الدرس الثاني  عشر: مؤامرات اليهود وحروب النبيّ صلى الله عليه واله وسلم معهم(2)

أهداف الدرس

أن يتبيّن الطالب سبب غزوة بني قريظة.
أن يستظهر خلفيّة العلاقة بين اليهود والمنافقين.
أن يُلاحظ نتائج انتصار المسلمين في معركة خيبر.
أن يُدرك فضل أمير المؤمنين عليه السلام في فتح حصن خيبر على يديه.


169


حروب النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ضدّ اليهود(2)

3 ـ غزوة بني قريظة

لقد كان بين يهود بني قريظة وبين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عهد واتفاق على أن لا يُحاربهم ولا يُحاربوه، ولا يُعينوا عليه أحداً، غير أنّهم نقضوا العهد وتعاونوا مع قريش والمنافقين في معركة الأحزاب ضدّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ودعوته.

وبعد جلاء الأحزاب عن المدينة سمع النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بخيانتهم، فأرسل إليهم سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة، لتذكيرهم بالعهد والميثاق، فأساؤوا الردّ، وأصرّوا على نقض العهد، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حتّى هُزمت قريش والأحزاب، وكسب المسلمون معركة الخندق.

وفي نفس اليوم الذي رجع فيه النبيّّصلى الله عليه واله وسلم من ساحات المواجهة في الخندق قرّر الهجوم عليهم حتّى إنه صلى الله عليه واله وسلم أمر من كان معه من المسلمين ألّا يُصلّوا العصر إلّا في بني قريظة، لكسب الوقت، واستثمار الموقف النفسيّ المنهار لدى اليهود وحلفائهم من المشركين والمنافقين، ولكي لا يُعطيهم الفرصة لإعادة ترتيب أوضاعهم وإنشاء علاقات تزيد في قوّتهم.. فأعطى رايته للإمام عليّ عليه السلام وتبعه المسلمون بالرغم ممّا كانوا عليه من التعب والسهر خلال حصار الأحزاب لهم.


171


طوَّق المسلمون اليهود في حصونهم وأخذوا يرمونهم بالحجارة والسهام، ولم يجرؤ بنو قريظة على أن يخرجوا من حصونهم طوال مدّة الحصار؛ لأنّ المسلمين أحاطوا بهم من جميع الجهات، واستمرّ الحصار أيّاماً، وقيل: عشرة أيّام، وقيل: أكثر من ذلك.


وخلال الحصار أرسل صلى الله عليه واله وسلم إليهم بعض أصحابه لمواجهتهم فرجعوا مُنهزمين، فبعث الإمام عليّاً عليه السلام فكان الفتح على يديه، فاستسلموا، وطلبوا من النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أن يُعاملهم كما عامل بني النضير من قبل، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك، وعرض عليهم أن يختاروا من الأوس ـ وهم حلفاؤهم ـ من شاؤوا ليحكم فيهم، فاختاروا سعد بن معاذ، ونسوا موقفهم مع سعد حينما نقضوا العهد، وانضمّوا إلى الأحزاب ولم يستجيبوا إليه عندما حذّرهم من ذلك.

فحكم سعد فيهم بقتل الرجال أي المقاتلين منهم فقط ممن نقض العهد وقاتل، وسبي النساء والذراري ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم 1. ولا شكّ في أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم كان يرى فيهم هذا الرأي، لأنّه إذا عفا عنهم اليوم فسيُمثِّلون معه نفس الدور الذي مثَّلوه بالأمس حينما انضمُّوا لأعدائه وتآمروا سرّاً معهم، فه وصلى الله عليه واله وسلم لم يأمن الغدر والتآمر اليهوديّ ضدّه مرّة أخرى، بل ربّما يشتدّ خطرهم لو تركهم ويستعصي على المسلمين بعد ذلك استئصالهم.

لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بتنفيذ حكم "سعد" في حقّ من قاتل منهم، وخرج إلى سوق بالمدينة فحفر بها الخنادق وقتل من قاتله منهم من الرجال، وأسر النساء والأولاد. وقد اختلف المؤرِّخون في عدد القتلى والأسرى منهم، لكنّ الأقوال في ذلك تتراوح في عدد القتلى ما بين الثلاثمائة رجل والألف، بينما بلغ عدد الأسرى ما بين السبعمائة وخمسين والألف. وبذلك تخلّص المسلمون


172


من أشدّ أعداء الدولة الداخليّين؛ حيث قضت هذه الغزوة القضاء التامّ على جماعات اليهود في المدينة، الذين كانوا يُهدِّدون أمنها واستقرارها بالتآمر والتجسُّس والإشاعات والتخريب.

وقد أشار القرآن الكريم إلى انسحاب جيوش الأحزاب وغزوة بني قُريظة وانتصار المسلمين فيها بقوله تعالى:
﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً 2.


4 ـ معركة خيبر

كان يهود خيبر من أقوى الطوائف اليهوديّة في بلاد الحجاز وأكثرهم عدداً وعُدَّة وأمنعهم حصوناً، فخيبر قرية من قُرى اليهود المجاورة للمدينة، تقع على قِمّة جبل، ويُحيطها حصنٌ حجريّ ظنّ أهله أنّه مانعهم من إرادة الحقّ 3، وسيوف المجاهدين المؤيَّدين بنصر الله سبحانه. ويهود خيبر على عادة اليهود، قد استحكم بهم الغرور، وغرّهم المال والسلاح الذي بأيديهم.

وفي حصون خيبر عشرة آلاف مقاتل، كانوا يخرجون كلّ يوم صفوفاً يستعرضون قوّتهم، ويسخرون من قوّة المسلمين وهم يُردِّدون "محمّد يغزونا، هيهات! هيهات!" 4.

وهذا الاعتداد بالقوّة لم يكن ليخدع يهود خيبر وحدهم، بل كان يهود المدينة الذين يعيشون وسط المسلمين قد انخدعوا به أيضاً، فراحوا يُهدِّدون المسلمين


173


 بتلك القوّة، ويحاولون إظهار التفوُّق العسكريّّ لخيبر على المسلمين، وذلك لإشاعة الحرب النفسيّة، وإضعاف الروح المعنويّة للمسلمين.

وكانوا يُردِّدون على مسامع المسلمين: "ما أمنع والله خيبر منكم، لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها، لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم. حصونٌ شامخات في ذُرى الجبال، إنّ بخيبر لألف دارع، وما كانت "أسد" و"غطفان" يمتنعون من العرب قاطبة إلّا بهم، فأنتم تُطيقون خيبر؟!"5 .


أمّا الإعلام الإسلاميّّ في المدينة فكان يردّ منطلقاً من الثقة بالله، والإصرار على الجهاد والمقاومة: إنّ الله قد وعد نبيّه أن يُغنمه خيبر ولا خُلف لوعد الله بالنصر.وفي ظلّ هذه الأجواء راح الرسول صلى الله عليه واله وسلم يصبر ويُصبِّر على كلّ أذى خيبر بسبب ما كانت تُمارسه ضدّ الإسلام والمسلمين.


فمنها: انطلق زعماء اليهود لدعوة القبائل العربيّّة وتحزيبها ضدّ المسلمين في غزوة الخندق، وقد بذلوا الأموال في ذلك.
ومنها: خرج حييّ بن أخطب ودفع بني قريظة إلى نقض العهد في اللحظات العصيبة. وقد غدت خيبر بمرور الأيّام ملجأً يأوي إليه اليهود المُبعدون عن المدينة، ينتظرون الفرصة للانتقام من الإسلام، واسترداد مواقعهم ومصالحهم التي جرّدهم النبي ّّصلى الله عليه واله وسلم منها.

وقد اتضح هذا في الأيّام القليلة التي أعقبت هزيمة بني قُريظة، إذ بلغت خيبر أنباء هزيمة بني قُريظة فاتّصل بعض اليهود بزعيمهم "سلام بن مشكم" وسألوه الرأي فأجابهم: نسير إلى محمّد بما معنا من يهود خيبر فلهم عدد،


174


ونستجلب يهود تيماء وفدك ووادي القرى، ولا نستعين بأحد من العرب، قد رأيتم في غزوة الخندق ما صنعت بكم العرب.. ثمّ نسير إليه في عقر داره، فقالت اليهود: هذا الرأي 7. وها هم يُحرِّضون غطفان وغيرها ويعدونهم أن يمنحوهم ثمر خيبر لسنة إن هم تحالفوا معهم ضد الإسلام والمسلمين.

لهذه الأسباب وغيرها عقد الرسول صلى الله عليه واله وسلم العزم على غزوهم في حصونهم ومعاقلهم المنيعة في خيبر، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة، فجمع صلى الله عليه واله وسلم جيشه وتكتّم على مسيره، وخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل من المسلمين، وأعطى رايته لعليّ عليه السلام، وسلك طُرقاً تحفظ سرِّيَّة تَحرُّكِه، فلم يشعر اليهود إلّا وجيش المسلمين قد نزل بساحتهم ليلاً. وكان الرسول صلى الله عليه واله وسلم قد وعده الله بالنصر وأن يردّه إلى المدينة فاتحاً غانماً.

وحين فوجئوا بقوّات المسلمين، تشاوروا فيما بينهم واتفقوا على القتال فأدخلوا نساءهم وأولادهم وأموالهم في بعض الحصون، وأدخلوا ذخائرهم في حصون أُخرى، بينما دخل المقاتلون منهم في حصن عُرف بحصن النطاة أو حصن القموص، والتقى الجمعان حول هذا الحصن، ودار قتال شديد بينهما حتّى جُرح عدد كبير من المسلمين.

وكان الهجوم على الحصن قد بدأ بإرسال النبيّ ّصلى الله عليه واله وسلم سَرِيَّة من المسلمين بقيادة أبي بكر، غير أنّه لم يستطع أن يفتح ثغرة في تحصينات العدوّ، بل عاد إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم منهزماً، ثمّ أرسل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عمر بن الخطّاب لمعاودة الكرّة، فرجع منهزماً يُجبِّن أصحابه ويُجبِّنونه، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك قال: "لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه،


175


كرّاراً غير فرّار"8 ، فدعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثمّ قال: "خذ هذه الراية، فامض بها حتّى يفتح الله عليك".

فخرج الإمام عليّ عليه السلام ومعه المقاتلون المسلمون فدار قتال بينهم وبين اليهود على أبواب الحصن، وقتل الإمام عليّ عليه السلام "مرحباً" وهو من أبطال اليهود وصناديدهم بعدما كان قد قَتل أخاه الحارث وأكثر من ستّة من فرسان اليهود على باب الحصن، فاستولى الخوف على اليهود والتجأوا إلى الحصن وأغلقوا بابه، وكان من أمنع الحصون وأشدّها وقد حفروا حوله خندقاً يتعذّر على المسلمين اجتيازه، فاقتلع الإمام عليّ عليه السلام باب الحصن، وجعله جسراً فعبر عليه المسلمون، واستبسلوا بقيادة الإمام عليّ عليه السلام فهاجموا بقيّة الحصون وتغلّبوا على من فيها حتّى انتهوا إلى حصني الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصونهم المنيعة وفيهما النساء والذراري والأموال.

ولمّا شعر اليهود بأنّه أُسقط ما في أيديهم، وأنّ المسلمين سيأسرونهم ويقتلونهم إن هم أصرّوا على موقفهم، استسلموا وطلبوا العفو من النبيّ ّصلى الله عليه واله وسلم فأجابهم النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم إلى ذلك بعد أن استولى على أموالهم، وتمّ الاتفاق بينهم وبين النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم على أن تبقى الأرض في أيديهم يعملون فيها بنصف الناتج والنصف الآخر للمسلمين.

وبعد فتح خيبر رجع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "والله ما أدري بأيِّهما أنا أشدُّ سروراً:بقدوم جعفر، أو بفتح خيبر؟" 9.


إنّ انتصار المسلمين الساحق في خيبر يعود إلى العوامل التالية

1 ـ التخطيط العسكريّّ والتكتيك الحربيّ الدقيق.


176


2 ـ تحصيل المعلومات الدقيقة عن تمركز العدوّ داخل الحصون.
3 ـ تفاني الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وشجاعته وبطولته النادرة، والتسديد الإلهيّّ الذي مكّنَه من قتل أبطال اليهود وفرسانهم، وقلع باب خيبر وفتح الحصن على يديه 10.


5 ـ يهود فدك

لمّا سمع يهود فدك ـ القرية اليهوديّة المجاورة لخيبر ـ بما حلَّ برفاقهم في خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يُعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم، فوافق صلى الله عليه واله وسلم على ذلك وصالحهم على نصف ناتج الأرض، فكانت خيبر مُلكاً للمسلمين لأنّهم استولوا عليها بالحرب، وفدك للنبيّّ صلى الله عليه واله وسلم خاصّة لأنّه تملَّكها بالصلح، وقد وهبها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم للسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام في حياته، وسلّمها إيّاها وجعلت عُمّالها فيها، وصارت هي المُشرِفة على أعمالها وعلى ناتجها. وكانت تصرف ناتجها على فقراء بني هاشم وحسبما تشاء.
فقد جاء في الدرّ المنثور للسيوطيّ عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال: لمّا نزلت الآية
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ دعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاطمة عليها السلام وأعطاها فدكاً، كما روى ذلك جماعة عن ابن عبّاس 11.

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن أبي سعيد الخدريّ: أنّه صلى الله عليه واله وسلم وهبها لفاطمة عليها السلام، ولمّا انتهت الخلافة لأبي بكر كان أوّل ما قام به أن انتزعها من يدها، بحجّة أنّ النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم على حدّ زعمه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نُورِّث ما تركناه صدقة، وأصرّ على انتزاعها من يدها بالرغم من أنّها طالبت بها وأقامت البيّنة على مُلكيّتها لها.

 


177


6 ـ يهود وادي القرى وتيماء

أمّا وادي القرى التي كان أهلها من اليهود الحربيّين الذين تآمروا على الإسلام والمسلمين، فقد توجّه إليها النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم وفرض الحصار عليها، ودعا أهلها إلى الإسلام، وأخبرهم أنّهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله، ولكنّهم أبَوا وأصرّوا على القتال، وجرت بين الطرفين مناوشات محدودة، والنبيّ ّصلى الله عليه واله وسلم يعرض عليهم الإسلام وهم يأبون، ما دفعه إلى تشديد الحصار عليهم حيث تمكّن من فتح بلدهم عنوة، وبقي هناك أربعة أيّام قسّم خلالها الغنائم على أصحابه، وترك المزارع بيد اليهود مناصفة عليها.

ولمّا بلغت يهود تيماء أنباء الانتصارات الإسلاميّّة، صالحوا الرسول صلى الله عليه واله وسلم على الجزية وأقاموا في بلدهم12 .
وبسقوط خيبر والمواقع المجاورة تمّ تصفية آخر تجمُّع يهوديّ لعب دوره في مواجهة الإسلام ووضع العوائق في طريقه، وحبك المؤامرات ضدّه، وقُضي قضاءً تامّاً على القوّة السياسيّّة والاقتصاديّّة والعسكريّّة ليهود الحجاز، وغدت كلمة الإسلام وحدها هي العُليا في معظم مساحات الجزيرة العربيّّة.


178


غزوة بني قُريظة

(5 هـ)
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا
(سورة الأحزاب: 27)

 


179


خلاصة


واصل النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم حروبه ضدّ اليهود واستطاع الانتصار عليهم في غزوة بني قُريظة، وفي معركة خيبر، وفي فدك وغير ذلك.
اختار بنو قُريظة حُكم سعد بن معاذ، ففوجئوا بحكمه القاضي بسبي نسائهم وذراريهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وتبنّى النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم هذا الرأي.
توّج النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم انتصاراته على اليهود في معركة خيبر، فبعد حصارهم الطويل أرسل النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم عدداً من أصحابه لفتح ثغرة في تحصيناتهم فلم يوفّقوا، فأعطى الراية للإمام عليّ عليه السلام الذي كتب الله تعالى النصر على يديه، وقتل زعيمهم "مرحباً" وهو من أبطال اليهود.
استكمل الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم عمليّة القضاء على اليهود باستيلائه على قرية فدك اليهوديّة، التي صالحوا الرسول صلى الله عليه واله وسلم عليها، وبحصاره لهم في وادي القرى وتيماء حيث استسلموا ورضخوا فيما بعد.

 

للمطالعة

نماذج من آداب معاشرته صلى الله عليه واله وسلم للناس

امتاز رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بخُلقٍ انسانيّ رفيع وسلوك اجتماعيّ مميّز مع الناس، على اختلاف شرائحهم وانتماءاتهم، ما جعله يمتلك عقول وقلوب الناس ويكسب محبّتهم ويجذبهم إلى طريق الله.
ونستعرض نماذج من خُلُقِه الاجتماعيّّ وآداب معاشرته للناس، حسبما ورد في الأحاديث عن أهل البيت؛ الذين هم أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسلوكه الفرديّ والاجتماعيّّ:


٭ كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم طَلِقَ الوجه دائم البِشر، يواجه الناس بالابتسامة، ويُحسن لقاءهم، ويعاملهم بالرفق واللين والرحمة، ولم يكن يبدو على وجهه العبوس أو الحزن أو الانقباض، بل كان بشوشاً ويُخفي أحزانه وآلامه.
فقد روى الإمام الحسن عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دائم البِشر، سهل الخُلُق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ـ من الصخب وهو شدّة الصوت ـ ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح" 13.

وكان يُخاطب قومه ويقول: "يا بني عبد المطّلب إنّكم لن تَسعُوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحُسن البِشر" 14.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام إذا وصف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: "كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، ومن رآه بديهة (لأوّل مرة) هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، لم أرَ مثله قبله ولا بعده"15 .
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم شديد المدارة للناس وأرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس، حتّى لقد روي عنه صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض" 16.

وقال صلى الله عليه واله وسلم: "أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس، وأذلّ الناس من أهان الناس" 17.


٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم أبعد الناس عن التعالي على مجتمعه أو تمييز نفسه عن أفراده، فقد كان يعيش مع الناس كواحد منهم لا يختلف عنهم في شيء، ويكره أن يتميّز عنهم، ولذلك كان صلى الله عليه واله وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيأتي الغريب ولا يدري أيَّهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حتّى يسأل عنه.
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم يتفقّد أحوال الناس، ويسأل الناس عمّا في الناس، ليطّلع على أوضاعهم.
بل لقد روي أنّه صلى الله عليه واله وسلم كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيّام سأل عنه: فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.

٭ ومن مصاديق رِفْقِه بالأُمَّة، ومعاملته لها بالحسنى: ما رواه يونس الشيباني قال: قال أبو عبد الله ـ الصادق ـ عليه السلام: كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟
قلت: قليل.
قال عليه السلام: "فلا18 تفعلوا؟ فإنّ المداعبة من حسن الخلق، وإنّك لتُدخِل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يُداعِب الرجل يُريد أن يسرّه" 19.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليُسرّ الرجل من أصحابه إذا رآه مغموماً بالمداعبة"20 .
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم يُفشي السلام بين الناس، فيُسلِّم حتّى على الصغير منهم.
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويُكنّي من لم يكن له كنية، فكان يُدعى بما كنّاه، ويكنّي أيضاً النساء اللاتي لهنّ أولاد، واللاتي لم يلدن، ويكنّي الصبيان فيستلين به قلوبهم.
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم لا يأتيه أحد حرّ أو عبد أو أمَة إلّا قام معه في حاجته.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "ما فاوضه أحدٌ قطّ في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه الحديث أحد حتّى يكون هو الذي يسكت"21 .
٭ وكان يُكرم من يدخل عليه حتّى ربما بسط له ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته.
٭ وكان صلى الله عليه واله وسلم لا يذمّ أحداً، ولا يُعيّر أحداً، ولا يُكلِّم أحداً بشيء يكرهه، بل كان شديد الحياء حتّى لقد ورد أنّه صلى الله عليه واله وسلم كان إذا أراد لوم أحد أو عتابه، يُعاتبه بكلّ حياء وخجل.
٭ ورُوي أنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتّى يحمله معه، فإن أبى قال صلى الله عليه واله وسلم: "تقدّم أمامي وأدركني في المكان الذي تُريد" 22.

هوامش

1- راجع لمزيدٍ من التفاصيل حول هذه الغزوة، بحار الأنوار: ج20، ص233 ـ 238، وتاريخ الطبري: ج3، ص53.
2- الأحزاب: 25 ـ 27.
3- ابن هشام، السيرة النبويّة، ج4، ص360.
4-الواقدي، المغازي، ص 637 ـ 703، وهيهات اسم فعلٍ ماضٍ بمعنى بَعُدَ.
5-راجع: الواقدي، المغازي، ج2، ص237.
6-م.ن.
7-م.س.المغازي، ج2، ص530 ـ 531.
8-انظر، تاريخ الطبري، ج2، ص300.
9- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج8، ص50.
10- راجع عوامل الانتصار في كتاب سيد المرسلين، ج2، ص405 ـ 408.
11- انظر، فضائل الخمسة، ج3، ص136.
12-راجع، المغازي للواقدي، ج2، ص709 ـ 711، والفتوح للبلاذري، ج1، ص39 ـ 40، والتنبيه والاشراف للمسعودي، ص224 ـ 225.
13-الطباطبائي، سنن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ص 104.
14- الكليني، الكافي، ج2، ص103.
15- سنن النبي صلى الله عليه واله وسلم، ص112.
16-الكليني، الكافي، ج2، ص117.
17- الشهيد الأوّل، الأربعون حديثاً، ص 56.
18-وفي حديث آخر هلّا تفعلوا.
19-الكليني، الكافي، ج2، ص663.
20- الطبطبائي، سنن النبي صلى الله عليه واله وسلم، ص128.
21- م.ن.، ص 119.
22- م.ن، ص122.