الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم


واحدة من أبرز الميّزات الأخلاقيّة الّتي امتاز بها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن الآخرين كانت فضيلة التواضع، بحيث تناقل الركبان الأحاديث عن أدبه واحترامه حقوق عباد الله، فما كان يرضى لنفسه مع علوّ شأنه أن يكون له كما للحكّام والطواغيت من مظاهر الأبّهة والعلوّ.

فلم يعد يخفى على أحد من حكّام العالَم نمط الحياة البسيطة والمتواضعة الّتي كان يعيشها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ومع هذا الحال فإنّ هذا القائد الإلهيّ استطاع بتلك الإمكانيّات المحدودة الماديّة وبدون تلك المظاهر الدنيويّة المزخرفة أن يترك تأثيراً عظيماً في قلوب أبنائه وأصحابه. وقد كان متواضعاً بشكل متساوٍ مع الجميع فلم يكن ليفرّق بين الطبقات المختلفة، بين الغنيّ والفقير، بين الأسود والأبيض، بين المولى والعبد فكان الجميع عنده على حدٍّ سواء.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المضمار:

"ورد في الحديث
1 أنّ جبرائيل عليه السلام قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، فتواضع صلى الله عليه وآله وسلم ورفض قبولها، وافتخر بفقره"2.


55


"النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان علمه من الوحي الإلهيّ، وكانت روحه من العظمة بحيث إنّها بمفردها غلبت نفسيّات كلّ البشر، إنّ هذا النبيّ قد وضع جميع العادات الجاهليّة والأديان الباطلة تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم حلقة النبوّة بشخصه الكريم. وكان هو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرّف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أيّ شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراماً، وإذا دخل مجلساً لم يتصدّره، ويتناول الطعام جالساً على الأرض، قائلاً: إنّني عبدٌ، آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد3.

لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ أن يركب الحمار من دون سرج، وأن يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبيد. وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، ويحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم4. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنّه فضلاً عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهريّة"5.


56


وفي خصوص تواضع النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كتب المؤرّخون أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان هو من يسبق ويبتدئ الناس بالسلام، بغضّ النظر عن الطرف الآخر أكان صغيراً أم كبيراً، غنيّاً أم فقيراً، عالماً أم أميّاً.

فالبرغم من مقامه السامي كان يتواضع لأقلّ واحد من الناس حتّى لُقّب بـ "خاضع الطرف"، فكان دائم النظر إلى الأرض ولم يكن ليرفع رأسه كثيراً، فقد كان يرى أنّه دائم الحضور أمام ساحة الحقّ وأنّ الله سبحانه وتعالى ناظر إلى جميع أعماله، فكان يخشى الغفلة عن الحقّ ولو لبرهة يسيرة. ولهذا المعنى يشير الإمام الخمينيّ
قدس سره فيقول:

"لقد كانت سيرة الأنبياء عليهم السلام وتعاليمهم هي الوقوف بحزم في وجه الطواغيت، والتواضع للضعفاء والفقراء والمستضعفين. فقد ورد أنّ العرب كانوا إذا وفدوا على مسجد الرسول يسألون الناس "أيُّكم محمّد؟" في الوقت الّذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الحكومة الّتي تمّ تشكيلها في المدينة، هكذا كانت الأمور في المدينة. في المقابل ما كان ليخضع لأيّ قدرة بلغت ما بلغت لأنّه كان يرى الله تعالى ويستمدّ منه القدرة والقوّة، لأنّه صاحب القدرة والغنى الحقيقيّين بالأصالة لذا ما كان النبيّ ليخضع لأيّ مقتدرٍ بالتبع"6.

لقد كان مقدار تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبساطة عيشه أنّه ما كان يتكلّف


57


مكان الجلوس في أيّ محفل أو مجلس، فما كان يرى أنّ الجلوس في صدر المجلس أو في وسطه أو آخره يشكّل ميزة اجتماعيّة أو يشكّل تهديداً لشأنه ومنزلته، فكان يتجنّب الجلوس في صدر المجلس.


58


هوامش

1- أمالي الصدوق، المجلس 69، ح2. بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج16، ص266.

2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص242.

3- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسيّ، ص12.

4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص226.

5- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 95 ـ 96.

6- صحيفة الإمام، ج 16، ص 451.