سيرة سيد المرسلين> بدء البعثة

إلى الحبشة

الهجرة الثانية الى الحبشة الهجرة الاولى
العودةُ من الحبشة قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين
قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق وفد مسيحيٌّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة


الهجرة الاولى
تُعتبر هجرة فريق من المسلمين الى أرض الحبشة دليلاً بارزاً على إيمانهم واخلاصهم العميق لدينهم ولربهم، وذلك لأن فريقاً من الرجال والنساء يقررون- وبهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكان آمن يقيمون فيه شعائرهم بحرية ويعبدون اللّه الواحد- مغادرة (مكة)، العربية التي ترزح تحت ظلام الوثنية، فلا يمكن أن يرفعوا نداء التوحيد عالياً في أية نقطة من نقاطها، ولا يمكنهم اقامة احكام الدين الحنيف فيها من دون خوف أو وجل، وبعيداً عن الارهاب، ويفكرون، ويفكرون، وأخيراً يقودُهم التفكير إلى أن يفاتحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بهذه المسألة، ويطلبوا في ذلك رأي النبي الذي يقوم دينه على مبدأ: (إنّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبُدُون)1.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعرف أوضاع المسلمين المؤلمة جيداً، فقد كان هو يحظى بحماية بني هاشم، وكان الفتيان الهاشميون يحمونه ويحفظونه من كل اذى، ولكن الذين آمنوا به من الإماء والعبيد، ومن ليست لهم حماية من الأحرار المستضعفين الذي كانوا يشكلون عدداً كبيراً من المسلمين السابقين كان يتعرضون لشتى صنوف العذاب والايذاء والمضايقة من قريش التي لم تأل جهداً، ولم تدخر وسعاً، ولم تفوّت فرصةً ولا وسيلةً لالحاق العنت والأذى بالمؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولا يستطيع صلّى اللّه عليه وآله منعهم من ذلك.

وقد كان زعماء كل قبيلة يعمدون- للمنع من نشوب أيّ صِدام بين القبائل- الى تعذيب من اسلم من ابناء قبيلتهم، وايذائه والتنكيل به، وقد مرت عليك نماذج وامثلة من أذى قريش وتعذيبها القاسي للمسلمين.

لهذه الأسباب عندما طلب أصحابُ النبي صلّى اللّه عليه وآله رأيه في الهجرة من مكة قال في جوابهم:"لو خرجتُم إلى أرض الحبشة فانّ بِها ملِكاً لا يُظلَمُ عِندهُ أحد وهي أرضُ صِدق حتى يجعلَ اللّه لكُم فرجاً مما أنتُم فيهِ"2.

أجَل انَ مجتمعاً صالحاً يتسلّم زمام الأمر فيه رجل صالح عادل نموذج مصغّر من جنّة عدن بالنسبة الى المسلمين المضطهدين في بلدهم بسبب عقيدتهم، وهو ما كان يريده ويتمناه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليتمكنوا من القيام بشعائر دينهم فيه في جوٍّ من الطمأنينة والامن.

ولقد كان لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أثر قويٌ في نفوس تلك الثلة المؤمنة الباحثة عن ارض تعبد فيها اللّه في أمان، بحيث لم يمض زمان إلا وقد شدّت رحالها وغادرت مكة ليلاً في غفلة من الاجانب (المشركين) مشاة وركباناً، متجهةً نحو جدّة، للسفر عبر مينائها الى ارض الحبشة.

وكان هذا الفريق يتألف من عشر أو خمسة عشر شخصاً بينهم أربعة من النسوة المسلمات3.

والآن يجب أن نرى لماذا لم يذكر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله للمسلمين مناطقَ اُخرى للهجرة اليها، وانما ذكر الحبشة فقط.

ان سر هذا الاختيار يتضح إذا درسنا أوضاع الجزيرة العربية وغيرها من المناطق آنذاك.

ان الهجرة الى المناطق العربية التي كان سكانها من المشركين والوثنيين قاطبة كان أمراً محفوفاً بالخطر، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء (الوثنيّة).

وكذلك المناطق التي كان يقطنها المسيحيّون أو اليهود، من الجزيرة العربية فلم تكن تصلح لهجرة المسلمين إليها هي الاُخرى لان تينك الطائفتين كانتا تتقاتلان فيما بينهما في صراع مذهبيّ وطائفي، فلم تكن الأوضاع لتسمح بأن يدخل طرف ثالث في حلبة الصراع، هذا مضافاً إلى أن ذينك الفريقين (اليهود والنصارى) كانا يحتقران العنصر العربيّ أساساً، فكيف يمكن الهجرة الى مناطقهم والتعايش معهم؟!

أما "اليمن" فقد كان تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، ولم تكن السلطاتُ الإيرانية آنذاك لتسمح باقامة المسلمين في ربوع "اليمن"، لما عُرف من نقمتها فيما بعد على الدعوة الاسلامية الى درجة انه لما وصلت رسالة النبي صلى اللّه عليه وآله الى "خسرو برويز" كتب الى عامله على اليمن فوراً "احمل إليَّ هذا الذي يذكر أنه نبيُّ، وبدأ اسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني"4!!.

وكذلك كانت "الحيرة" تحت الاستعمار والنفوذ الايرانيّ كاليمن.

وأمّا "الشام" فقد كانت بعيدة عن "مكة المكرمة"، هذا مضافاً الى ان "اليمن" و"الشام" كانتا سوقين لقريش، وكانت تربُط قريشاً بسكان هاتين المنطقتين روابط وعلاقات وثيقة، فاذا كان المسلمون يلجأون إليهما اُخرجوا منهما بطلبٍ من قريش، تماماً كما طلبت من ملك الحبشة مثل هذا الطلب، ولكنه رفض طلبهم.

وقد كانت الرحلة البحرية- في تلك الآونة- وبخاصة برفقة النساء والاطفال رحلة شاقة جداً، من هنا كانت هذه الهجرة، وترك الحياة والمعيشة في الوطن دليلاً قوياً على إخلاص اُولئك المهاجرين لدينهم وعمق ايمانهم به، وصدقه.

ولقد كان ميناء "جدة" آنذاك ميناء تجارياً عامراً كما هو عليه الآن، ومن حسن الاتفاق أن هذه الثلة المهاجرة قد وصلت الى هذا الميناء في الوقت الذي كانت فيه سفينتان تجاريتان على اُهبة الاقلاع، والتوجه نحو الحبشة، فبادر المسلمون إلى ركوبها والسفر عليها دون تلكّؤ خشية لحاق قريش بهم والقبض عليهم، لقاء نصف دينار عن كل راكب.

وكان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه5.

ولما عرف المشركون بهجرة بعض المسلمين أمروا جماعةً من رجالهم بملاحقة اولئك المهاجرين واعادتهم الى مكة فوراً، ولكن المسلمين المهاجرين كانوا قد غادروا شواطئ "جدة" قبل أن يدركهم الطلب6.

ومن الواضح أن ملاحقة مثل هذه الثلة التي لم تلجأ إلى أرض الغير إلا لأجل الحفاظ على عقيدتها والفرار من الفتنة لنموذج بارز من عتوّ قريش وعنادها.

فاولئك المهاجرون مؤمنون تركوا الأهل والوطن، واغمضوا الطرف عن المال، والتجارة، وخرجوا يطلبون أرضاً نائية يمارسون فيها شعائرهم بحرية، ومع ذلك لا يكف عنهم زعماء مكة وجبابرتها وطغاتها!!

اجل ان رؤساء "دار الندوة" بمكة واقطابها كانوا يعلمون جيداً أسرار هذه الهجرة وآثارها من خلال بعض القرائن والمؤشرات، ولذلك كانوا يرددون فيما بينهم اُموراً سنذكرها في ما بعد.

هذا والجدير بالذكر أن اعضاء هذا الفريق المهاجر لم يكونوا من قبيلة واحدة بل كان كل واحد من هؤلاء العشرة ينتمي الى قبيلة خاصة.

الهجرة الثانية الى الحبشة

ثم انه وقعت بعد هذه الهجرة هجرة اُخرى، وكان في مقدمة المهاجرين هذه المرة "جعفر بن أبي، طالب"، ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

ولقد تمت الهجرة الثانية في منتهى الحريّة، لأن المسلمين المهاجرين استطاعوا في هذه الهجرة ان يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم، بحيث بلغ عدد المسلمين في أرض الحبشة هذه المرة (83).

هذا إذا لم نحص من وُلد في أرض الحبشة لهُم، والا كان العددُ اكثر من هذا الرقم.

ولقد وجَد المسلمون المهاجرون ارضَ الحبشة كما وصفها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهم: منطقة عامرة، وبيئة آمنة حرّة، تصلح لأن يُعبد فيها اللّه تعالى بحرية وأمان.

تقول "اُم سلمة" التي تشرفت بالزواج من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في ما بعد، عن تلك الارض: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا، وعبدنا اللّه تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه.

كما أنه يُستفاد ممّا قاله بعض اولئك المهاجرين من الشعر في الحبشة، انهم أمنوا بأرض الحبشة، وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا اللّه لا يخافون على ذلك أحداً.

ونحن نكتفي هنا بادراج بعض الأبيات من قصيدة مطوّلة أنشأها "عبد اللّه بن الحارث" في هذا الصدد:

يا راكباً بلِّغن عنّي مُغلغلة7***من كان يرجُو بلاغ اللّه والدّينِ

كلَّ امرئ مِن عِباد اللّه مضطهدٍ***ببطنِ مكّة مقهور ومفتونِ

أنّا وجدنا بِلاد اللّه واسعةً***تُنجِي مِن الذُّلِّ والمخزاة والهون

فلا تُقيموا على ذُلِّ الحياة وخز***ي في المماتِ وعيب غير مأمون
8

ويقول ابن الاثير: وكان مسيرهم (الى الحبشة) في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من اظهار الدعوة فاقاموا شعبان وشهر رمضان وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم الى النبي صلّى اللّه عليه وآله انه بلغهم ان قريشاً اسلمت فعاد منهم قوم وتخلّف قوم9.

هذا ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على تفاصيل هذا القسم في السيرة النبويّة لابن هشام10.

قريش توفد رجالاً لاسترداد المسلمين
عندما بلغ قريشاً وزعماء "مكة" ما أصبح فيه المسلمون المهاجرون من أمن وحرية، وما حصلوا عليه من حسن الجوار والطمأنينة والراحة في أرض الحبشة ثارت ثائرة الحسد والغيظ في قلوبهم، وتوجسوا خيفة من نفوذ المسلمين في الحبشة لأن أرض الحبشة قد أصبحت قاعدة قوية للمسلمين، وكانت الزعامةُ المكيةُ تتخوفُ من أن يجد أنصارُ الإسلام واتباعُه منفذاً إلى بلاط النجاشي زعيم الاحباش وملِكهم، ويُميّلوا قلبه نحو الإسلام، ويكسبوا تاييده للمسلمين، فيؤول الامر إلى أن يعبّئ جيشاً كبيراً للقضاء على حكومة المشركين الوثنيين في شبه الجزيرة العربية، وعندها تكون الكارثة.

فاجتمع أقطابُ "دار الندوة" مرة اُخرى للتشاور في الأمر، فإستقرّ رأيهم على أن يبعثوا إلى البلاط الحبشيّ من يقدم إلى النجاشيّ ووزرائه وقواده هدايا مناسبة يستميلونهم بها ليستطيعوا من هذا الطريق التأثير على النجاشي ثم يتسنّى لهم بعد ذلك ان يقنعوه بضرورة إخراج المسلمين المهاجرين من أرضه أن يتهموهم عنده بالسفاهة والجهل، وابتداع دين جديد منكر، والإرتداد عن دين الآباء والاجداد!!

ولكي تتحقق خطتهم هذه على أحسن وجه ويصلوا عن طريقها إلى أفضل النتائج اختاروا من بينهم رجلين ماكرين اصبح احدُهما في ما بعد من دهاقنة السياسة وهما: "عمرو بن العاص"، و"عبد اللّه بن ابي ربيعة" وقال لهما كبير المؤتمرين في ذلك الدار: إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه، ثم سلاه أن يسلّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرج موفدا قريش حتى قدما على النجاشي بعد أن تلقّيا هذه التعليمات.

وهناك في الحبشة دفعا الى كل بطريق من بطارقة النجاشيّ وقادة جيشه ووزرائه هديته، وقالا لكل بطريق منهم:

إنه قد ضوى11 إلى بلد الملك منّا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم، وقد بعثنا الى المَلِك لنكلّمه في أمرهم أشرافُ قومهم ليردّهم اليهم فاذا كلّمنا الملكُ فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا، ولا يكلّمهم، فان قومهم أبصر بهم، واعلم بما عابوا عليهم.

فابدى اُولئك البطارقة والقادة والوزراء الطامعون الجهلة استعدادهم لمساعدة الرجلين في إنجاح مهمتهم.

ولما كان من غد دخلا على النجاشي وقدما هداياهما اليه فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا له:أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم اليهم، فهم أبصر بهم واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

وما أن انتهى موفدا قريش من الكلام إلا وقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومُهم أبصرُ بهم، وأعلمُ بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليرداهم الى بلادهم وقومهم.

فغضب النجاشيّ وكان رجلا حكيماً عادلاً وقال: لاها اللّه، إذن لا اُسلمهم إليهما، ولا يُكادُ قوم جاورُوني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم فان كانوا كما يقولان أسلمتُهُم اليهما، ورددتُهم الى قومهم، وان كانوا على غير ذلك منعتُهم منهما واحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.

ثم ارسل الى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المهاجرين الى الحبشة فدعاهم من غير أن يعلمهم بما يريد منهم، فحضروا عنده، وكانوا قد قرّروا أن يكون متكلِّمُهم وخطيبهم: "جعفر بن أبي طالب" وقد قلِق بعضُ المسلمين لما قد سيقوله "جعفر" عند الملك، وبماذا سيكلّمهُ ويجيبُه، فسألوه عن ذلك فقال لهم جعفر: أقول واللّه ما علّمنا، وما امرنا به نبيُنا صلّى اللّه عليه وآله كائناً في ذلك ما هو كائن.

فالتفت النجاشيُ الى "جعفر" وسأله قائلاً:ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا (به) في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل؟

فقال جعفر بن أبي طالب:"أيُها الملك، كنّا قوماً أهلَ جاهلية نعبُدُ الأصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الارحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه الينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا الى اللّه لنوحِّدَه ونعبُدَه، ونخلعَ ما كنّا نعبُد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد اللّه وحده، لا نشركُ به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به، واتّبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة اللّه تعالى، وان نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك ايها الملك".

فأثّرت كلمات جعفر البليغة، وحديثه العذب تأثيراً عجيباً في نفس النجاشيّ بحيث اغرورقت عيناه بالدُموع، وقال لجعفر: هل معك ممّا جاء به عن اللّه من شيء؟

فقال جعفر: نعم فقال له النجاشيّ: فاقرأهُ عليَّ، فقرأ عليه جعفر آيات من مطلع سورة مريم، واستمرّ في قراءته، وبذلك بيّن نظرة الإسلام إلى "مريم" عليها السّلام وطهارة جيبها، والى مكانة المسيح عليه السّلام، وعظمة شأنه، وجليل مقامه، فبكى النجاشيُ حتى اخضلّت لحيتُه بالدموع وبكت اساقفتُه12 حتى بلّوا مصاحفهم بها حين ما سمعوا ما تلاه جعفر عليهم حول مريم والمسيح عليهما السّلام.

وبعد صمت قصير ساد ذلك المجلس قال النجاشي:"إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة" وهو يقصد أن القرآن والإنجيل كلامُ اللّه وأنهما شيء واحد.
ثم التفت الى موفدي قريش وقال لهما بنبرة قوية: انطلقا فلا واللّه لا اُسلِّمهم إليكما ولا يُكادون، فخرجا من عنده.

وعند المساء تكلم "عمرو بن العاص"- وكان إمرأً خدّاعاً ماكراً- مع رفيقه "عبد اللّه بن ربيعة" في الامر، وقال له: واللّه لآتينّه غداً عنهم بما استأصل به حضراءهم (وهو يعني أنه سيأتي بحيلةٍ تقضي على جذور المهاجرين بالمرة) ولاُخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. (أي على خلاف ما يعتقد النصارى في المسيح).

فنهاه "عبد اللّه" عن ذلك وقال: لا تفعل، فانّ لهم أرحاماً، وان كانوا خالفونا، ولم ينفع نهي عبد اللّه له.

ولمّا كان من الغد دخلا على النجاشيّ مرة اُخرى فقال له "عمرو" متظاهراً هذه المرة بالدفاع عن عقيدة النصارى وهي دين الملك واهله، ومنتقداً رأي المسلمين:

أيها الملك، إنهم يقولون في "عيسى بن مريم" قولاً عظيماً، فارسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فارسل النجاشي اليهم ليسألهم عنه، وهو الملك المحنّك الذي لا يأخذ الاُمور على ظواهرها، ومن غير تحقيق ودراسة، فأدرك المسلمون بفطنتهم أنه سيسألهم هذه المرة عن موقفهم من المسيح عليه السّلام فاتفقوا أن يكون "جعفر" متكلمهم وخطيبهم وعندما سألوه عما سيجيب به الملك قال: أقول واللّه ما قال اللّه، وما جاءنا به نبيُّنا.

فلما دخلوا على النجاشيّ قال لجعفر بن ابي طالب: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلّى اللّه عليه وآله: هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته القاها الى مريم العذراء البتول.

فسرّ النجاشي لكلام جعفر ورضي به وقال: هذا واللّه هو الحق، واللّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ.

ولكنّ حاشيته لم ترضَ بهذا الكلام ولم تقبل بما قاله الملكُ، ولكنّه لم يعبأ بهم، وأيّد مقالة المسلمين، ومنحهم الحرية الكاملة، والأمان الكامل قائلاً لهم:اذهبوا فانتم آمنوان في أرضي من سبّكم غُرمَ، من سبّكم غُرم، ما اُحب أنّ لي دبراً من ذهب وإني آذيتُ رجلاً منكم.

وردّ على موفدي قريش هداياهما قائلاً لهما: "ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فواللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فاُطيعهم فيه".

فخرج مبعوثا قريش مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به يجرّان اذيال الخيبة13.

وينبغي ان نسجّل هنا موقفاً آخر من مواقف ابي طالب في تأييد المسلمين، ونصرة الدين الحنيف.

فقد أرسل "أبو طالب" أبياتاً للنجاشيّ يحثُّه على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم وتلك الابيات هي:

ألا ليتَ شِعري كيف في النأي جعفر***وعمرو واعداء العدو: الأقاربُ؟

وهل نالت افعال
14 النجاشيّ جعفراً***وأصحابه أو عاق ذلك شاغبُ؟

تعلّم، أبيتَ اللعنَ، انك ماجد***كريم فلا يشقى لديك المجانبُ

تعلّم بان اللّه زادك بسطةً***وأسباب خير كلّها بك لازب

وأنك فيض ذو سجال غزيرة***ينالُ الاُعادي نفعُها والاقارب
15


العودةُ من الحبشة
قلنا في ما مضى أنّ المجموعة الاُولى من المهاجرين رجعت من الحبشة الى مكة لأنباء بلغتها عن إسلام قريش عامة وانضوائها تحت راية الإسلام. حتى إذا دنوا من "مكة" بلغهم أن ما كانوا تحدّثوا به من إسلام مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم الى "مكة" إلا قليل دخلوها مستخفين أو في جوار بعض الشخصيات القرشية بينما عاد الأكثرون من حيث جاؤوا.

وكان ممن دخل "مكة" بجوارٍ "عثمان بن مظعون" الذي دخلها بجوار "الوليد بن المغيرة"16 ولكنه كان يشاهد ما فيه أصحابُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من البلاء، والعذاب وهو يغدو ويروح في امان فتألّم لذلك ولم تطِق نفسه تحمُّل هذا الفَرق وقال: واللّه إن غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهلُ ديني يلقَون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي. فمشى الى "الوليد بن المغيرة" وردّ عليه جواره ليواسي المسلمين ويشاركهم في آلامهم ومتاعبهم وقال: يا أبا عبد شمس وفت ذِمّتُك، قد رددتُ إليك جوارك.

قال: لِم يابن أخي؟ لعلّه آذاك أحد من قومي؟

قال: لا ولكني أرضى بجوار اللّه ولا اُريد أن أستجير بغيره.

فقال الوليد له: إذن فاردُد عليّ جواري علانية كما أجرتُك علانيةً.

فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجدَ، فقال "الوليدُ" مخاطباً من حضر مِن قريش: هذا عثمان قد جاء يردُّ عليّ جواري.

قال: صدق، قد وجدتُه وفيّاً كريم الجوار ولكنّي قد احببتُ أن لا استجير بغير اللّه، فقد رددتُ عليه جواره17.

ثم لم يمض شيء مِن الوقت حتى دخلَ المسجد "لبيد" وكان شاعراً متكلِّماً بارزاً من شعراء العرب ومتكلّميها ووقف في مجلس من قريش ينشدهم و"عثمانبن مظعون" جالس معهم فقال مِن جملة ما قال شعراً:

ألا كلُّ شيء ما خلا اللّه باطلُ
فقال عثمان بن مظعون: صدقت فقال لبيد:وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان: كذبت، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل "لبيد" تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال: يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجل مِن القوم: إنّ هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسك من قوله.

فردّ عليه "عثمان" حتى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها (واصابها)، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة (وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك).

فقال عثمان رادّاً عليه: بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرة الى مِثل ما أصاب اُختَها في اللّه، واني لفي جوار من هو أعزُّ منك، وأقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي إن شئت فعُد إلى جوارك، فقال ابنُ مظعون: لا18.

وكانت هذه صورة رائعة من صور كثيرة لصمود المسلمين، وتفانيهم في سبيل العقيدة، وإصرارهم على النهج الذي اختاروه، ومواساة بعضهم لبعض في أشدِّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفد مسيحيٌّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة
قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو بمكة عشرون رجلاً من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة، مبعوثين من قِبل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد، فجلسوا إليه، وكلّموه وسألوه عن مسائل، ورجال من قريش فيهم "أبو جهل" في أنديتهم حول الكعبة.

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عما أرادوا دعاهم- صلّى اللّه عليه وآله- إلى اللّه عزّ وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدّقوه، بعدما عرفوا منه ما كان يوصف في كتابهم (الانجيل) من أمره.

فلما قامُوا عنه، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله "ابو جهل" فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً: خيّبكُمُ اللّه مِن ركبٍ بعثكُم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتى فارقتُم دينكُم وصدّقتموهُ بما قال، ما نعلمُ ركباً أحمق مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم: سلام عليكم لا نُجاهِلكم، لنا ما نحنُ عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً19.

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الذي كان يبغي- كسحابة داكنة- حجب أشعة الشمس المشرقة، وحالوا دون وقوع صِدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق
لقد أيقظ وفدُ نصارى الحبشة الى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قريشاً ودفعهم الى تكوين وقد يتألف من: "النضر بن الحارث" و"عُقبة بن ابي معيط" وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش: سلوا محمّداً عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّل، فروا فيه رأيكم، سلوه:

1- عن فتية ذهبوا في الدهر الأول (يعنون بهم أصحاب الكهف) ما كان من امرهم، فانه قد كان لهم حديث عجيب.

2- وعن رجل طوّاف (يعنون به ذا القرنين) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

3- وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ، فانه نبيّ، وان لم يفعل، فهو رجُل متقوِّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فعاد وفد قريش الى "مكة" ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله: انتظر في ذلك وحياً.

ثم نزل الوحيُ يحملُ الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورد الجواب عن السؤال عن الروح في الآية 85 من سورة الإسراء.

واُجيب على السؤالين الآخرين عن أصحاب "الكهف" وذي القرنين بتفصيل في سورة "الكهف" ضمن الآيات 9- 28 والآيات 73- 93.

وقد وردت تفصيلاتُ هذه الإجابات التي أجاب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولا بدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من "الرّوح" في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين، (بقرينة أنّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة: هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين، ويعادونه)، وهو أمر مبحوث في محلّه من كتب التفسير.


1- العنكبوت: 56.
2- السيرة النبوية: ج 1 ص 321، تاريخ الطبري: ج 2 ص 70، وبحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي.
3- تاريخ الطبري: ج 2 ص 70.
4- بحار الأنوار: ج 20 ص 382.
5- بحار الأنوار: ج 18 ص 412 نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي.
6- السيرة النبوية: ج 1 ص 321 - 323.
7- المُغلغلَة: الرسالة ترسل من بلد الى بلد.
8- السيرة النبوية: ج 1 ص 351 - 353.
9- الكامل في التاريخ: ج 2 ص 52 و53.
10- السيرة النبوية: ج 1 ص 354 - 362.
11- ضوى أيّ لجأ وأتى ليلاً.
12- الاساقفه، جمع اسقف: علماء النصارى.
13- السيرة النبوية: ج 1 ص 338، إمتاع الاسماع: ص 21 بحار الأنوار: ج 18 ص 414 و415.
14- إحسان.
15- السيرة النبوية: ج 1 ص 333 و334.
16- السيرة النبوية: ج 1 ص 369.
17- السيرة النبوية: ج 1 ص 370.
18- السيرة النبوية: ج 1 ص 370 و371.
19- السيرة النبوية: ج 1 ص 390 و393 وقد نزلت في هذا الشأن الآيات 52 الى 55 من سورة القصص.