والعفاف ونزاهة الذات.

فقد روي أنّ الأحنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم، ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تُخبرني عن محمّد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إنّ محمّداً لصادق وما كذب قطّ.
وقال النضر بن الحارث لقريش: قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتّى إذا رأيتم في صدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر؟! لا والله ما هو بساحر.

ولمّا بعث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، أحضر قيصر أبا سفيان وسأله بعض الأسئلة مستفسراً عن النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم، وممّا سأله، قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلت والكلام لأبي سفيان: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، قال: كيف عقله ورأيه؟ قلت: لم نعب له عقلاً ولا رأياً قطّ..

وروى الطبريّ: كانت قريش تُسمِّي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي (الأمين).
ورُوي عن أبي طالب (رضوان الله عليه) في حديث عن سيرة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم في الجاهليّّة قال: لقد كنت أسمع منه إذا ذهب من الليل كلاماً يُعجبُني، وكنّا لا نُسمّي على الطَّعام والشَّراب حتّى سمعتُه يقول: بسم الله الأحد، ثمّ يأكل فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله كثيراً، فتعجّبت منه، وكنت ربّما أتيت غفلة فأرى من لدن رأسه نوراً ممدوداً قد بلغ السماء، ثمّ لم أرَ منه كذبة قطّ ولا جاهليّة قطّ، ولا رأيته يضحك في غير موضع الضحك، ولا وقف مع صبيان في لعب، ولا التفت إليهم، وكانت الوحدة أحبّ إليه والتواضع".

هوامش
1-الأحزاب: 21.
2-تمتدّ هذه الجبال من شبه جزيرة سيناء في موازاة البحر الأحمر على شكل سلسلة كأنّها جدار عازل، ثمّ تلتفّ عند الزاوية الجنوبية الغربية، وتدور في موازاة الساحل الجنوبي والشرقي لجزيرة العرب.
3- قال المقدسيّ، وهو من العلماء المسلمين في القرن الرابع، إنّها تُقسم إلى أربعة أقسام كبرى، وهي: الحجاز، واليمن، وعُمان، وهجر (أحسن التقاسيم، ص102)، وقسّمها غيره إلى خمسة أقاليم.
4- شرف الدين، أحمد حسين، اليمن عبر التاريخ، مطبعة السنّة المحمّديّة، القاهرة، ط2، 1384هـ، ص 53.
5- الآلوسي البغدادي، محمود شكري، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، ص204.
أشار القرآن الكريم إلى قوم سبأ في سورتين، إحداهما بمناسبة ذكر ملكة سبأ وكتاب النبيّّ سليمان إليها في سورة النمل، الآيتان: 22 ـ 23، وثانيهما بمناسبة ذكر الآثار الناتجة عن انهيار السدّ في سورة سبأ، الآيات: 15 ـ 19.

6- حسن، إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسيّ، ج 1، ص44.
7- ابن منظور: لسان العرب، ط بولاق، 1303هـ، ج13/ص136.
8- راجع سورة المائدة، الآية: 50، وسورة آل عمران، الآية: 154، وسورة الفتح، الآية: 26، وسورة الأحزاب، الآية: 33.
9- رفض الإسلام العصبيّة الجاهليّّة العمياء، واعتبرها نوعاً من التوجه الجاهليّّ البعيد عن المنطق:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا  الفتح: 26. وقال رسول الله: "من تعصّب أو تعُصّب له فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"، ثواب الأعمال للصدوق، ص263.
10- ولهذا السبب كانت هناك قيمة وأهميّة لعلم الأنساب عند العرب
11- حنيف وجمعها أحناف، تطلق هذه الكلمة على من يتَّبع دين النبيّّ إبراهيم عليه السلام.
12-كانت الشام آنذاك تحت سيطرة الدولة الرومانية الشرقية.
13-حسن، إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسيّ، ج: 1/ص64.
14- يروي بعض المفسّرين أنّ الآيات 4 ـ 9 من سورة البروج نزلت في قتل النصارى، أو أنّ هذه الواقعة ممّا تنطبق عليه هذه الآيات (الميزان في تفسير القرآن: ج20/ص251 ـ 257) حيث قال تعالى:
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ  البروج الآيات3-9.
15- الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: إنتشارات إسماعيليان، قم، ط3، 1393هـ ج3، ص228.
16-راجع أمين، أحمد، فجر الإسلام، مكتبة النهضة العربيّّة، القاهرة، ط9، 1964م ص 23 ـ 24 ـ 27.
17- ومن ذلك أنّ أصل عبادة الأصنام حدثت عندما كَثُر أبناء إسماعيل عليه السلام واضطرّوا إلى أن يخرجوا من مكة طلباً للعيش، فكانوا يحملون عند خروجهم شيئاً من تراب الحرم الذي يحمل ذكرى الكعبة، أثر أبيهم إسماعيل، ثمّ حملوا هذا التراب للحفاظ عليه، وتطوّرت الذكرى إلى تقديس، فعبادة.
18- لقمان: 25.
19- الزمر: 3.
20- البيرونيّ الخوارزميّ، أبو الريحان محمّد بن أحمد، الآثار الباقية، مطبعة المثنى، بغداد، ص 205.
21- القلم: 4.