العطف الشديد
همُّ هداية ونجاة
البشريّة
إنّ النبيّ الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم هو
الإنسان الكامل الجامع
لتمام الكمالات والفضائل
الأخلاقيّة. ويكفي
للإشارة إلى علوّ منزلته
وعظمتها خطاب الباري
المتعال له في القرآن
الكريم، إذ وصف وجوده
المطهّر بأنّه رحمة لجميع
الناس وخاطبه بقوله:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾1.
يقول الإمام الخمينيّ قدس
سره في خصوص رحمة ومحبّة
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم: "... إنّ أعلى
من مرتبة (غلبة العقل على
جميع القوى) هو أن تصبغ
القوّة العاقلة بالصبغة
الإلهيّة وأن تتعلّق قوّة
العشق بالكمال الإلهيّ
المطلق، بحيث إنّ أيّ عمل
يُعجن بالحبّ الإلهيّ
﴿فَأَيْنَمَا
تُوَلُّواْ فَثَمَّ
وَجْهُ اللّهِ﴾2.
طبعاً إنّ هذا المقام لا
يتيسّر لأيّ كان. إنّها
مرتبة النبيّ الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم،
مرتبة ﴿رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ﴾. بحيث لو
نظر إلى الحجر لنظر نظرة
عطوفة لأنّه سيجد فيه أثر
المحبوب، حتّى نظرته لأبي
جهل كانت نظرة الرحمة
وقتله له كان رصاصة
الرحمة، لأنّه كان يعلم
أنّ بقاء أبي جهل في دار
الدنيا يعني زيادة في
خسرانه، لأنّ نظم الأمور
ورعاية حقوق الآخرين يلقي
على النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم مسؤوليّة قطع
العضو
الفاسد والّذي
سيمتدّ فساده إلى
الآخرين. كان النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم يعمل
وفق القانون الإلهيّ ونحن
أيضاً تابعون للقانون وما
يفرضه علينا من التولّي
والتبرّؤ.
فالنبيّ كان ﴿رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾.
ونحن نعيش في هذا العالَم
تحت ظلّ الرحمة الإلهيّة،
تحت ظلّ النور الطاهر
لمحمّد المصطفى صلى الله
عليه وآله وسلم"3.
ما كان النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم يغضب
يوماً من الناس. كان
يستمع لهم بسعة صدر،
ويدعوهم دائماً إلى
التعامل بالرحمة والعطف
والمحبّة فيما بينهم،
وكان يقول صلى الله عليه
وآله وسلم كما نُقل عنه:
"والّذي نفسي بيده لا يضع
الله الرحمة إلّا على
رحيم"4.
كان يقسم بأنّ الرحمة
الإلهيّة لن تكون نصيب
إلّا من كان رحيماً. وحين
سأله المسلمون قائلين: يا
رسول الله هل نحن رحماء؟،
أجابهم: "ليس الّذي يرحم
نفسه وأهله خاصّة، ولكن
الّذي يرحم المسلمين"5.
فالرحمة الإلهيّة تشمل من
عمّت رحمته المسلمين لا
ذلك الذي اقتصرت رحمته
على نفسه أو على أهل
بيته.
وبعد ذلك قال صلى الله
عليه وآله وسلم: "قال
تعالى: "إن كنتم تريدون
رحمتي فارحموا"6.
كانت علاقة النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم
بأصحابه تتجاوز مثل علاقة
الناس مع بعضهم بعضاً.
كان الأب الرحيم بأولاده
الّذي يحرص على استقامتهم
وسعادتهم، وفي ذلك يقول
الإمام قدس سره:
"كيف كان نبيّ الإسلام
صلى الله عليه وآله وسلم
يتعامل مع أصحابه؟ في نفس
الوقت الّذي يُظهر فيه
الشدّة على الكفّار بعد
أن ييأس من هدايتهم
ويناصبونه العداء، كان
كالأب الرحيم بأصحابه
وأتباعه بل وأكثر من أب
رحيم"7.
العطف الشديد
منذ بدء الخليقة وحتّى
نهايتها، لا يوجد بين
عباد الله من هو أعطف
وأرأف من حضرة الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم. هذا العطف
والرأفة الخاصّان به
علّقا قلوب الناس به،
ففتح القلوب لتدخل إليها
الهداية الإلهيّة. وما
كان تأذّيه الشديد إلّا
لأنّ بعضهم أضلّوا طريق
الهداية أو لأنّ بعضهم
الآخر قبع في ظلمات الجهل
والضلال.
الإمام الخمينيّ قدس سره
يشير في إحدى خطبه إلى
هذه الخصوصية في شخصية
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حيث يقول:
"كان نبيّ الإسلام يحزن
للناس الّذين لم يهتدوا،
بحيث إنّ الله تبارك
وتعالى كان يُواسيه في
ذلك. وقد بلغ حزنه حتّى
شقّ الأمر عليه فخاطبه
الله تبارك وتعالى في
القرآن
بأنّا لم نرسل
إليك القرآن لتشقى من أجل
الناس. كان حزنه ألماً
على شعوب الأرض كحزن الأب
على أولاده، وكان يحزن
على الكافرين عندما يراهم
حيث لم يهتدوا ويسيروا
على الفطرة الإنسانيّة
التي خلقهم الله عليها"8.
"فالنبيّ الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم كان يحزن
لهؤلاء الكافرين لأنّهم
لم يهتدوا إلى الإسلام
وإلى الإيمان. وقد جاء في
الآية الشريفة: ﴿فَلَا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾9، إنّك تريد أن يهتدي
الجميع إلى نور
الإيمان.... أن يكون
للجميع نور يمشون به، فلو
كان الأمر كذلك لانتهت
النزاعات في الأرض. لو
جُمع الأنبياء عليهم
السلام في مكان واحد لما
حدث بينهم أيّ نزاع،
افترضوا أنّ الأولياء
والأنبياء عليهم السلام
قد جمعهم الله في عالم
الدنيا في وقت واحد، لما
تنازعوا فيما بينهم، لأنّ
منشأ النزاع هو الميل نحو
الأنانيّة"10.
"نُقل أنّ النبيّ مرّ على
جمع أُسروا يجرّون في
الأصفاد فقال: يجب أن
تجُرَّ هذه السلاسل هؤلاء
إلى الجنّة. كان النبيّ
يتأذّى لحال هؤلاء لأنّهم
لم يهتدوا وأُسروا، حتّى
خاطبه الله تبارك وتعالى
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ
يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾11.
فالقضيّة قضيّة الإيمان
وليست المسألة أن يتسلّط
أحد في بلد على رقاب
الناس"12.
"كان النبيّ الأكرم
يتأسّف على المشركين
الّذين سيُدخلون أنفسهم
النار. وكان يحزن عليهم.
فالإسلام هو دين الرحمة"13.
القرآن الكريم هكذا عرّف
ووصف النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم بأنّه
نفحة الرحمة للناس
جميعاً، يقول تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ
مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ ﴾14.
فهذا النبيّ الّذي أُرسل
إليكم والّذي يألم لألمكم
ويُجهد نفسه لجهدكم، هذا
الرسول يصرُّ على
هدايتكم، وسبب هذا
الإصرار أنّه رحيم بكم
رؤوف بالمؤمنين، وقد بلغ
من شدّة حزنه أن عرّض
نفسه للتهلكة، يقول
الإمام الخمينيّ
قدس سره في
ذلك:
"لقد بلغت شدّة شفقة
ورأفة هذا العظيم منتهى
المدى، حيث تُبيِّن حاله
الآية الشريفة الأولى من
سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
﴾15. وجاء أيضاً في أوائل
سورة الكهف:
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ
يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا
﴾16.
سبحان الله! لقد ضاق
الأمر على رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
لشدّة تأسّفه على حال
الكفّار والجاحدين للحقّ
ولشدّة تمنّيه السعادة
لعباد الله، حتّى اقتضت
الساحة الإلهيّة أن
تواسيه وتخفّف عنه وتحفظ
هذا القلب
اللطيف من أن
يهلك من شدّة الهمّ
والحزن على هؤلاء الجهلاء
سيّئي الحظّ"17.
همُّ الهداية ونجاة
البشريّة
إن شدّة ارتباط ومحبّة
النبيّ الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم للصديق
والعدوّ كانت من أجل
إرادة الخير والصلاح
للمجتمع، ولتأمين السعادة
والطمأنينة للبشر. وإذا
ما وجدنا في حالات خاصّة
أنّ هذا العظيم اضطّر إلى
استعمال القوّة "السلاح"
فإنّما كان من أجل الدفاع
عن كيان الأمّة
الإسلاميّة، والّذي ينتهي
في الحقيقة إلى إرادة
الخير والصلاح للمجتمع.
الإمام الخمينيّ قدس سره
يقول في هذا المجال:
"كما كان نبيّ الإسلام
صلى الله عليه وآله وسلم
رحمة ورحيماً بالمؤمنين،
كان كذلك للكافرين، بمعنى
أنّه كان يحزن على
الكفّار لبقائهم على
كفرهم الّذي سيؤدّي بهم
إلى جهنّم، فهو قد أُرسل
لينجّي هؤلاء الكفّار
وهؤلاء العصاة، والله قد
خاطبه بسبب حزنه هذا فقال
تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ
يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾18
، كأنّك تريد أن تهلك
نفسك بسبب أنّهم لم
يؤمنوا ولم ينالوا حظ
ّالنجاة. يروي لنا
التاريخ أنّه عندما مرَّ
جمعٌ أُسروا في إحدى
الحروب بالنبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم يُجرّون
بالسلاسل، قال النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم إنّ
هذه السلاسل يجب أن
يُجرّوا بها إلى الجنّة،
لذلك علينا الآن أن
نأتي
بهم ونهديهم. لقد كان
نوراً للهداية، سموحاً مع
المؤمنين ومع الآخرين
إلّا الذين كانوا يشكّلون
غدّةً سرطانيّة، فكان
عليه استئصالها من
المجتمع"19.
"إذا أراد الشخص السالك
أن يجد حقيقة تسميته، يجب
أن يُوصل رحمات الحقّ إلى
قلبه حتّى تتحقّق صفة
الرحمة الرحمانيّة
والرحمة الرحيميّة.
وعلامة ذلك أن يجد في
قلبه ذلك الأثر فينظر إلى
عباد الله بعين العناية
ويطلب الخير والصلاح
للجميع. وبهذه العناية
نظر الأنبياء العظام
والأولياء الكُمّل عليهم
السلام. إلّا أنّ ذلك كان
على وجهين، فمن جهة راموا
سعادة المجتمع والعائلة
وسعوا لتحقيق المدينة
الفاضلة، ومن جهة أخرى
أرادوا سعادة الشخص
(الفرد) أيضاً، حيث
العلاقة والارتباط الكامل
بين كلا الوجهين.
والقوانين الإلهيّة
شُرِّعت على أيديهم وتمَّ
كذلك إنفاذها وتطبيقها،
من أجل كمال السعادتين
(الفرد والمجتمع)20.
ويظهر أن تطبيق القصاص
وإجراء الحدود والتعذيرات
وأمثال ذلك، قد أُسّس
للوصول إلى المدينة
الفاضلة. لذا كانت كلا
السعادتين مطلوبة واللتان
تُسهمان في تربية النفس
وكمالها، حتّى أولئك
الّذين لم يروا نور
الإيمان وقُتلوا بجهاد
المسلمين وغير ذلك، مثل
يهود بني قريظة ـ لقد كان
قتلهم بالنسبة إليهم فيه
صلاحهم وإصلاحهم. ويمكن
أن يقال إنّ الرحمة
الكاملة للنبيّ الخاتم
اقتضت قتلهم، فكلّ
يوم
كانوا سيبقون في هذا
العالَم سيجرّون فيه على
أنفسهم أنواع العذاب
الإضافيّة، حيث لا يمكن
قياس كلّ الحياة الدنيا
بيوم من عذاب ومصاعب
الآخرة. وهذا البيان واضح
للّذين يُدركون ميزان
العذاب والعقاب في الآخرة
وارتباطه بأسبابه
ومسبّباته، لذا فإنّ
السيف الّذي سُلّط على
رقاب يهود بني قريظة كان
سيفاً أقرب إلى أفق
الرحمة منه إلى دائرة
العذاب"21.
لنرَ رسول الإسلام الكريم
صلى الله عليه وآله وسلم
في حرب أُحُد، ففي الوقت
الّذي شُقّت فيه جبهته
المباركة وكُسرت أسنانه،
والدماء تسيل من جراحاته
من رأسه ووجهه، كان نفس
ذلك الأب الرحيم الّذي
أراد دائماً الخير
والصلاح لأولاده، حيث رفع
يديه في تلك الحالة
بالدعاء وقال: "اللهمّ
اهدِ قومي فإنّهم لا
يعلمون"22.
وروي أنّ أصحاب النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
طلبوا منه أن يلعن
المشركين ليحلّ عليهم
العذاب كما دعا نبيّ الله
نوح عليه السلام على قومه23
فهلكوا، فأجابهم النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم:
"إنّي لم أُبعث
لَعّاناً، ولكنّي بُعثت
داعياً ورحمةً..."24.
فالنبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم لم يُبعث لهلاك
الناس حتّى وإن ضلّوا،
وإنّما لأجل دعوتهم إلى
الهداية والرفق بهم، لذلك
نراه في تلك الحالة يرفع
يديه ليدعو الله لهم أن
يهديهم فهم لا يعلمون.
الإمام الخمينيّ قدس سره
في رسالته الأخلاقيّة
العرفانيّة الّتي كتبها
لابنه المرحوم السيّد
أحمد الخمينيّ، أشار إلى
أسف النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم على قومه
الّذين عميت بصيرتهم ولم
يهتدوا، حيث يقول الإمام
قدس سره:
"حقيقةً لا أجد سبباً
يدعو النبيّ الخاتم صلى
الله عليه وآله وسلم إلى
أن يحزن ويتأسّف على
المشركين الّذين لم
يؤمنوا إلى الحدّ الّذي
يصل فيه إلى مستوى هلاك
نفسه، بحيث خوطب بخطاب ﴿فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ
يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾25
، سوى أنّه كان يشتعل
بحبّ عباد الله عشقاً،
ومن يعشق الله يعشق
تجلّياته. لذلك كان يألم
لأولائك الّذين احتجبوا
بحجب ظلمات الأنانيّة
وتاهوا في منزلقات النفوس
الشيطانية، بحيث انتهت
بهم أعمالهم وما كسبت
أيديهم إلى شقائهم
ودخولهم النار، لأنّه كان
يرى نفسه أنّه أُرسل إلى
الجميع من أجل سعادتهم،
في حين أنّ المنحرفين
والمشركين كانوا يبادلونه
العداوة والبغضاء"26.
وبالرغم من جميع المصاعب
والمتاعب والأذى الّذي
ألحقه كفّار مكّة بالنبيّ
الأعظم صلى الله عليه
وآله وسلم، لم يألُ جهداً
ولا ترك واجباً في طريق
هداية وإصلاح مجتمعه،
وبمقدار ما كانت
المضايقات تزداد، بمقدار
ما كان حبّه ولطفه يزداد
لعباد الله.
وحول هذه الميزة الخاصّة
الّتي امتاز بها نبيّ
الإسلام الكريم يقول
الإمام الخمينيّ
قدس
سره:
"رويَ عن النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم أنّه قال:
"ما أوذي نبيّ مثل ما
أوذيت"27.
يرجع هذا المعنى إلى أنّ
أيّ شخص يستطيع أن يدرك
أكثر عظمة وجلال
الربوبيّة والمقام
المقدّس للحقّ ـ جلّ وعلا
ـ سيتأثّر ويتأذّى أكثر
من تجرّؤ أولائك العصاة
من العباد على هتك
الحرمة. وأيّ شخص أيضاً
سيكون أكثر حبّاً وحرصاً
ورحمةً بعباد الله، سيحزن
أكثر إذا انحرفوا وانتهوا
إلى الشقاء. ولأنّ النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
كان أكمل من سائر
الأنبياء والأولياء عليهم
السلام في بلوغ المقامات
المعنوية والعروج في
مدارج الكمال كان أكثر
تأثّراً وحزناً"28.
"إنّ محنة النبي الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم
كانت أشدّ من الجميع،
لأنّ ما وصل إليه النبيّ
وأدركه من المعارف
القرآنية لن يجد من
يبيّنه لنا إلّا إذا كان
ممّن نال مقام الولاية
التامّة.
لعلّ من معاني "ما أوذي
نبيّ مثل ما أوذيت" إذا
ما صحَّ نقلها عن الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم،
هي الحسرة الّتي يعيشها
شخص ما إذا ما أراد أن
يُبيّن أو يوصل شيئاً،
لكنّه لا يقدر على ذلك،
بمعنى أنّه لا يجد طريقاً
لإيصال الناس إلى ما وصل
إليه هو، ولذلك يحزن
ويتأذّى بالأخصّ إذا كان
ما وصل إليه فوق مستوى ما
وصل إليه الآخرون ويريد
أن يبلّغ هذا الأمور
الّتي وصل إليها، كالأب
الّذي يتأثّر ويحزن على
ولده الأعمى الّذي لا
يستطيع رؤية نور الشمس"29.
"كان الأنبياء عليهم
السلام يأسفون للناس
الّذين لا يعيشون
العبوديّة لله تعالى مع
أنّهم خُلقوا لها، فيرون
أنفسهم مستغنين ومستقلّين
فيفسدون في الأرض. وأرجّح
أن يكون معنى "ما أوذي
نبيّ مثل ما أوذيت"30 هذا
المعنى. وأرجّح أنّ
المعرفة الّتي كانت عند
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم لم تكن عندهم،
وكذلك المقامات الّتي وصل
إليها لم يصلوا هم إليها
لذلك كان يتأذّى من
ارتكابهم للمعاصي. فلو
أنّ إنساناً سُلب حقّاً
في أقصى العالَم، كان
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم يأسى له ليس من
باب أنّه ابن مدينته أو
ابن جلدته، أو أنّه يعيش
في مملكته وإنّما من باب
أنّ الظلم قد وقع على
إنسان في هذه الدنيا"31
في حوادث فتح مكّة، عندما
دخلها المسلمون في أوج
عزّتهم واقتدارهم، كان
سعد بن عبّادة الخزرجيّ
حامل لواء الأنصار يردّد
بصوت عالٍ: "اليوم
يومُ الملحمة، اليوم
تستحلّ الحرمة"32 ،
فاليوم يوم سفك الدماء،
واليوم يوم الانتقام
وإباحة الدم والمال. سمع
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم هذا النداء،
فاضطرب اضطراباً عظيماً
وأمر الإمام عليّاً عليه
السلام أن يأخذ الراية
ويمسك بزمام الأمور وعزل
سعد عنها.
على الرغم من كلّ الأذى
والألم الّذي ألحقه كفّار
قريش في حقّ النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم
وأصحابه، كان الجميع
يتوقّع أن ينتصر هؤلاء
لمظلوميّتهم وينتقموا
ممّن ظلمهم من أهالي
مكّة، لكنّ النبيّ الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم
أمر المسلمين أن يدخلوا
مكّة بمظهر الرحمة
والرأفة، وأصدر عفواً
عامّاً وقال مقولته
المشهورة: "اليوم يوم
المرحمة"33.
1-
سورة الأنبياء،
الآية: 107.
2-
سورة البقرة،
الآية: 115.
3-
النبوّة في رؤية
الإمام الخمينيّ قدس سره،
ص 397 ـ 398، مؤسسة تنظيم
ونشر آثار الإمام
الخمينيّ.
4-
مستدرك الوسائل،
المحدّث النوري، ج 9، ص
54، باب 107، الحديث
الثالث.
5-
م. ن.
6-
م. ن.
7-
صحيفة الإمام، ج
9، ص 329، خطاب الإمام في
لقاء مع إخوة وأخوات
إيرانيين يقيمون في
الكويت، بتاريخ
2/6/1358هـ.ش.
8-
صحيفة الإمام، ج
15، ص 392، بتاريخ 33/
10/ 1360 هـ.ش.
9-
سورة فاطر، الآية:
8.
10-
صحيفة الإمام،
ج11، ص 380 ـ 381.
11-
سورة الكهف،
الآية: 6.
12-
صحيفة الإمام، ج
12، ص 508.
13-
سيماء المعصومين
في فكر الإمام الخمينيّ
قدس سره، ص97.
14-
سورة التوبة،
الآية: 128.
15-
سورة الشعراء،
الآية: 3.
16-
سورة الكهف،
الآية: 6.
17-
شرح حديث جنود
العقل والجهل،الإمام
الخميني قدس سره, ص 234 ـ
235.
18-
سورة الكهف،
الآية: 6.
19-
النبوّة في رؤية
الإمام الخميني قدس سره،
ص 396.
20-
إيضاح من المترجم.
21-
آداب الصلاة،
الإمام الخمينيّ قدس سره،
ص 236 ـ 237.
22-
مناقب آل أبي
طالب، ابن شهر آشوب، ج 1،
ص 192.
23-
﴿وَقَالَ
نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾سورة
نوح، الآية: 26.
24-
سنن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم،
السيّد محمّد حسين
الطبطبائي، ص413.
25-
سورة الكهف،
الآية: 6.
26-
صحيفة الإمام، ج
16، ص 216 ـ 217.
27-
الجامع الصغير،
السيوطي، ج 2، ص 144،
بحار الأنوار، العلّامة
المجلسي، ج 39، ص 56، باب
73، ح 15.
28-
النبوّة في رؤية
الإمام الخميني قدس سره،
ص 421.
29-
تفسير سورة الحمد،
ص 141.
30-
مناقب آل أبي
طالب، ابن شهرآشوب، ج3،
ص247.
31-
صحيفة الإمام،
ج19، ص205.
32-
بحار الأنوار،
العلّامة المجلسي، ج 21،
ص105.
33-
المغازي، الواقدي،
ج2، ص822.
|