الفصل السابع: المساواة الإسلاميّة في السيرة النبويّة صلى الله عليه وآله وسلم


إنّ الدِّين الإسلاميّ المبين قد رفض كلّ التصرّفات المؤدّية إلى الاستكبار والتفاخر والتمييز العنصريّ، واعتبر أنّ العمل الصالح والعلم والمعرفة والتقوى هي معايير الأفضليّة والقيمة الإنسانيّة.

فالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتح مكّة واستقرّت فيها الحياة المدنيّة الإسلاميّة. ومن أجل إرساء قيم تحقيق العدالة وإحياء المساواة الإسلاميّة بين الناس خاطبهم قائلاً:

"أيّها الناس!ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا عجميّ على عربيّ، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلّا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟

قالوا: نعم.

قال: ليبلّغ الشاهد الغائب"
1.

إنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبل بأيّ امتياز لأحد على أساس العرق أو الانتماء القوميّ أو القبليّ، بل كانت الألوان والأعراق واللّغات والناس وملل الدنيا واحدةً في نظره، واعتبر أنّ قيمة الإنسان تكمن في عمله وتقواه. يقول الإمام الخمينيّ فدس سره في ذلك:

"إنّ قيمة الإنسان كما جاء على لسان الأنبياء وأولياء الله عليهم السلام،


69


وعلى رأسهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن الكريم، منوطة بالعلم والتقوى، فالمعيار والقيمة للعلم والتقوى معاً، فلا يوجد قيمة حقيقيّة للعلم وحده، ولا يوجد قيمة حقيقية للتقوى وحدها"2.

"اذهبوا وطالعوا سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان المؤسّس الأوّل للكيان الإسلاميّ والجهاديّ الأوّل. هل كان طالب سلطة وحكم؟ انظروا إلى أصحابه وأتباعه ستجدون الأسود والأبيض، الجميع كان يجلس حول الجميع لا يوجد من يجلس في الأعلى أو في الأسفل أو هنا أو هناك"
3.

إنّ تعامل وسلوك النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وكافّة الناس كان على أساس المساواة في جميع شؤون الحياة، حتّى على مستوى المجالسة والحديث والنظر، فهو لم يكن لينظر إلى فرد ويستثني آخر، بل كان يحادث ويخاطب الجميع.

يقول الإمام الصادق عليه السلام:

"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقسِمُ لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة"4.

الإمام الخمينيّ فدس سره أشار إلى هذه الميزة الأخلاقيّة والسلوك النبويّ في أقوال متعدّدة، فقد تطرّق إلى ذلك أثناء خطابه بحضور جمع من الشباب الفرنسيّين قائلاً:


70


"إنّ الحاكم الإسلاميّ ليس كرؤساء الجمهوريّات والسلاطين الآخرين. إنّ الحاكم الإسلاميّ هو الّذي يقصد المسجد الصغير في محلّته ويستمع إلى حديث الناس ولا يميّز بين فقير وغنيّ فكلّهم سواسية. فالأغنياء كانوا كبقيّة الناس يجتمعون في المسجد، والشخص الغريب إذا دخل عليهم لا يعرف من هو الرئيس ومن هو المرؤوس منهم، من هو صاحب المقام ومن هو من عامّة الشعب. كان لباسهم مثل لباس الناس وسلوكهم مثل بقيّة الناس، وفي إجراء العدالة، إذا ادّعى أحد أفراد المجتمع على حاكم المسلمين، كان القاضي يُحضر حاكم المسلمين إلى جانب المدّعي"5.

"إنّ الأفراد الّذين حكموا البلاد الإسلاميّة من الحجاز إلى مصر وأفريقيا والعراق وإيران حتّى قسم من البلاد الأوروبيّة، لم تكن معاملتهم مع الرعيّة شأن الحاكم مع المحكوم، حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعامل مع الرعيّة كما يتعاملون مع بعضهم بعضاً، فلم يكن عنده بيت للإمارة، ولم يكن في المحافل العموميّة له مجلس خاصّ، ولم يكن في عرف الناس حينها من يجلس في الأعلى ومن يجلس في الأسفل"6.

إنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان الأسوة الحسنة والقدوة المثلى للناس في حياته. كان كسائر الأفراد يبتعد عن أيّ سلوك يؤدّي إلى نفور


71


الجمهور المخاطَب منه. فقد نُقل عن تصرّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أثناء سفر له مع أصحابه، توقّفوا في وسط الطريق ليتناولوا الطعام، وأرادوا ذبح إحدى المواشي من أجل طعام الغداء، قال رجل من القوم: عليّ ذبحها، وقال الآخر: عليّ سلخها، وقال الآخر: عليّ قطعها، وقال الآخر: عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليّ أن القط لكم الحطب، فقالوا: يا رسول الله لا تتعبنّ - بآبائنا وأمهاتنا أنت - نحن نكفيك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: عرفت أنّكم تكفوني ولكنّ الله عزّ وجلّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم، فقام صلى الله عليه وآله وسلم يلقط الحطب لهم7.

يقول الإمام الخمينيّ الراحل فدس سره في ذلك:

"النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي وقف في وجه قريش كان من قريش أيضاً، لكنّه كان يعدّ نفسه من طبقات الناس العاديّة رغم أنّه كان من الأشراف وصاحب عشيرة لم يكن يملك شيئاً. والّذين اجتمعوا حوله كانوا من الدرجة الثالثة وكانوا فقراء لا يملكون شيئاً، حتّى أنّ الرسول نفسه لم يكن يملك منزلاً، كان يملك غرفة مصنوعة من ألياف النخل، حتّى مسجده كان كذلك"8.

فالنظرة العميقة إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلهمنا دروساً تحمل في مضامينها العبر، فعلى الرغم من أنّه كان على رأس هرم الحكم الإسلاميّ لكنّه كان يساوي نفسه مع الآخرين أمام القانون، وعندما حانت أيّام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأخيرة من عمره المبارك، دخل المسجد


72


ورأسه معصوب بقطعة من قماش متّكئاً على الإمام عليّ عليه السلام والعبّاس، وقام خطيباً وقال:

"أيّها الناس! فإنّه قد حان منّي خفوق بين أظهركم، فمن كانت له عندي عدة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دينٌ فليخبرني به. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنّي لي عندك عدة إنّي تزوّجت فوعدتني أن تعطيني ثلاثة أواقٍ، فقال: انحلها يا فضل"
9.

وفي آخر جمعة لثلاثة أيّام خلت قبل وفاته حضر إلى المسجد وقال: "أيّها الناس، من كان عنده شيء فليؤدّه ولا يقول فضوح الدنيا، ألا وإنّ فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة"10.

فنهض سوادة بن قيس وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كنّا عائدين من حرب الطائف وكنت تمتطي الجمل، رفعت السوط لتضرب الجمل فأصاب بطني وأنا أريد القصاص، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن احضروا السوط، ورفع قميصه وطلب ردّ القصاص، عندها امتلأت عيون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دموعاً وامتلأت قلوبهم على سوادة بن قيس، عندها تقدّم سوادة وقبّل بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي تلك اللحظة دعا رسول الله له وقال: "اللهم اعف عن سوادة بن قيس، كما عفا عن نبيّك محمّد"11.

يعلّق الإمام الخمينيّ فدس سره على هذه الحادثة فيقول:


73


"إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آواخر عمره قال: إذا كان لكم أيّ حقٍّ عليّ فتقدّموا وخذوه، فانبرى أحد المسلمين قائلاً: يوجد لديّ حقّ عليك، في يوم من الأيّام وقع سوطك على كتفي، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعال واقتصّ منّي اضربني كما ضربتك.

فقال الرجل اكشف لي عن كتفك، فقد كان كتفي مكشوفاً فكشف له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن كتفه، فتقدّم العربي وقبّل كتف الرسول المباركة. أيّ ديمقراطيّة هذه، وأيّ سلطان عدل وأيّ رئيس دولة يعطي هذا الحقّ"12.


74


هوامش

1- تفسير القرطبي، ج 16، ص 342، تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 33.

2- صحيفة الإمام، ج 17، ص 185.

3- م.ن، ج 12، ص 509.

4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص671.

5- سمات المعصومين في فكر الإمام الخميني قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، ص 99 ـ 100، الطبعة الثالثة.

6- م. ن، ص 100.

7- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص252.

8- صحيفة الإمام، ج 8، ص 456 ـ 457.

9- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 335.

10- تاريخ الطبري، ج 3، ص 19.

11- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 235.

12- كوثر، خلاصة أقوال الإمام الخميني قدس سره، ج1، ص 157.