من
الصفات العظيمة الّتي
تحلّى بها النبيّ الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم
العيش البسيط والتواضع من
غير تكلّف، كان الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
على رأس الهرم القياديّ
للمجتمع الإسلاميّ، لا بل
القائد الكبير والمبعوث
الإلهيّ لهذا المجتمع،
فبيده كانت مقاليد الأمور
وزمامها. ومع ذلك كان
يحسب نفسه كسائر الناس،
يساويها مع أصحاب الطبقة
الدنيا من المجتمع
الإسلاميّ.
بدون رياء وبدون تشريفات
وبرتوكولات كان يتناول
طعامه مع العبيد، يجلس
وينهض بلا تكلّف. يلبس
لباساً متواضعاً وخشناً،
لم يفتخر يوماً بلباس أو
نسب أو حسب. وقد وصفوا
هذه الحياة البسيطة لنبيّ
الإسلام صلى الله عليه
وآله وسلم فقالوا:
"يجلس بالأرض، ويأكل
طعامه بالأرض، ويلبس
الغليظ ويركب الحمار،
ويردف بعده، ويلعق
أصابعه، وكان يقول: من
يرغب عن سنّتي فليس
منّي"1.
بهذا كان يتّصف الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
في حياته المتواضعة، في
الوقت الّذي كان فيه
أصحاب الثروات والأغنياء
في عصره يرتدون أفخر
الألبسة من الحرير
والكتّان والجلود،
ويركبون الجياد الغالية
الأثمان، ويتّخذون
لأنفسهم خدماً وحشماً.
لقد رسم الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم
بذلك
قدوةً وسنّة للأجيال
القادمة في التواضع
والعيش البسيط. ويصف
الإمام الخمينيّ قدس سره
هذه الحياة البسيطة
للرسول صلى الله عليه
وآله وسلم فيقول:
"لقد نقل لنا رواة السيرة
النبويّة للرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم
أنّ وضعه المادّيّ في
المدينة كان أقلّ من
بقيّة الناس، فكان يسكن
في غرفة بنيت من التراب
مجاورة للمسجد، كان يركب
الحمار ويردف وراءه، وكان
يُنتقد ويُشكل عليه،
لكنّه أراد تربية
المجتمع. واليوم نفتقد
هذا النموذج بيننا، فلا
يوجد رئيس أو حاكم لدولة
أو مدينة أو قرية، يستطيع
أن يسلك هذا السلوك مع
جماعته. لقد كان المسجد
يُشكّل مركز الحكومة،
وكانت الناس تجتمع فيه من
أجل التداول في أوضاعهم،
فكانوا إذا دخل عليهم
وافد من خارج المدينة، لا
يستطيع أن يميّز بين
الحاكم منهم والمحكوم،
لذلك كان يسأل أيُّكم
محمّد؟ فلم يكن يمتاز عن
غيره، بل لم يكن يملك
شيئاً لأنّه كان ينفق كلّ
ذلك على الفقراء
والمساكين والضعفاء، إلى
حدٍّ عجز الناس عن وصف
هذا السلوك العظيم"2.
هذه هي حياة شخص كان يملك
حقّ التصرّف ببيت مال
المسلمين لكنّه مع ذلك
كان يصرف أمواله الشخصيّة
لتحرير العبيد وعتقهم،
وليشبع بطون الجياع ويكسو
العراة.
كان من شدّة تواضعه
وبساطة لباسه لا يُعرف من
بين جموع أصحابه ولا
يتميّز عنهم بأيّ شيء،
وإذا ما دخل رجل غريب ذلك
المجلس لم يكن يستطيع
تمييز الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم عن بقيّة
أصحابه، يقول أبو ذرّ
الغفاريّ واصفاً ذلك:
"كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يجلس بين
ظهراني أصحابه فيجيء
الغريب، فلا يدري أيّهم
هو حتّى يسأل"3.
الإمام الخمينيّ قدس سره
بالاستناد إلى هذه
الرواية في وصف طبيعة
حياة الرسول البسيطة
يقول:
"كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في
المدينة في مركز الحكومة،
حيث اتّسعت الحكومة، كان
يدخل العربيّ مجالس
المدينة ومجلس النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم،
فيجد الأصحاب يتحدّثون
فيما بينهم. ما كان
يستطيع أن يعرف من هو
الحاكم منهم ولا من هم
المحكومون"4.
"كذلك كان الخلفاء
والنبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم وأمير المؤمنين
عليه السلام كانوا يعيشون
حياة حتّى أقلّ من حياة
البساطة وشظف العيش"5.
نُقلت روايات كثيرة
تحدّثت عن أنّ الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم كان
يجلس مع أفراد البادية
بدون تكلّف ولا تشريفات
رسميّة، ويتحدّث معهم، لم
يدّخر أو يكنز المال،
وعاش حياة البساطة سواء
في مكّة أو في المدينة،
ويروي لنا التاريخ أنّه
لم يدّخر حتّى قطعة أرض
صغيرة لنفسه.
يقول أمير المؤمنين عليه
السلام في نهج البلاغة في
وصف تلك الحياة البسيطة
للرسول:
"ولقد كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
يأكل على الأرض، ويجلس
جلسة العبد ويخصف بيده
نعله، ويرقع بيده ثوبه
ويركب الحمار العاري،
ويردفُ خلفه..."6.
عاش الرسول الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم على
هذا المنوال ليقتدي به
الرؤساء والناس في سيرته
النظريّة والعمليّة،
فيبتعدوا عن التجمّلات
الماديّة والتعلّق بالرزق
والمفاخر الدنيويّة،
وبذلك يستطيع أن يصل
المجتمع إذا ما اقتدى
بهذا النور والقدوة
الحسنة إلى الكمال
الإنسانيّ والإلهيّ.
إنّ النفس الفاقدة لعطاء
الوجود متى تستطيع أن
تفيض الوجود لغيرها7.
يورد الإمام الخمينيّ قدس
سره في لقائه بجمع من
مسؤولي النظام في
الجمهوريّة الإسلاميّة
الإيرانيّة وصايا هامّة
فيقول:
"يعتقد بعض الناس أنّ
الرفاه المادّيّ وحيازة
الأموال والأراضي
والحدائق، وحسابات البنوك
قد تجلب السعادة للإنسان.
لكنّ هذا خطأ يرتكبه
الإنسان، فيتوهّم أنّ
السعادة هي بامتلاك
الحدائق والأراضي وجمع
الثروة والإتجار. عندما
ندرس حالة الفقراء
والمساكين الّذين يسكنون
بيوت متواضعة نجدهم قد
نالوا حظّاً من السعادة
يفوق الّذين يسكنون
القصور، بل قد لا نجدها
في القصور. لقد كان هناك
بيت متواضع في صدر
الإسلام يتكوّن من أربعة
أفراد، إنّه بيت فاطمة
الزهراء
عليها السلام، بيت
أبسط من هذه
البيوت، لكنّ
هذا البيت كان يحمل سرّاً
ملأت بركاته كلّ أرجاء
العالم بالنور. إنّ
الإنسان يحتاج إلى جهد
كبير ليقطع هذا الطريق
الطويل ويصل إلى بركات
ساكني هذا الكوخ
المتواضع، المتواضع
ماديّاً، لكن روحيّة هذا
البيت بلغت أقصى المدى
فلا تصل إليها حتّى
الملائكة. لقد كانت نوراً
شعّ على جميع بلاد
المسلمين ومثالاً
تربويّاً ملأت بركاته
جميع الأرجاء وخاصّة
بلادنا.
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم الّذي كان يرأس
كلّ شيء كان يعيش في بيت
لا يمكن أن نساويه بغرفة
واحدة متوسّطة الحال
مشابهة في مجتمعنا. كان
في هذا البيت حجرات
متعدّدة الوظائف
ومتواضعة. هذا الإنسان
المتعالي في مقامه كان
نوره يشعّ من هذه الحجرة
المتواضعة8 ليصل إلى عالَم
الملك والملكوت، ولتتّسع
آثار هذه الحجرة التربوية
إلى جميع أرجاء العالَم.
صحيح أنّه لحدّ الآن ما
أراده الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم من
التربية لم يتحقّق بعد
ولم تصل إليه البشريّة،
لأنّ النموذج الّذي رسمه
سيتحقّق بشكل كبير على يد
الخلف الصالح المهديّ
الموعود عجل الله تعالى
فرجه الشريف عندما يأتي،
ويحقّق بيديه المباركتين
ذلك"9.
"كان الوضع المعيشيّ
للرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم في غاية
البساطة، فلم يستفد أبداً
من مقامه ومنصبه لنفع
مادّي شخصيّ، فلم يترك
إرثاً ماديّاً خلفه، لم
يترك إلّا العلم الّذي هو
أشرف الأمور، خاصّة العلم
الإلهيّ الّذي هو من عند
الله تعالى"10.