إنّ البيئة المعايشة
للمسلمين لم تلوَّث إلى
هذا الحد الذي تلوثت به
اليوم من سحب سوداء
متراكمة وقطع الليل
المظلم.
صحيح أننا نجد القرآن
ومنذ الخطوات الأولى التي
تلت تحوّل الخلافة
الإسلامية إلى السلطنة
الطاغوتية وقد تحوّل في
الواقع إلى زائدة كمالية،
وخرج بشكل رسمي وإن لم
يكن ذلك بشكل اسمي عن
المجال الحياتي للمسلمين،
إلاّ أن ما حدث في جاهلية
القرن العشرين من خلال
عمل الأجهزة السياسية
والإعلامية المعقدة، يعدُّ
أخطر من ذلك بمراتب،
وأكثر بعثاً على القلق
بلا ريب.
ولكي يُعزل الإسلام عن
الحياة، فإنّ أكبر وسيلة
وأكثرها أثراً هي إخراج
القرآن عن المجال الذهني
والقلبي والعملي للأُمة
الإسلامية. وهذا بالتأكيد
ما عمل له المتسلطون
الأجانب والعملاء
الداخليون لهم، سالكين
هذه السبيل عبر الاستعانة
بشتى الأنماط والوسائل.
إنّ القرآن وهو (حسب
تعبيره هو) الكتاب المقدس،
والنور، والهدى، والفرقان
بين الحق والباطل،
والحياة، والميزان
والشفاء، والذكر؛ لا تتم
له هذه الخصال بشكلٍ عملي
إلاّ إذا تمّ قبل كل شيء
استيعابه فهماً، وتطبيقه
عملاً.
لقد كان القرآن في عصر
الحكم الإسلامي في الصدر
الأول، هو القول الفصل
والكلمة الأخيرة، وحتى
كلام الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم فإنه يجب
أن يعرض عليه. وكان
حَمَلَة القرآن، يتمتعون
بمكانة مرموقة في المجتمع
بعد أن كان الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم قد
أعطى الأمة التعليم
القائل: "أشراف أُمتي،
أصحاب اللّيل وحَمَلَة
القرآن".
لقد كان استيعاب القرآن
علماً وعملاً، يشكل قيمة
واقعية. فللعثور
على حلٍّ لكل مشكلة
حياتية يجب الرجوع إلى
القرآن، ولقد كان القرآن
ملاك قبول أيّ حديث، أو
أسلوب، أو مدّعى، ومعياره.
كان عليهم أن يعرفوا الحق
والباطل من وجهة نظر
القرآن ليشخصوا نماذجهما
ومصاديقهما في ميدان
الحياة.
ومنذ فقدت القوى الحاكمة
على المجتمعات المسلمة
القيم الإسلامية واغتربت
عنها ورأت في القرآن وهو
الناطق بالحق وفرقان الحق
والباطل عقبة في سبيلها،
بدأ السعي الحثيث لإبعاد
كلام الله عن ميدان
الحياة، ووُجد عقيب ذلك
الفصل بين الدين والحياة
الاجتماعية، والتفريق بين
الدنيا والآخرة، والتقابل
بين المتدينين الواقعيين
وأهل الدنيا المقتدرين،
وأُبعد الإسلام عن مركز
إدارة مجالات الحياة
الاجتماعية للمجتمعات
المسلمة، ليقتصر على
المساجد والمعابد والبيوت
وزوايا القلوب، وهكذا
وُجد الفصل بين الدين
والحياة بكل ما عاد به من
خسارة وعلى المدى الطويل.
ومن الطبيعي أن القرآن
قبل أن يتمّ الهجوم
الواسع للمتسلّطين
الغربيين الصليبيّين
والصهاينة وإن لم يكن
موجوداً في المجال
الحياتي بالمعنى الحقيقي
إلاّ أنه كان يحتل مكانة
في أذهان المسلمين
وقلوبهم على تفاوت بينهم
في ذلك غير أن الهجوم
الصليبي الصهيوني في
القرن التاسع عشر لم
يستطع أن يتحمّل حتى هذا
القدر أيضاً. إنهم لا
يستطيعون أن يتحمّلوا
وجود القرآن الذي يصدر
بكل وضوح أمر:
﴿وأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الخَيْلِ﴾،
ويصدح بقول:
﴿وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلى
المُؤْمِنينَ سَبِيلاً﴾،
القرآن الذي يريد
للمؤمنين أن يكونوا إخوة
فيما بينهم، أشداء غضاباً
على
أعدائهم، مثل هذا القرآن
لا يمكن أن يتحمّله
المتسلطون الساعون
للسيطرة على أزمّة أُمور
المسلمين، ونهب كل شيء
لديهم.
إنّ هؤلاء المتسلطين
أدركوا بكل وضوح أن
القرآن رغم هذا الحضور
غير الكامل في حياة الأمة،
لن يسمح لتسلُّطهم
ونفوذهم أن يسلكا سبيلهما
المنشودين، لذا فقد وضعوا
خطة حذف القرآن بشكل كامل،
وطبيعي أن لا تمتلك ولن
تمتلك هذه الخطة تطبيقاً
عملياً، ذلك أن اللَّه
تعإلى قد وعد الأُمة
الإسلامية بحفظ القرآن
دائماً على أننا لا
نستطيع أن نغض النظر عن
نتائج ذلك السعي الواسع
الأبعاد الذي تمّ من
قبلهم بهذا الصدد.
ألقوا اليوم نظرة على
ميدان حياة المسلمين،
فأين تجدون القرآن؟ هل
تجدونه في أجهزة الحكومات؟
أو في النظم الاقتصادية؟
أو في تنظيم العلاقات
والمناسبات بين الناس
بعضهم مع البعض الآخر؟ في
المدارس والجامعات؟ في
السياسة الخارجية
والعلاقات بين الدول؟ في
تقسيم الثروات الوطنية
بين فئات الشعب؟ في
أخلاقية المسؤولين في
المجتمعات الإسلامية وكل
فئات الشعوب التي تتأثّر
بهم قليلاً أو كثيراً؟ في
السلوك الفردي للحكام
المسلمين؟ في العلاقات
بين الرجل والمرأة؟ في
الأرصدة المصرفية؟ في
أنماط المعاشرة؟ في أي
مكان من الحركة العامة
والاجتماعية للناس؟
ولنستثنِ من كل هذه
الميادين الحياتية
المساجد والمآذن وأحياناً
بعد البرامج التي لا تُعد
شيئاً من الإذاعات رياءً
وخداعاً لعامة الناس.
ولكن هل جاء القرآن لهذا
فقط؟ لقد كان السيد جمال
قبل مئة سنة يَبكي ويُبكي
لهذا الأمر، حيث عاد
القرآن يقتصر على الإهداء
والتزيين والتلاوة في
المقابر والوضع على
الرفوف.. ولكن ماذا حدث
في المئة سنة هذه؟ ترى
ألا يبعث وضع القرآن لدى
الأُمة الإسلامية على
القلق؟
إنّ الحديث كلّه يتركز
على أن القرآن، كتاب حياة
الإنسان؛ إنسان اللانهاية،
الإنسان المتكامل،
الإنسان ذي الأبعاد،
الإنسان الذي لا حدّ
لتكامله، إنّ هذا الهادي
والمعلم للإنسان قادر على
أن يرعاه في كل العصور،
وأن نظام الحياة اللائق
بالإنسان، إنما يتعلّمه
الإنسان من القرآن لا غير،
وأن الأساليب التي يجب أن
يتبعها ليرفع عن كاهله
أنواع الظلم، والتفرقة
والفساد، والجهل،
والطغيان، والانحراف،
والدناءة، والخيانة التي
ابتلي بها خلال تاريخه
الطويل فكانت عقبة في
سبيل رشده وتعاليه، كل
هذه الأساليب إنّما يمكن
أن تكون عملية في ظل
الهداية القرآنية والمخطط
الذي طرحه الكتاب السماوي
للحياة الإنسانية.
إنّ العودة إلى القرآن،
هي عودة إلى الحياة التي
تليق بالإنسان، وهي
المهمة الملقاة على عاتق
المؤمنين بالقرآن، وفي
طليعتهم العارفون به،
والعلماء والمبلغون
الدينيُّون.
وإنّ العودة إلى القرآن،
شعار لو يطرح بشكل حقيقي
وجدّي، لاستطاع أن يقدِّم
الفارق بين الحق والباطل.
كما يجب أن لا تتحمّل
الشعوب الإسلامية وجود
تلك القوى التي لا تريد
أن تقبل مسألة العودة إلى
القرآن.
إخواني المسلمين،
أخواتي المسلمات.
إننا بعد أن ابتلينا كذلك
بالبعد عن القرآن وأُصبنا
بآثار التآمر ضد القرآن
من قبل الأعداء العالميين،
قد ذقنا طعم العودة إلى
القرآن.
وإن انتصار الثورة
الإسلامية العظيمة في
إيران، وإقامة نظام
الجمهورية الإسلامية،
ليعدّان من الاثار
المباركة الكبرى لهذه
العودة.
إنّ هذا الشعب ليشاهد
اليوم في أُفق حياته، وفي
علاقاته الإجتماعية، وفي
شكل حكومته ومحتواها، وفي
مناقبية قادته، وفي
سياسته الخارجية، وفي
نظام التعليم والتربية
لديه، يشاهد في كل ذلك
لمعات من التعليم القرآني...
إنّ الذي هبَّ علينا لحد
الان إنما هو نسيم في جنة
القرآن.. إلاّ أن الطريق
أمام السعي والحركة، ما
زال مفتوحاً للوصول إلى
بحبوحة هذه الجنَّة
الواقعية1.
كتاب الله وقصته في
التاريخ(1)
قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "إني
تارك فيكم الثقلين، كتاب
الله وعترتي أهل بيتي،
فإنهما لن يفترقا حتى
يردا عليّ الحوض".
الحمد لله وسبحانك، اللهم
صل على محمد واله مظاهر
جمالك وجلالك وخزائن
أسرار كتابك الذي تجلى2
فيه الأحدية3
بجميع أسمائك4، حتى المستأثر منها الذي
لا يعلمه غيرك. واللعن
على ظالميهم أصل الشجرة
الخبيثة.. وبعد.
أرى مناسباً أن أقدم
تذكيراً نفحة قاصرة عن
معنى الثقلين5
لا من حيث المقامات
الغيبية والمراتب
المعنوية والعرفانية،
فبيان من هو مثلي أعجز من
أن يتجرأ على الحديث عن
مقامات عرفانية أحاطت
بكل دائرة الوجود من
المُلك6 إلى
الملكوت الأعلى7
ومنه إلى اللاهوت8؛
وإن ما لا يصل إلى فهمي
وفهمك هو ثقيل تحمله، فوق
الطاقة إن لم أقل يستحيل،
ولا من حيث ما أصاب
البشرية لهجرها حقائق
المقام العالي للثقل
الأكبر والثقل الكبير9
الذي هو الأكبر من كل ما
سواه عدا الثقل الأكبر
وهو الأكبر المطلق.
ولا من حيث ما أصاب
الثقلين على يد أعداء
الله والطغاة المكرة، مما
يصعب إحصاؤه على من هو
مثلي لمحدودية الاطلاع
والوقت، ولكني رأيت
مناسباً أن أذكّر بإشارة
عابرة مقتضية لما جرى على
الثقلين، ولعل في عبارة
"لن
يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض" إشارة إلى أن كل
ما ألمَّ بأي من الثقلين
بعد الوجود المقدس لرسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم قد أصاب الثقل الأخر
أيضاً وإن هجر أي منهما
هجر للأخر، حتى يرد هذان
المهجوران الحوض على رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم. وهل أن هذا الحوض
هو مقام اتصال الكثرة
بالوحدة10
واضمحلال القطرات في
البحر، أم هو شيء آخر لا
سبيل للعرفان والعقل
البشري إلى إدراكه.
وينبغي القول: إن ما أصاب
وديعتيّ الرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم،
من ظلم الطواغيت هو ظلم
للأمة الإسلامية، بل
للبشرية جمعاء، يعجز
القلم عن تبيانه، ويلزم
التذكير هنا بأن حديث
الثقلين11
متواتر12 بين
جميع المسلمين، وقد روته
كتب أهل السنة، الصحاح
الستة13
وغيرها، عن الرسول الأكرمصلى
الله عليه وآله وسلم،
بألفاظ متعددة وموارد
متكررة، فوصل حدّ التواتر.
فهذا الحديث حجة بالغة
على البشرية جمعاء ولا
سيما المسلمين بمختلف
مذاهبهم فهم مسؤولون
جميعاً عن ذلك بعد أن
تمّت الحجة
عليهم، وإن كان هناك من
عذر للعامة بسبب جهلهم
وعدم اطلاعهم، فلا عذر
لعلماء المذاهب.
ولنر الان ما جرى على
القرآن هذه الوديعة
الإلهية، وتركة رسول
الإسلام صلى الله عليه
وآله وسلم لقد شرعت نوائب
مفجعة حرية أن يُبكى منها
دماً بعد استشهاد الإمام
علي عليه السلام14، فقد
استغل عباد الأنا
والطواغيت القرآن الكريم،
واتخذوه وسيلة للحكومات
المعادية للقرآن، وأبعدوا
مفسري
القرآن الحقيقيين
والعارفين بالحقائق الحقة
ممن تعلموا القرآن كله من
الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم أبعدوهم
بذرائع شتى، وبالقرآن،
وبمؤامرات معدة من قبل،
في وقت لم يزل فيه نداء
"إني تارك فيكم
الثقلين" مدوّياً في
أسماعهم، وفي الحقيقة فقد
أخرجوا القرآن الذي كان
وما يزال الدستور الأعظم
لحياة البشر وشؤونهم
المادية والمعنوية حتى
يرِدوا الحوض من الميدان،
وأبطلوا حكومة العدل
الإلهي وهي أحد أهداف هذا
الكتاب المقدس، وأسسوا
أسس الانحراف عن دين الله
وكتابه والسنّة الإلهية،
فبلغ الأمر حداً يخجل
القلم عن تبيانه.
وكلما ارتفع هذا البنيان
المنحرف ازداد الانحراف،
فقد عطلوا القرآن الكريم
إلى حد بدا وكأنه لا دور
له في الهداية، وهو
الكتاب الذي تنزل من مقام
الأحدية السامي15،
بالكشف16
المحمدي التام، هدى
للعالمين، ومحوراً لجميع
المسلمين كافة؛ بل وعموم
الأسرة البشرية، والسمو
بها إلى ما يجب أن تسمو
إليه وإنقاذها وهي وليدة
علم الأسماء17
من شرور الشياطين والطغاة.
وهو الكتاب الذي تنزّل
لبسط العدل والقسط في
العالم، وتسليم الحكم إلى
أولياء الله المعصومين
عليهم صلوات الأولين
والآخرين ليفوّضوه بدورهم
لمن يُضمن به صلاح
الإنسانية.
وبلغ الانحراف درجة أن
الحكومات الجائرة
والخبثاء من فقهاء البلاط
-
وهم أسوأ من الطغاة -
اتخذوا القرآن وسيلة
للظلم وترويج الفساد
وتسويغ أعمال الظلمة
والمعاندين لإرادة الحق
تعالى، وواأسفاه أن
القرآن وهو كتاب الهداية
لم يعد له من دور سوى في
المقابر والمآتم، بسبب
الأعداء والمتآمرين
والجهلة من الأصدقاء. كان
الحال كذلك وما زال،
فأصبح الكتاب الذي ينبغي
أن يكون وسيلة لتوحيد
المسلمين والعالمين،
ودستوراً لحياتهم أصبح
وسيلة للتفرقة وإثارة
الخلاف، أو عُطّل دوره
كليّاً. وقد رأينا كيف
يُعتبر مرتكباً لكبرى
الكبائر من ينادي
بالحكومة الإسلامية
ويتحدث بالسياسة. في حين
أن سيرة الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم،
والقرآن والسنة ملأى
بالنصوص المعنية بدور
الإسلام الكبير في الشؤون
السياسية، وأصبح وصف عالم
الدين بالسياسي مرادفاً
لوصفه بعدم الدين وما زال
هذا الوصف موجوداً.
وأخيراً الحال إلى أن
تعمد القوى الشيطانية
الكبرى ابتغاء محو القرآن
وحفظ مطامعها الشيطانية
إلى طبع القرآن بخط جميل،
وتوزيعه على نطاق واسع،
وتنفذ ذلك بأيدي الحكومات
المنحرفة التي تتظاهر
بالإسلام زيفاً، وهي
بعيدة عن تعاليمه، وبهذا
المكر الشيطاني تعطّل
القرآن.
وقد رأينا كيف أن محمد
رضا بهلوي18
طبع القرآن فاستغفل به
البعض، وكيف امتدحته فئة
من رجال الدين جاهلة
بالأهداف الإسلامية.
نحن نفخر، ويفخر شعبنا
المتمسك بالإسلام والقرآن
بأننا أتباع مذهب يهدف
إلى إنقاذ حقائق القرآن
الممتلئة دعوة إلى الوحدة
بين المسلمين، بل البشرية
من المقابر باعتبارها
أنجع علاج منقذ للإنسان
من القيود المكبلة لرجليه
ويديه وقلبه وعقله،
والسائقة له إلى الفناء
والعدم والرق والعبودية
للطواغيت.
عظمة القرآن(2)
إعلم أيها العزيز أن عظمة
كل كلام وكل كتاب إما
بعظمة متكلمة وكاتبه،
وإما بعظمة مطالبه
ومقاصده، وإما بعظمة
نتائجه وثمراته، وإما
بعظمة الرسول والواسطة،
وإما بعظمة المرسل إليه
وحامله، وإما بعظمة حافظه
وحارسه، وإما بعظمة شارحه
ومبيّنه، وإما بعظمة وقت
إرساله وكيفية إرساله.
وبعض هذه الأمور دخيل في
العظمة ذاتاً وجوهراً19
وبعضها عرضاً وبالواسطة،
وبعضها كاشف عن العظمة.
وجميع هذه الأمور التي
ذكرناها موجودة في هذه
الصحيفة النورانية بالوجه
الأعلى والأوفى؛ بل هي من
مختصّاته بحيث أن أي كتاب
آخر إما ألاَّ يشترك معه
في شيء منها أصلاً، أو
لا يشترك معه في جميع
المراتب.
أما عظمة متكلمه ومنشئه
وصاحبه؛ فهو العظيم
المطلق20 الذي
جميع أنواع العظمة
المتصورة في الملك
والملكوت21،
وجميع أنواع القدرة
النازلة في الغيب22
والشهادة23
رشحة من تجليات24
عظمة فعل تلك الذات
المقدسة، ولا يمكن أن
يتجلّى الحق تعالى
بالعظمة لأحدٍ وإنما
يتجلى بها من وراء آلاف
الحجب25
والسرادقات، كما في
الحديث "إن لله تبارك
وتعالى سبعين ألف حجاب من
نور وظلمة، لو كشفت
لأحرقت سبحات وجهه دونه"26.
وعند أهل المعرفة قد صدر
هذا الكتاب الشريف من
الحق تعإلى بمبدئيّة جميع
الشؤون الذاتية والصفاتية
والفعلية، وبجميع
التجليات الجمالية27
والجلالية، وليست لسائر
الكتب السماوية هذه
المرتبة والمنزلة. وأما
عظمته بواسطة محتوياته
ومقاصده ومطالبه فيستدعي
ذلك عقد فصل على حدة، بل
فصول وأبواب، ورسالة
مستقلة، وكتاب مستقل حتى
يسلك نبذة منها في سلك
البيان والتحرير، ونحن
نشير بطريق الإجمال بفصل
مستقل إلى كلياته، وفي
ذلك الفصل نشير إلى عظمته
من حيث النتائج والثمرات
إن شاء الله.
وأما عظمة رسول الوحي
وواسطة الإيصال فهو
جبرائيل الأمين والروح
الأعظم الذي يتصل الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم بعد خروجه عن
الجلباب البشري، وتوجيه
شطر قلبه إلى حضرة
الجبروت28
بذاك الروح
الأعظم، وهو أحد أركان
دار التحقق الأربعة بل هو
أعظم أركانها وأشرف
أنواعها، لأن تلك الذات
النورانية ملك موكل للعلم
والحكمة وصاحب الأرزاق
المعنوية والأطعمة
الروحانية. ويستفاد من
كتاب الله والأحاديث
الشريفة تعظيم جبرائيل
وتقدمه على سائر الملائكة.
وأما عظمة المرسل إليه
ومتحمّله، فهو القلب
التقي النقي الأحمدي
الأحدي29
الجمعي30
المحمدي الذي تجلى له
الحق تعالى بجميع الشؤون
الذاتية31
والصفاتية32
والأسمائية والافعالية،
وهو صاحب النبوة الختمية،
والولاية المطلقة، وهو
أكرم البرية، وأعظم
الخليقة وخلاصة الكون،
وجوهرة الوجود، وعصارة
دار التحقق، واللبنة
الأخيرة، وصاحب البرزخية
الكبرى، والخلافة العظمى.
وأما حافظه وحارسه فهو
ذات الحق جلّ جلاله، كما
قال في الآية الكريمة
المباركة
﴿إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ﴾33
وأما شارحه ومبيّنه
فالذوات المطهرة
المعصومون من رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
إلى حجة العصر عجل الله
فرجه34 والذين
هم مفاتيح الوجود، ومخازن
الكبرياء،
ومعادن الحكمة والوحي،
وأصول المعارف والعوارف،
وأصحاب مقام الجمع35
والتفصيل.
وأمّا وقت الوحي فليلة
القدر36 أعظم
الليالي و﴿خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾37
وأنور الأزمنة، وهي في
الحقيقة وقت وصول الوليّ
المطلق والرسول الخاتم
صلى الله عليه وآله وسلم.
القرآن جوامع الكلم(3)
وحيث أن الذات المقدسة
للحق جل وعلا على حسب كل
﴿كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾38...
يتجلى لقلوب الأنبياء
والأولياء في كسوة
الأسماء والصفات، وتختلف
التجليات على حسب اختلاف
قلوبهم، والكتب السماوية
التي نزلت على قلوبهم
بنعت الإيحاء بتوسط ملك
اللوح جبرائيل تختلف على
حسب اختلاف هذه التجليات
وعلى حسب اختلاف الأسماء
التي لها المبدئية، كما
أن اختلاف الأنبياء
وشرائعهم أيضاً باختلاف
الدول الأسمائية، فكل اسم
تكون إحاطته أكثر ويكون
أجمع؛ تكون دولته أكثر
إحاطة، والنبوة التابعة
له أكثر إحاطة والكتاب
النازل منه أكثر إحاطة
وجامعية، وتكون الشريعة
التابعة له أكثر إحاطة
وأدوم. وحيث أن النبوّة
الختمية والقرآن الشريف
وشريعة سيد البشر من
مظاهر المقام الجامع
الأحدي وحضرة اسم الله
الأعظم ومجاليها، أو من
تجلياتها وظهوراتها؛
فلهذا صارت أكثر النبوات
والكتب والشرائع إحاطة
وأجمعها. ولا يتصور أكمل
وأشرف من نبوّته وكتابه
وشريعته. ولا يتنزل من
عالم الغيب39 على بسيط
الطبيعة علم أعلى منه، أو
شبيه له، بمعنى أن هذا هو
آخر ظهور
للكمال العلمي المربوط
بالشرائع، وليس للأعلى
منه إمكان النزول في عالم
المُلك40،
فنفس الرسول الخاتم أشرف
الموجودات، والمظهر التام
للاسم
الأعظم، ونبوّته أيضاً
أتمّ النبوّات الممكنة،
وصورة لدولة الاسم الأعظم،
ولهذه الجهة لهذا الكتاب
أحدية الجمع والتفصيل.
وهو من جوامع الكلم، كما
أن كلامه صلى الله عليه
وآله وسلم أيضاً كان من
جوامع الكلم، والمراد من
كون القرآن أو كلامه من
جوامع الكلم ليس أن
القرآن، أو أنه صلى الله
عليه وآله وسلم بيّنا
الكليات والضوابط الجامعة،
وإن كانت أحاديثه صلى
الله عليه وآله وسلم أيضاً
من الجوامع والضوابط بذلك
المعنى، كما أن ذلك معلوم
في علم الفقه، بل جامعيته
عبارة عن أن القرآن نزل
لجميع طبقات الإنسان في
جميع أدوار العمر البشري،
وهو رافع لجميع حوائج هذا
النوع. وحقيقة هذا النوع
حيث أنها حقيقة جامعة
وواحدة لتمام المنازل، من
المنزل الأسفل الملكي إلى
أعلى مراتب الروحانية
والملكوت41
والجبروت42،
ولهذه الجهة يختلف أفراد
هذا النوع في هذا العالم
الأسفل الملكي اختلافاً
تاماً، والاختلاف
والتفاوت الموجودان في
أفراد هذا النوع لا
يوجدان في أفراد سائر
الموجودات، ففي هذا النوع
الشقيّ الذي هو في كمال
الشقاوة، والسعيد الذي هو
في كمال السعادة وهو نوع
بعض أفراده أسفل من جميع
الحيوانات، وبعض أفراده
أشرف من جميع الملائكة
المقربين.
وبالجملة، حيث أن أفراد
هذا النوع مختلفة متفاوتة
في المدارك والمعارف،
فالقرآن نزل على نحو
يستفيد كلٌ منه على حسب
كمال إدراكه ومعارفه
وضعفها، وعلى حسب ما له
من الدرجة العلمية.
شروط فهم القرآن(4)
لو لم تكن التزكية لما
أمكن تعليم كتاب الحكمة.
يجب تزكية النفوس
وتطهيرها من جميع الأدران،
وأعظم الأدران هي النفس
الإنسانية والأهواء
النفسية. فما دام الإنسان
في حجاب نفسه؛ فإنه لا
يستطيع أن يدرك القرآن
الذي هو نور، كما يعبر
القرآن عن نفسه. فالذين
يقفون خلف حجب عديدة لا
يمكنهم أن يدركوا النور،
ويظنون أنهم يستطيعون
دركه، لكنهم لا يقدرون
على ذلك. ما دام الإنسان
لم يخرج من حجاب نفسه
المظلم جداً، وطالما أنه
مبتلى بالأهواء النفسية،
وطالما أنه مبتلى بالعجب،
طالما أنه مبتلى بالأمور
التي أوجدها في باطن نفسه،
وتلك الظلمات التي
﴿بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ﴾43،
فإنّه لا يكون مؤهلاً
لانعكاس هذا النور الإلهي
في قلبه.
الذين يريدون فهم القرآن
ومحتواه، لا صورته
النازلة المحدودة، بل
يفهموا محتواه ويزدادون
سمواً ورقياً كلما قرأوه،
ويقتربون من مصدر النور
والمبدأ الأعلى كلما
قرأوه44 فإن هذا لا يتحقق
إلاَّ أن تزول
الحجب و"إنك بنفسك
حجاب لنفسك"45
لذا يجب رفع هذه الحجب
حتى تتمكن من رؤية هذا
النور كما هو وكما يليق
بالإنسان أن يدركه، فأحد
الأهداف هو تعليم الكتاب
بعد التزكية، وتعليم
الحكمة بعد التزكية.
مائدة القرآن الواسعة(5)
القرآن هو آيات إلهية،
والغرض من البعثة هو
المجيء بهذا الكتاب
العظيم، وتلاوة هذا
الكتاب العظيم والآية
الإلهية العظيمة. ورغم أن
جميع العالم هو آيات الحق
تعالى، لكن القرآن الكريم
هو عصارة الخليقة، وعصارة
الأشياء التي يجب أن تتم
في البعثة. فالقرآن
الكريم عبارة عن مائدة
أعدّها الباري تبارك
وتعالى للبشر بواسطة نبيه
الأكرم، ليستفيد منها كل
إنسان بمقدار استعداده.
هذا الكتاب وهذه المائدة
الممتدة في الشرق والغرب،
ومنذ زمان الوحي وحتى
تلاوة يوم القيامة، هو
كتاب يستفيد منه كل الناس
الجاهل والعالم والفيلسوف
والعارف والفقيه والكل
يستفيدون منه، أي أنه في
الوقت الذي هو كتاب نازل
من مرتبة الغيب46
إلى مرتبة الشهود، ومنبسط
عندنا نحن الموجودون في
عالم الطبيعة، في نفس
الوقت الذي هو فيه مُنزَل
من ذلك المقام، ووصل إلى
الموضع الذي يمكننا
الاستفادة منه. وإنه في
الوقت الذي يحتوي على
مسائل يستفيد منها جميع
الناس الجاهل والعارف
والعالم وغير العالم،
فإنه
يحتوي على مسائل تختص
بالعلماء الكبار،
والفلاسفة العظام،
والعرفاء الكبار،
والأنبياء والأولياء. إذ
أن بعض مسائله لا يتمكن
من دركها سوى أولياء الله
تبارك وتعالى، إلا من
خلال التفسير الوارد عنهم،
ويستفيد منه الناس بمقدار
استعداداتهم. وثمة مسائل
يستفيد منها الفلاسفة
والحكماء الإسلاميين
ومسائل يستفيد منها
الفقهاء الكبار. وهذه
المائدة عامة للجميع.
وكما أن هذه الطوائف
تستفيد منه؛ فإن فيه أيضاً
المسائل السياسية
والاجتماعية والثقافية
والعسكرية وغير العسكرية.
إذ أن جميعها موجودة في
هذا الكتاب المقدس.
إن الغرض من نزول هذا
الكتاب المقدس، ومن بعثة
النبي الأكرم هو لكي يصبح
هذا الكتاب في متناول
أيدي الجميع، حتى
يستفيدوا منه بمقدار
سعتهم الوجودية والفكرية.
ومع الأسف فلم نتمكن نحن،
ولا البشرية، ولا علماء
الإسلام الاستفادة من هذا
الكتاب المقدس بالمقدار
الذي ينبغي الاستفادة منه.
يجب على الجميع استخدام
أفكارهم، وتسخير عقولهم
نحو هذا الكتاب العظيم
حتى نتمكن من الاستفادة
منه بمقدار استعدادنا
وكما هو عليه.
فالقرآن جاء لتستفيد منه
جميع الطبقات كل بمقدار
استعداداه. وطبعاً فإن
بعض الآيات لا يمكن أن
يفهمها إلا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم
والمتعلم بتعليمه ويجب
علينا فهمها بواسطتهم وإن
الكثير من الآيات الزخرى
هي في متناول أيدي الجميع،
حيث يجب عليهم استخدام
أفكارهم وعقولهم
ليستفيدوا منها مسائل
للحياة، سواء في هذه
الدنيا أو الحياة الأخرى.
لذا فإن أحد أهداف البعثة
هو إنزال هذا القرآن الذي
كان في الغيب47
بصورة غيبية وفي علم الله
تبارك وتعالى، وفي غيب
الغيوب، بواسطة هذا
الموجود العظيم الذي جاهد
نفسه كثيراً وكان على
الفطرة الحقيقية وفطرة
التوحيد وجميع المسائل
الأخرى التي جعلته مرتبطاً
بالغيب48
وبواسطة الارتباط الذي
كان له بالغيب فقد نزّل
هذا الكتاب المقدس من
مرتبة الغيب، بل وقعت
للأصل عدّة تنزّلات، حتى
وصل لمرتبة الشهادة49،
وخرج بصورة ألفاظ.
ويمكنني أنا وأنتم والكل
فهم هذه الألفاظ
والاستفادة من معانيها
بمقدار استعدادنا،
واستهدفت البعثة بسط هذه
المائدة بين الناس منذ
زمان نزوله وحتى النهاية.
فهذه واحدة من أهداف
الكتاب وأهداف البعثة. "بعثه
عليكم" رسولاً يتلو
القرآن عليكم والآيات
الإلهية و﴿وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾50.
فقد تكون هذه هي الغاية
من التلاوة، فالتلاوة
تكون لأجل التزكية
والتعليم، وتعليم الجميع..
تعليمهم هذا الكتاب،
وتعليمهم الحكمة التي هي
من هذا الكتاب أيضاً. إذن
فهدف البعثة هو نزول
الوحي ونزول القرآن، وهدف
تلاوة القرآن على البشر
هو ليزكّوا أنفسهم
وينقذوا نفوسهم من هذه
الظلمات، حتى تتمكن
أرواحهم وأذهانهم بعد ذلك
أن تفهم الكتاب والحكمة.
فالهدف هو التزكية لأجل
فهم الكتاب والحكمة. فلا
يستطيع أي إنسان وأية نفس
أن تدرك هذا النور
المتجلي من الغيب المتنزل
إلى مرتبة الشهادة.
تفسير القرآن(6)
إن تفسير القرآن ليس من
المهام التي يستطيع
أمثالنا أداء حقها، بل إن
علماء الطراز الأول من
العامة والخاصة ألّفوا
على طوال التاريخ
الإسلامي كتباً كثيرة في
هذا الباب، ومساعيهم
مشكورة بلا شك، ولكن كل
واحد منهم لم يقم بأكثر
من تفسير أحد وجوه القرآن
الكريم وفقاً لتخصصه
والوقت الذي كان لديه،
وحتى هذا فليس من المعلوم
أنه كان بشكل كامل.
فمثلاً عمد العرفاء على
مدى عدّة قرون إلى كتابة
تفاسير عديدة وفق طريقتهم،
وهي طريقة المعارف أمثال
محي الدين51
في بعض كتبه وعبد الرزاق
الكاشاني52 في
تأويلاته، والملا سلطان
علي53 في
تفسيره،
وبعضهم أجاد التأليف في
الفن الذي كان لديه، ولكن
القرآن لا ينحصر فيما
ألفوا، فما قاموا به هو
قراءة بعض وجوه القرآن
الكريم وقراءة بعض أوراقه.
كما قام الطنطاوي54
وأمثاله، وكذلك قطب55
بتفسير القرآن
بطريقة أخرى هي أيضاً
ليست تفسيراً للقران
بكافة معانيه، فهم أيضاً
كشفوا حجاباً واحداً آخراً
عنه.
وللكثير من المفسرين من
غير هاتين الطائفتين
تفاسير أخرى كتفسير "مجمع
البيان"56 وهو
تفسير جيد جامع بين أقوال
العامة والخاصة، وحال هذه
التفاسير كحال سابقاتها،
فالقرآن ليس ذلك الكتاب
الذي نستطيع نحن أو غيرنا
تأليف تفسير جامع له يحوي
كافة علومه كما هي، ففيه
علوم هي فوق ما نفهم نحن.
إننا نفهم ظاهراً منه،
ووجهاً منه، والباقي
يحتاج إلى تفسير أهل
العصمة، وهم المعلَّمون
بتعليمات رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم.
وقد ظهر في الآونة
الأخيرة أشخاص ليسوا من
أهل التفسير أصلاً أرادوا
تحميل ما لديهم من أفكار
على القرآن والسنة، حتى
إن فئة من اليساريين
والشيوعيين عمدت إلى
التمسك بالقرآن أيضاً
لنفس أهدافهم التي لهم،
وهؤلاء لا علاقة لهم أصلاً
بالتفسير ولا بالقرآن،
فما يريدونه هو خداع
شبابنا بما يقدمونه لهم
على أنه هو الإسلام.
لا ينبغي للذين لم يصلوا
بعد إلى المستويات
العالية من النضوج العلمي
أن يدخلوا مضمار التفسير،
فلا ينبغي للشباب غير
المطلع على هذه المسائل،
وعلى المعارف الإسلامية،
والذين لا اطلاع لهم على
الإسلام اقتحام ميدان
تفسير القرآن، وإذا حدث
أن تطفّل أمثال هؤلاء
لغايات وأهداف معينة، فلا
ينبغي لشبابنا أن يولوا
أهمية، أو يقيموا وزناً
لمثل هذه التفاسير. فمن
الأمور الممنوعة في
الإسلام "التفسير بالرأي"
كأن يعمد أيّاً كان إلى
فرض أرائه على القرآن،
فيطبق المادي أفكاره على
بعض الآيات القرآنية،
ويفسر القرآن ويؤوله وفق
رأيه. أو أن يعتمد أحد
أصحاب الآراء المعنوية
والروحية إلى تأويل كل ما
في القرآن الكريم، ويفسره
بما يعتقده هو. لذا يجب
علينا أن نحترز من كليهما
من جميع هذه الجهات.
صعوبة فهم باطن
القرآن(7)
إنَّ هذه الآيات التي
قيل عنها في رواياتنا
أنها جاءت للمتعمّقين في
آخر الزمان مثل: سورة
التوحيد وست آيات من آية
سورة الحديد، لا أعتقد أن
أحداً من الناس اكتشف
حقيقتها كما هي إلى الآن،
ولا في المستقبل سيكتشف.
وطبعاً فقد قيل الكثير في
هذا المجال وكُتبت
تحقيقات كثيرة وثمينة،
إلا أن أفق القرآن هو فوق
هذه المسائل. ويتصوّر
الإنسان أن كلمة
﴿الأوَّلُ﴾
في الآية الشريفة
﴿هُوَ
الأوَّلُ وَالآَخِرُ
وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ﴾57
تعني أن أول خلق الله،
و﴿الآَخِرُ﴾
هو كذلك
و﴿الظَّاهِرُ﴾
بحسب أثاره
أيضاً و﴿الْبَاطِنُ﴾
أيضاً
بحسب أسمائه. إلاّ أن
الموضوع هو غير هذا الذي
فهمناه نحن وفهموه،
والموضوع أعمق من هذا
فـ﴿هُوَ
الظَّاهِرُ﴾
تريد نفي
أصل الظهور عن غيره، وأنه
خاص به. وحقيقة الأمر هي
هكذا، لكن فهم هذا المعنى
أن الظهور هو ظهوره وأنّ
العالم وجميع الوجود هو
ظهوره، صعب للغاية.
و﴿وَهُوَ
مَعَكُمْ﴾
الواردة في
نفس هذه الآيات، فإنّ
﴿مَعَكُمْ﴾
تعني معنا، أي إنه هنا،
ونحن هنا. إن المعيّة
يسميها الفلاسفة بـ"معيّة
القيّومية" فهل يتضح
الموضوع؟ هل إنها مثل
معية العلّة والمعلول؟
مثل معيّة التجلي وصاحب
التجلّي؟ ليس الموضوع
هكذا، وإن المتعمقين في
آخر الزمان فهموا بمستوى
عمق إدراكهم أفضل من
الآخرين، وإلاّ فإنّ حد
القرآن هو "إنّما يعرف
القرآن من خوطب به" فهذه
الجملة "يعرف القرآن من
خوطب به" مرتبطة بمثل هذه
الآيات، وإلاّ فإنّ بعض
الآيات المرتبطة بالأحكام
الظاهرية وبالنصائح
يفهمها الجميع، وإن
المقصود بـ"لا يعرفه إلاّ
من خوطب به" هو الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم أي أن الوسيط
وهو جبرئيل لا يمكنه
الفهم أيضاً. لقد كان
جبرائيل الأمين وسيطاً
ليس إلاَّ، يقرأ على
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم تلك الآيات
الواردة من الغيب، فهو
مكلف بإيصالها، لكنه ليس
هو "من خوطب به"58
أيضاً. إن "من خوطب به"
هو الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم فقط،
وإن الآخرين فهموا أيضاً
بواسطة ذلك النور المشع
من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، والتعليم
النوراني الخارج من قلبه
إلى قلوب الخواص. وأما
أمثالنا نحن البشر
العاديين فإننا عاجزون
حقاً عن فهم حقيقة معنى
﴿وَهُوَ
مَعَكُمْ﴾
فما هي هذه المعية؟
وما هو معنى نور السماوات
والأرض
﴿اللهُ
نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ﴾؟ ماذا
يعني
﴿نُورُ
السَّمَوَاتِ﴾؟ وكيف يكون
﴿نُورُ
السَّمَوَاتِ﴾؟ ولذا قالوا
"منور
السماوات" وهذا لا يرتبط
بالآية أبداً.
فالتحول المعنوي، والتحول
العرفاني الحاصل بواسطة
القرآن هو فوق جميع
المسائل. وإن الناس ينظر
كل واحد منهم من بعدٍ
واحدٍ إلى القرآن؛ فالبعض
ينظرون إلى بُعده الظاهري،
أو إلى بعده الاجتماعي،
أو إلى بعده السياسي، أو
إلى بعده الفلسفي، أو إلى
بعده العرفاني، بَيْدَ أن
البعد الحقيقي بين العاشق
والمعشوق، والسر الموجود
بين الخالق والرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم لا يمكننا أن
نفهمه نحن. وقد نُقِلَ عن
الإمام الباقر عليه
السلام59 قوله بأنه قادر
على نشر جميع الأحكام
والشرائع والحقائق من
كلمة "صمد" فهنا سر موجود.
طبعاً نحن أيضاً يمكننا
فهم أصول المعارف من كلمة
"صمد" لكن الإمام الباقر
عليه السلام يقول أكثر من
ذلك.
أسفي لأولئك الناس الذين
لا يريدون أن يعلموا، ولم
يسلكوا طريق العلم، ولم
يخطو خطوة في طريق التعرف
على كتاب الله، ولم
يحققوا ذلك الارتباط مع
مصدر الوحي حيث إن
التفسير يأتي من هذا
المصدر.
وكان هذا الارتباط قائماً
بين الخالق ورسوله فقط،
وبواسطته أيضاً بين
الخواص الذين كانوا
موجودين.
الاستفادات ذات البعد
الواحد من القرآن(8)
بعد مضي مدة من نزول
الإسلام، اهتمت مجموعات
مختلفة من أهل العلم
بمعنويات الإسلام،
وركّزوا أنظارهم على تلك
الآيات والروايات
المرتبطة بالمعنويات
وتهذيب النفس وما وراء
الطبيعة... في القرآن
الكريم آيات كثيرة عن
الأمور المعنوية، أي ذلك
الوجه الإنساني الذي هو
من عالم الغيب60.
استمر الوضع لفترة طويلة
على هذه الشاكلة حيث كان
الاهتمام معدوماً أو
ضعيفاً بتلك الأحكام
الاجتماعية والسياسية
وغيرها الواردة في
الإسلام. ثم ظهرت تدريجياً
مجموعات اهتمت بالمسائل
الاجتماعية والسياسية
وقضايا الساعة، وهؤلاء
وقعوا من هذا الطرف أي
اقتصرت اهتماماتهم على
هذه المسائل الاجتماعية
والأحكام السياسية وقضايا
الحكم فقط. أولئك كانوا
ينظرون إلى ذلك الجانب من
الورق لفترات سابقة
كالفلاسفة والعرفاء
والمتصوفة وأمثالهم، وكان
كلامهم يدور حول بيان هذه
المعنويات، ويدعون الناس
إلى هذه الجهات المعنوية
الإسلامية. حتى إن بعضهم
حاول إرجاع الآيات أو
الروايات الواردة بشأن
الأمور الطبيعية
والمتحدثة عن قضايا
الاجتماع
والسياسة، إلى تلك الأمور
المعنوية، ويعتبرون أن
الجميع مرتبط بذلك الجانب.
فهم كانوا ينظرون إلى
الجانب الباطني للقران
والإسلام... ينظرون إلى
المعنويات فقط، ويغضّون
أبصارهم عن المواضيع
الاجتماعية الواردة في
القرآن، وعن الآيات
والروايات الواردة بشأن
الحكم الإسلامي، والسياسة
الإسلامية، والقضايا
الاجتماعية، وإعمار هذا
العالم، وهذه هي الغفلة...
الغفلة عن الإسلام، لأنهم
كانوا ينظرون إلى الإسلام
من زاوية واحدة فقط. أما
الجانب الآخر وعالم
طبيعته فإنهم لم يهتموا
به، ولم يعلموا أن
الإسلام يهتم بعالم
الطبيعة أيضاً، ويهتم
بجميع تلك الأمور التي
يحتاجها الإنسان. لذا فإن
إحدى الابتلاءات التي
ابتلي بها الإسلام هي أن
هؤلاء الأشخاص أمثال
المتكلمين، والأكثر منهم
الفلاسفة، والأكثر منهم
العرفاء والصوفية، أرادوا
تفسير جميع الآيات
الواردة في القرآن الكريم
تفسيراً معنوياً...
اهتموا بالباطن وغفلوا عن
الظاهر. والآن فإن ابتلاء
الإسلام أخذ منحنًى آخر
وهو أن شبابنا ومثقفونا
وعلماؤنا الذين تعلموا
العلوم المادية، يحاولون
تفسير جميع آيات القرآن
والروايات تفسيراً طبيعياً،
وغفلوا عن المعنويات، حتى
إنهم فسروا تلك الآيات
الخاصة بالأمور المعنوية
تفسيراً طبيعياً عادياً.
وهؤلاء مهتمون بالإسلام
أيضاً، لكنهم غافلون أيضاً،
لأنهم ينظرون للإسلام من
جانب واحد. وهاتان
الطائفتان لم تفهمان
الإسلام بمعناه الحقيقي.
فالإسلام لا يدعو إلى
المعنويات فقط، ولا يدعو
إلى الماديات فقط.
إنه يدعو إلى كليهما. فقد
جاء الإسلام والقرآن
الكريم من أجل بناء
الإنسان وتربيته في جميع
أبعاده.
في بيان مقاصد الكتاب
الشريف الإلهي ومطالبه
ومشتملاته بطريق الإجمال
والإشارة(9)
إعلم أن هذا الكتاب
الشريف كما صرّح هو به
كتاب الهداية، وهادي سلوك
الإنسانية ومربّي النفوس
وشافي الأمراض القلبية،
ومنير طريق السير إلى
الله.
وبالجملة، فإن الله تبارك
وتعالى لسعة رحمته على
عباده أنزل هذا الكتاب
الشريف من مقام قربه
وقدسه، وتنزل به على حسب
تناسب العوالم حتى وصل
إلى هذا العالم الظلماني،
وسجن الطبيعة، وصار على
كسوة الألفاظ وصورة
الحروف لاستخلاص
المسجونين في سجن الدنيا
المظلم، وخلاص المغلولين
بأغلال الآمال والأماني،
وإيصالهم من حضيض النقص
والضعف والحيوانية إلى
أوج الكمال والقوة
والإنسانية، ومن مجاورة
الشيطان إلى مرافقة
الملكوتيين، بل الوصول
إلى مقام القرب وحصول
مرتبة لقاء الله التي هي
أعظم مقاصد أهل الله
ومطالبهم، فمن هذه الجهة
هذا الكتاب هو كتاب
الدعوة إلى الحق والسعادة،
وبيان كيفية الوصول إلى
هذا المقام،
ومحتوياته إجمالاً هي ما
له دخل في هذا السير
والسلوك الإلهي، أو يعين
السالك والمسافر إلى الله،
وعلى نحو كلّي أحد مقاصده
المهمّة: الدعوة إلى
معرفة الله، وبيان
المعارف الإلهية من
الشؤون الذاتية
والأسمائية والصفاتية
والافعالية. والأكثر في
هذا المقصود هو توحيد
الذات61 والأسماء62
والأفعال63، التي ذكر
بعضها بالصراحة، وبعضها
بالإشارة المستقصية.
وليعلم أن المعارف من
معرفة الذات قد ذكرت في
هذا الكتاب الجامع64 الإلهي على نحو تدركه كل
طبقة على قدر استعدادها،
كما أن علماء الظاهر
والمحدثين والفقهاء رضوان
الله عليهم يبيّنون
ويفسّرون آيات التوحيد
الشريفة، وخصوصاً توحيد
الأفعال على نحو يخالف
ويباين ما يفسّرها أهل
المعرفة وعلماء الباطن.
والكاتب يرى كلا
التفسيرين صحيحاً في محله،
لأن القرآن هو شفاء
الأمراض الباطنية، ويعالج
كل مريض على نحو خاص، كما
أن كريمة
﴿هُوَ
الأوَّلُ وَالآَخِرُ
وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ﴾65. وكريمة
﴿اللهُ
نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ﴾66 وكريمة
﴿هُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ
إِلَهٌ﴾67 وكريمة
﴿وَهُوَ
مَعَكُمْ﴾68 وكريمة
﴿أَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ﴾69
إلى غير ذلك في توحيد
الذات والآيات الكريمة في
آخر سورة الحشر وغيرها في
توحيد الصفات. وكريمة
﴿وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾70 وكريمة
﴿الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾71 وكريمة
﴿يُسَبِّحُ
للهِ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأرْضِ﴾72 في توحيد
الأفعال التي تدل بعضها
بوجه دقيق وبعضها بوجه
أدقّ عرفاني، هي شفاء
للأمراض عند كل طبقة من
طبقات علماء الظاهر
والباطن على نحو معين.
ففي نفس الوقت الذي تكون
الآيات الشريفة مثل آيات
أول الحديد والسورة
المباركة التوحيد قد نزلت
للمتعمقين في آخر الزمان
حسب الحديث الشريف في
الكافي73 فإن لأهل الظاهر
منها نصيب كافٍ، وهذا من
معجزات هذا الكتاب الشريف
ومن جامعيته.
ومن مقاصده الأخرى
ومطالبه: الدعوة إلى
تهذيب النفوس وتطهير
البواطن من أرجاس الطبيعة،
وتحصيل السعادة.
وبالجملة، كيفية السير
والسلوك إلى الله، وهذا
المطلب الشريف منقسم إلى
شعبتين مهمتين.
إحداهما: التقوى بجميع
مراتبها المندرجة فيها
التقوى عن غير الحق
والإعراض المطلق عما سوى
الله.
وثانيهما: الإيمان بتمام
المراتب والشؤون المندرجة
في الإقبال إلى الحق،
والرجوع والإنابة إلى
ذاته المقدسة، وهذا من
المقاصد المهمة لهذا
الكتاب الشريف، وأكثر
مطالبه ترجع إلى هذا
المقصد إما بلا واسطة أو
مع الواسطة.
ومن مقاصد هذه الصحيفة
الإلهية: قصص الأنبياء
والأولياء والحكماء،
وكيفية تربية الحق إيّاهم،
وتربيتهم الخلق. فإن في
تلك القصص فوائد لا تحصى
وتعليمات كثيرة. ومن
المعارف الإلهية
والتعليمات وأنواع
التربية الربوبية
المذكورة والمرموزة فيها
ما يحيّر العقل.
فيا سبحان الله، وله
الحمد والمنّة، ففي قصة
خلق ادم عليه السلام،
والأمر بسجود الملائكة،
وتعليمه الأسماء وقضايا
إبليس وادم التي كُرّر
ذكرها في كتاب الله من
التعليم والتربية
والمعارف والمعالم لمن
كان
﴿لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾74 ما
يحيّر الإنسان. ولأجل هذه
النكتة كُرّرت القصص
القرآنية كقصة ادم وموسى
وإبراهيم وسائر الأنبياء
عليه السلام، فليس هذا
الكتاب كتاب قصة وتاريخ؛
بل هو كتاب السير والسلوك
إلى الله، وكتاب التوحيد
والمعارف والمواعظ والحكم.
والمطلوب في هذه الأمور
هو التكرار كي يؤثّر في
القلوب القاسية، وتأخذ
منها الموعظة. وبعبارة
أخرى إن من يريد أن يربّي
ويعلِّم وينذر ويبشّر فلا
بدّ له أن يزرق مقصده
بالعبارات المختلفة
والبيانات المتشتتة،
فتارة في ضمن قصة وحكاية
وأخرى في ضمن تاريخ ونقل،
وحيناً بصراحة اللهجة،
وحيناً بالكناية والأمثال
والرموز حتى تتمكن كل من
النفوس المختلفة والقلوب
المتشتتة الاستفادة منها،
وحيث أن هذا الكتاب
الشريف لأجل
سعادة جميع الطبقات
وسلسلة البشر قاطبة،
ويختلف هذا النوع
الإنساني في حالات القلوب
والعادات والأخلاق
والأزمنة والأمكنة، ولا
يمكن أن تكون دعوته على
نحو واحد، فربّ نفوس لا
تكون حاضرة لأخذ التعاليم
بصراحة اللهجة وإلقاء أصل
المطلب بنحو عادي، ولا
تتأثر بهذا النحو، فلا بد
أن تكون دعوة هؤلاء وفق
كيفية تفكيرهم، فيفهم
إيّاهم المقصد، وربَّ
نفوسٍ لا شغل لها بالقصص
والحكايات والتواريخ،
وإنما علاقتها بلبّ
المطالب، ولباب المقاصد،
فلا يوزن هؤلاء مع
الطائفة الأولى بميزان
واحد. وربّ قلوب تتناسب
مع التخويف والإنذار،
وقلوب لها الألفة مع
الوعد والتبشير. فلهذه
الجهة دعا الناس هذا
الكتاب الشريف بالأقسام
المختلفة، والفنون
المتعددة، والطرق
المتشتتة، والتكرار لمثل
هذا الكتاب لازم وحتمي،
والدعوة والموعظة من دون
تكرار وتفنّن خارجة عن حد
البلاغة، وما يتوقّع منها
وهو التأثير في النفوس لا
يحصل من دون تكرار ومع
هذا فإنّ ذكر القضايا في
هذا الكتاب الشريف كان
على نحو لا يوجب تكرارها
الكسالة في الإنسان، بل
هو في كل دفعة يكرّر أصل
المطلب يذكر فيها خصوصيات
ولواحق ليست في غيرها، بل
في كل مرّة يركّز النظر
إلى نكتة مهمة عرفانية أو
أخلاقية ويطيف المطلب
حولها. وبيان هذا المطلب
يستلزم استقصاءات كاملة
في القصص القرآنية، ولا
يسع هذا المختصر، وفي أمل
هذا الضعيف المحتاج أن
أؤلف بالتوفيق الإلهي
وبالمقدار الميسور كتاباً
في خصوص القصص القرآنية،
وحلّ رموزها، وكيفية
التعليم والتربية فيها،
وإن كان القيام بهذا
الأمر من مثل الكاتب أمل
لا ينال، وخيال باطل في
الغاية.
وبالجملة، فإن ذكر قصص
الأنبياء وكيفية سيرهم
وسلوكهم وكيفية تربيتهم
عباد الله ومواعظهم
ومجادلاتهم الحسنة من
أعظم أبواب المعارف
والحكم، وأعلى أبواب
السعادة والتعاليم، قد
فتحها الحق تعالى وجلّ
مجده على عباده، فكما أنّ
لأرباب المعرفة وأصحاب
السلوك والرياضة منها حظاً
وافراً ونصيباً كافياً
كذلك لسواهم أيضاً نصيب
وافٍ وسهم غير محدود.
فمثلاً أهل المعرفة
يدركون من الكريمة
الشريفة
﴿فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
رَأَى كَوْكَباً﴾75 إلى
آخر الآيات كيفية سلوك
إبراهيم، وسيره المعنوي،
ويعلمون طريق السلوك إلى
الله، والسير إلى جنابه،
وحقيقة السير الأنفسي،
والسلوك المعنوي من منتهى
ظلمة الطبيعة التي عبّر
عنها في ذلك المسلك بـ﴿جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾
إلى إلقاء
مطلق الآنية والأنانية،
وترك النفسانية وعبادة
النفس، والوصول إلى مقام
القدس والدخول في محفل
الإنس
﴿وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ﴾76 إلى آخر إشارة إلى ذلك في
هذا المسلك، والآخرون
يدركون منها السير
الافاقي وكيفية تربية
خليل الرحمن أمّته
وتعليمه إيّاهم. وعلى هذا
المنوال سائر القصص
والحكايات، مثل قصة ادم
وإبراهيم وموسى ويوسف
وعيسى عليهم السلام
وعلاقات موسى مع الخضر
عليه السلام، فإن
استفادات أهل المعارف
والرياضات والمجاهدات
والآخرين تختلف كل منهم
عن الآخر. ويدخل في هذا
القسم، أو هو مقصد مستقل
حكم ومواعظ ذات الحق
المقدسة، حيث أنه بنفسه
دعا العباد بلسان القدرة
في كل مكان مناسب، إما
إلى المعارف الإلهية
والتوحيد والتنزيه
كالسورة المباركة التوحيد،
وأواخر سورة الحشر وأوائل
الحديد، وسائر موارد
الكتاب الشريف الإلهي،
ولأصحاب القلوب والسوابق
الحسنى من هذا القسم حظوظ
لا تحصى.
فمثلاً أصحاب المعارف
يستفيدون من الكريمة
المقدسة
﴿وَمَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِراً إِلَى اللهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللهِ﴾77.
قرب النافلة78 والفريضة،
وفي نفس الحال يستفيد
السائرون الخروج بالبدن
والهجرة مثلاً لمكة أو
للمدينة، أو دعاهم إلى
تهذيب النفوس والرياضات
الباطنية كالكريمة
الشريفة
﴿قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا
*
وَقَدْ خَابَ مَنْ
دَسَّاهَا﴾79 إلى غير ذلك...
أو دعاهم إلى العمل
الصالح كما هو معلوم، أو
حذرهم عن مقابلات كل من
ذلك، وتدخل في هذا القسم
أيضاً الحكم اللقمانية
وحكم سائر الأجلّة
والمؤمنين المذكورة في
الموارد المختلفة في هذه
الصحيفة الإلهية كقضايا
أصحاب الكهف.
ومن مطالب هذه الصحيفة
النورانية أحوال الكفار
والجاحدين والمخالفين
للحق والحقيقة والمعاندين
للأنبياء والأولياء عليهم
السلام، وبيان كيفية
عواقب أمورهم وكيفية
بوارهم وهلاكهم كقضايا
فرعون وقارون ونمرود
وشدّاد وأصحاب الفيل
وغيرهم من الكفرة والفجرة.
ففي كل واحدة منها مواعظ
وحكم، بل معارف لأهله.
ويدخل في هذا القسم قضايا
إبليس الملعون، ويدخل في
هذا القسم أيضاً أو أنه
قسم مستقل قضايا غزوات
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم التي فيها أيضاً
مطالب شريفة مذكورة، منها
كيفية مجاهدات أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم لإيقاظ المسلمين من
نوم الغفلة، وبعثهم
للمجاهدة في سبيل الله،
وتنفيذ كلمة الحق وإماتة
الباطل.
ومن مطالب القرآن الشريف
بيان قوانين ظاهر الشريعة
والآداب والسنن الإلهية،
وقد ذكرت كلّيّاتها
ومهماتها في هذا الكتاب
النوراني والعمدة في هذا
القسم الدعوة إلى أصول
المطالب وضوابطها مثل باب
الصلاة والزكاة80
والخمس81 والحج والصوم
والجهاد والنكاح والإرث
والقصاص والحدود والتجارة
وأمثالها. وحيث أن هذا
القسم وهو علم ظاهر
الشريعة عامّ المنفعة
ومجعول لجميع الطبقات من
حيث تعمير الدنيا والآخرة،
وتستفيد كل طبقات الناس
منه بمقدارها، فالدعوة
إليه كثيرة لهذه الجهة،
وفي الأحاديث الشريفة
والأخبار أيضاً خصوصياته
وتفاصيله إلى حدّ وافرٍ،
وتصانيف علماء الشريعة في
هذا القسم أكثر وأعلى من
سائر الأقسام.
ومن مطالب القرآن الشريف:
أحوال المعاد والبراهين
لإثباته، وكيفية العذاب
والعقاب والجزاء والثواب،
وتفاصيل الجنة والنار
والتعذيب والتنعيم.
وقد ذكرت في هذا القسم
حالات أهل السعادة
ودرجاتهم من أهل المعرفة
والمقربين، ومن أهل
الرياضة والسالكين، ومن
أهل العبادة والناسكين.
وكذلك حالات أهل الشقاوة
ودرجاتهم من الكفار
والمحجوبين والمنافقين
والجاحدين وأهل المعصية
والفاسقين. ولكن ما كان
أكثر فائدة لحال العامة
كان أكثر ذكراً وبصراحة
اللهجة، وما كان مفيداً
لطبقة خاصة؛ فقد ذكر
بطريق الرمز والإشارة مثل
﴿وَرِضْوَانٌ
مِنَ اللهِ﴾82، وآيات لقاء الله لتلك
الطائفة، ومثل
﴿كَلاَ
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ﴾83 للطائفة
الأخرى. وقد ذكر في هذا
القسم أي في قسم تفصيل
المعاد والرجوع إلى الله
معارف لا تحصى، وأسراراً
صعبة مستصعبة لا يمكن
الاطّلاع على كيفيّتها
إلا بالسلوك البرهاني أو
النور العرفاني.
ومن مطالب هذه الصحيفة
الإلهية كيفية الاحتجاجات
والبراهين التي ذكرها
الله وهي إما إقامتها
الذات المقدسة الحق تعالى
بنفسه لإثبات المطالب
الحقة والمعارف الإلهية
مثل الاحتجاج إلى إثبات
الحق والتوحيد والتنزيه
والعلم والقدرة وسائر
الأوصاف الكمالية. وقد
يوجد في هذا القسم براهين
دقيقة يستفيد أهل المعرفة
منها استفادة كاملة مثل
﴿شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَ هُوَ﴾84 وقد توجد براهين
يستفيد الحكماء
والعلماء منها على نحو،
ويستفيد أهل الظاهر وعامة
الناس على نحو آخر،
ككريمة
﴿لَوْ
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلاَ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾85 ومثل كريمة
﴿إِذاً
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ
بِمَا خَلَقَ﴾86 ومثل آيات أول سورة
الحديد والسورة المباركة
التوحيد وغيرها، ومثل
الاحتجاج على إثبات
المعاد ورجوع الأرواح
وإنشاء النشأة الأخرى،
والاحتجاج على إثبات
ملائكة الله والأنبياء
العظام الموجودة في موارد
مختلفة من هذا الكتاب
الشريف.
هذه حال احتجاجات نفس
الذات المقدسة، وأما أن
الحق تعالى نقل براهين
الأنبياء والعلماء على
إثبات المعارف مثل
احتجاجات خليل الرحمن
سلام الله عليه وغيره.
هذه مهمّات مطالب هذا
الكتاب... وإلا فالمطالب
المتفرقة الأخرى أيضاً
موجودة ويستلزم إحصاؤها
وقتاً كافياً.
في بيان طريق
الاستفادة من القرآن
الكريم(10)
فإذا علمت الآن مقاصد هذه
الصحيفة الإلهية ومطالبها
فلا بد لك أن تلفت النظر
إلى مطلب مهم يكشف لك
بالتوجّه إليه طريق
الاستفادة من الكتاب
الشريف، وتنفتح على قلبك
أبواب المعارف والحكم وهو
أن يكون نظرك إلى الكتاب
الشريف الإلهي نظر
التعليم، وتراه كتاب
التعليم والإفادة وترى
نفسك موظفة على التعلّم
والاستفادة، وليس مقصودنا
من التعليم والتعلم
والإفادة والاستفادة أن
تتعلم منه الجهات الأدبية
والنحو والصرف أو تأخذ
منه الفصاحة والبلاغة
والنكات البيانية
والبديعية، أو تنظر في
قصصه وحكاياته بالنظر
التاريخي والاطّلاع على
الأمم السالفة، فإنه ليس
شيء من هذه داخلاً في
مقاصد القرآن، وهو بعيد
عن المنظور الأصلي للكتاب
الإلهي بمراحل والذي أوجب
أن تكون استفادتنا من هذا
الكتاب العظيم بأقل من
القليل هو هذا المعنى.
فإما ألا ننظر إليه نظر
التعليم والتعلم كما هو
الغالب علينا، ونقرأ
القرآن للثواب والأجر فقط
ولهذا لا نعتني بغير جهة
تجويده، ونريد أن نقرأه
صحيحاً حتى يعطي لنا
الثواب ونحن واقفون في
هذا الحد وقانعون بهذا
الأمر، ولذا نقرأ القرآن
أربعين سنة ولا تحصل
الاستفادة منه بوجه
إلا الأجر وثواب القراءة.
وأما أن نشتغل إن كان
نظرنا التعليم والتعلّم
بالنكات البديعيّة
والبيانية ووجوه إعجازه،
وأعلى من هذا بقليل فإلى
الجهات التاريخية وسبب
نزول الآيات وأوقات
النزول، وكون الآيات
والسور مكية أو مدنية،
واختلاف القراءات واختلاف
المفسرين من العامة
والخاصة وسائر الأمور
العرضية الخارجة عن
المقصد بحيث تكون هذه
الأمور نفسها موجبة
للاحتجاب عن القرآن
والغفلة عن الذكر الإلهي
بل إن مفسّرينا العظام
أيضاً صرفوا عمدة همّهم
في إحدى هذه الجهات أو
أكثر ولم يفتحوا باب
التعليمات على الناس.
وبعقيدتي الكاتب لم يَكتب
إلى الآن التفسير لكتاب
الله لأن معنى التفسير
على نحو كلّي هو أن يكون
شارحاً لمقاصد الكتاب
المفسّر ويكون مهمّ النظر
إلى بيان منظور صاحب
الكتاب. فهذا الكتاب
الشريف الذي هو بشهادة من
الله تعالى كتاب الهداية
والتعليم ونور طريق سلوك
الإنسانية، يلزم للمفسّر
أن يعلّم للمتعلم في كل
قصّة من قصصه بل في كل
آية من آياته جهة
الاهتداء إلى عالم الغيب87 وحيثية الهداية
إلى طريق السعادة، وسلوك
طريق المعرفة والإنسانية.
فالمفسر إذا فهّم لنا
المقصد من النزول فهو
مفسّر سبب النزول كما هو
في التفاسير، ففي قصة ادم
وحواء أو قضاياهما مع
إبليس من ابتداء خلقهما
إلى ورودهما في الأرض،
وقد ذكرها الحق تعالى
مكررة في كتابه. كم من
المعارف والمواعظ مذكورة
فيها ومرموز إليها. وكم
فيها من معايب النفس
وكمالاتها ومعارفها
وأخلاق إبليس موجودة فيها
نتعرف عليها ونحن عنه
غافلون.
وبالجملة، كتاب الله هو
كتاب المعرفة والأخلاق
والدعوة إلى السعادة
والكمال، فكتاب التفسير
أيضاً لا بد وأن يكون
كتاباً عرفانياً وأخلاقياً
ومبيّناً للجهات
العرفانية والأخلاقية
وسائر جهات الدعوة إلى
السعادة التي في القرآن.
فالمفسّر الذي يغفل عن
هذه الجهة أو يصرف عنها
النظر أو لا يهتم بها فقد
غفل عن مقصود القرآن
والمنظور الأصلي لإنزال
الكتب وإرسال الرسل. وهذا
هو الخطأ الذي حرم الملّة
الإسلامية منذ قرون من
الاستفادة من القرآن
الشريف وسدّ طريق الهداية
على الناس، فلا بد لنا أن
نأخذ المقصود من تنزيل
هذا الكتاب من نفس هذا
الكتاب مع قطع النظر عن
الجهات العقلية البرهانية
التي تفهمنا المقصد،
فمصنف الكتاب أعرَف
بمقصده. فالآن إذا نظرنا
إلى ما قال هذا المصنف
فيما يرجع إلى شؤون
القرآن، نرى أنه يقول
﴿ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ
فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ﴾88. فعرّف هذا
الكتاب كتاب الهداية، نرى
أنه في سورة قصيرة كرّر
مرّات عديدة
﴿وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ﴾89. نرى أنه يقول
﴿وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ﴾90. ونرى أنه
يقول
﴿كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الألْبَابِ﴾91، إلى غير ذلك
من الآيات الشريفة التي
يطول ذكرها.
وبالجملة، ليس مقصودنا من
هذا البيان الانتقاد
للتفاسير فإن كل واحد من
المفسرين تحمّل المشاق
الكثيرة والأتعاب التي لا
نهاية لها حتى صنف كتاباً
شريفاً، فلله درّهم وعلى
الله أجرهم، بل مقصودنا
هو
أنه لا بد وأن يفتح للناس
طريق الاستفادة من هذا
الكتاب الشريف الذي هو
الكتاب الوحيد في السلوك
إلى الله والكتاب الأحدي92 في تهذيب النفوس
والآداب والسنن الإلهية،
وأعظم وسيلة للربط بين
الخالق والمخلوق والعروة
الوثقى والحبل المتين
للتمسّك بعزّ الربوبية
فعلى العلماء والمفسرين
أن يكتبوا التفاسير
فارسية وعربية وليكن
مقصودهم بيان التعاليم
والمقررات العرفانية
والأخلاقية وبيان كيفية
ربط المخلوق بالخالق،
وبيان الهجرة من دار
الغرور إلى دار السرور
والخلود على نحو ما أودعت
في هذا الكتاب الشريف،
فصاحب هذا الكتاب ليس هو
السكاكي93
والشيخ94 فيكون
مقصده جهات البلاغة
والفصاحة وليس هو سيبويه95 والخليل حتى
يكون منظوره جهات النحو
والصرف، وليس المسعودي96 وابن
خلكان97 حتى يبحث
حول تاريخ
العالم. هذا الكتاب ليس
كعصي موسى ويده البيضاء
أو نفس عيسى الذي يحيي
الموتى فيكون للإعجاز فقط
وللدّلالة على صدق النبي
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم بل هذه الصحيفة
الإلهية كتاب إحياء
القلوب بالحياة الأبدية
العلمية والمعارف الإلهية،
هذا كتاب الله ويدعو إلى
الشؤون الإلهية جلّ وعلا.
فالمفسّر لا بد وأن يعلم
الشؤون الإلهية ويرجع
الناس إلى تفسيره لتعلّم
الشؤون الإلهية حتى تتحصل
الاستفادة منه
﴿وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَ خَسَاراً﴾98. فأيّ خسران أعظم من أن
نقرأ الكتاب الإلهي منذ
ثلاثين أو أربعين سنة
ونراجع التفاسير ونحرم
مقاصده،
﴿رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ﴾99.
في بيان رفع الموانع
والحجب بين المستفيد
والقرآن(11)
فإذا علمت الآن عظمة كتاب
الله من جميع الجهات
المقتضية للعظمة وانفتح
طريق استفادة المطالب منه
فاللازم على المتعلم
والمستفيد من كتاب الله
أن يجري أدباً آخر من
الآداب المهمة حتى تحصل
الاستفادة وهو رفع موانع
الاستفادة، ونحن نعبّر
عنها بالحجب بين المستفيد
والقرآن، وهذه الحجب
كثيرة نشير إلى بعضها:
من الحجب العظيمة حجاب
رؤية النفس، فيرى المتعلم
نفسه بواسطة هذا الحجاب
مستغنية أو غير محتاجة
للاستفادة وهذا من
المكائد الأصيلة المهمة
للشيطان حيث أنه يزيّن
للإنسان دائماً الكمالات
الموهومة ويرضي الإنسان
ويقنعه بما فيه ويسقط من
عينه كل شيء سوى ما عنده،
مثلاً يقنّع أهل التجويد
بذاك العلم الجزئي
ويزيّنه في أعينهم إلى حدّ
يسقط سائر العلوم عن
أعينهم ويطبّق في نظرهم
حملة القرآن عليهم
ويحرمهم من فهم الكتاب
النوراني الإلهي
والاستفادة منه، ويرضي
أصحاب الأدب بتلك الصورة
بلا لبّ ويمثّل جميع شؤون
القرآن فيما هو عندهم،
ويشغل أهل التفاسير
المتعارفة
بوجوه القراءات والآراء
المختلفة لأرباب اللغة
ووقت النزول وشأن النزول
وكون الآيات مكية أو
مدنية وتعدادها وتعداد
الحروف وأمثال تلك الأمور.
ويقنع أهل العلوم أيضاً
بعلم فنون الدلالات فقط
ووجوه الاحتجاجات
وأمثالها حتى أنه يحبس
الفيلسوف والحكيم والعارف
الاصطلاحي في الغليظ من
حجاب الاصطلاحات
والمفاهيم وأمثال ذلك.
فعلى المستفيد أن يخرق
جميع الحجب هذه وينظر إلى
القرآن من ورائها، ولا
يتوقف في شيء من هذه
الحجب ولا يتأخر عن قافلة
السالكين ولا يحرم من
الدعوات الحلوة الإلهية،
ويستفاد عدم الوقوف وعدم
القناعة إلى حدّ معين من
نفس القرآن.
والإشارة إلى هذا المعنى
كثيرة في القصص القرآنية،
فموسى الكليم مع ما له من
المقام العظيم في النبوّة
ما اقتنع بذلك المقام وما
توقف في مقام علمه الشامخ،
وبمجرد أن لاقى شخصاً
كاملاً كالخضر قال له بكل
تواضع وخضوع:
﴿هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِ مِمَّا
عُلِّمْتَ رُشْداً﴾100 وصار
ملازماً لخدمته حتى أخذ
منه العلوم التي لا بد من
أخذها.
وإبراهيم لم يقتنع بمقام
شامخ الإيمان والعلم
الخاص للأنبياء فقال:
﴿رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى﴾101. فأراد أن
يرتقي من الإيمان القلبي
إلى مقام الاطمئنان
الشهودي وأعظم من ذلك أن
الله تبارك وتعالى يأمر
نبيّه الخاتم وهو أعرف
خلق الله بالكريمة
الشريفة
﴿وَقُلْ
رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾102. فهذه الأوامر
في الكتاب الإلهي ونقل
هذه القصص لأن نتنبّه
ونستيقظ من نوم الغفلة.
ومن الحجب: حجاب الآراء
الفاسدة والمسالك
والمذاهب الباطلة، وهذا
قد يكون من سوء استعداد
الشخص والأغلب أنه يوجد
من التبعية والتقليد.
وهذا من الحجب التي
حجبتنا بالأخص عن معارف
القرآن مثلاً إذا رسخ في
قلوبنا اعتقاد بمجرّد
الاستماع من الأب أو الأم
أو من بعض جهلة أهل
المنبر تكون هذه العقيدة
حاجبة بيننا وبين الآيات
الشريفة الإلهية. فإن
وردت آلاف من الآيات
والروايات تخالف تلك
العقيدة، فإما أن نصرفها
عن ظاهرها أو أن لا ننظر
فيها نظر الفهم والأمثال
لذلك فيما يرجع إلى
العقائد والمعارف كثيرة
ولكنّي أكفّ نفسي عن
عدّها لأني أعلم بأن هذا
الحجاب لا يخترق بكلام
مثلي، ولكن أشير إلى واحد
منها حيث أنه سهل المأخذ
في الجملة.
قد وردت الآيات الكثيرة
الراجعة إلى لقاء الله
ومعرفة الله، ووردت
روايات كثيرة في هذا
الموضوع مع كثير من
الإشارات والكنايات
والصراحات في الأدعية
والمناجاة للأئمة عليهم
السلام. فبمجرّد ما نشأت
عقيدة في هذا الميدان من
العوام وانتشرت بأن طريق
معرفة الله مسدود
بالكلّية فيقيسون باب
معرفة الله ومشاهدة جماله
على باب التفكر في الذات
على الوجه الممنوع بل
الممتنع، فأمّا أن
يؤوّلوا ويوجّهوا تلك
الآيات والروايات، وكذلك
الإشارات والكنايات
والصراحات في أدعية
الأئمة عليهم السلام
ومناجاتهم، وأمّا ألاّ
يدخلوا في هذا الميدان
أصلاً ولا يعرّفوا أنفسهم
بالمعارف التي هي قرّة
العين للأنبياء والأولياء،
فممّا يوجب الأسف الشديد
لأهل الله أن باباً من
المعرفة الذي يمكن أن
يقال أنه غاية بعثة
الأنبياء عليهم السلام
ومنتهى مطلوب الأولياء قد
سدّوه على الناس بحيث يعدّ
التفوّه به محض الكفر
وصرف الزندقة إنّ هؤلاء
يرون معارف الأنبياء
والأولياء في ما يختص
بذات الحق تعإلى وأسمائه
وصفاته مساوية لمعارف
العوام والنساء فيه، بل
يظهر من هؤلاء أحياناً ما
هو أعظم من ذلك فيقول
أحدهم: أن لفلان عقائد
عامية حسنة فيا ليت لنا
مثلما له من العقيدة
العامية.. وهذا الكلام
منه صحيح لأن هذا المسكين
الذي يتفوّه بهذا الكلام
قد أخرج من يده العقائد
العامية ويرى معارف
الخواص وأهل الله باطلة،
فهذا التمنّي منه عيناً
كتمني الكفار. وقد نقل
عنهم في الكريمة الإلهية
﴿وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُرَاباً﴾103. ونحن إن
أردنا أن نذكر الآيات
والأخبار في لقاء الله
بتفاصيلها حتى تتضح فضاحة
هذه العقيدة الفاسدة
الناشئة عن الجهل والغرور
الشيطاني، فيستلزم ذلك
كتاباً على حدة فضلاً من
أن نذكر المعارف التي
وقعت وراء ستر النسيان
بواسطة هذا الحجاب الغليظ
حتى يعلم أن أحد مراتب
المهجورية من القرآن.
ومهجورية القرآن ولعلّ
الأسف عليها أشدّ هو هذه
كما يقول تعإلى في
الكريمة الشريفة:
﴿وَقَالَ
الرَّسُولُ يَا رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا
هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُوراً﴾104.
إن مهجورية القرآن لها
مراتب كثيرة ومنازل لا
تحصى، ولعلنا متصفون
بالعمدة منها. أترى أننا
إذا جلّدنا هذه الصحيفة
الإلهية جلداً نظيفاً
وقيّماً وعند قراءتها أو
الاستخارة بها قبّلناها
ووضعناها على أعيننا ما
اتخذناه مهجوراً؟ أترى
إذا صرفنا غالب عمرنا في
تجويده وجهاته اللغوية
والبيانية والبديعية قد
أخرجنا هذا الكتاب الشريف
عن
المهجورية؟ هل أننا إذا
تعلّمنا القراءات
المختلفة وأمثالها قد
تخلّصنا من عار هجران
القرآن؟ هل أننا إذا
تعلمنا وجوه إعجاز القرآن
وفنون محسّناته قد
تخلّصنا من شكوى رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم؟ هيهات.. فإنه ليس
شيء من هذه الأمور مورداً
لنظر القرآن ومنزّلها
العظيم الشأن، إن القرآن
كتاب إلهي وفيه الشؤون
الإلهية. القرآن هو الحبل
المتصل بين الخالق
والمخلوق ولا بد أن يوجد
الربط المعنوي والارتباط
الغيبي بتعليماته بين
عباد الله ومربّيهم، ولا
بد أن يحصل من القرآن
العلوم الإلهية والمعارف
اللدنيّة105، أن رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال حسب ما رواه
الكافي "إنما العلم ثلاثة:
أية محكمة وفريضة عادلة
وسنّة قائمة". فالقرآن
الشريف حامل لهذه العلوم
فإن تعلمنا من القرآن هذه
العلوم فما اتّخذناه
مهجوراً، وإذا قبلنا
دعوات القرآن وأخذنا
التعليمات من قصص
الأنبياء المشحونة
بالمواعظ والمعارف والحكم،
إذا اتعظنا نحن من مواعظ
الله تعالى ومواعظ
الأنبياء والحكماء
المذكورة في القرآن فما
اتّخذناه مهجوراً، وإلا
الغور في الصورة الظاهرية
للقران أيضاً إخلاد إلى
الأرض ومن وساوس الشيطان
ولا بد من الاستعاذة
بالله منها.
ومن الحجب المانعة من
الاستفادة من هذه الصحيفة
النورانية: الاعتقاد بأنه
ليس لأحد حق الاستفادة من
القرآن الشريف إلا بما
كتبه المفسّرون أو فهموه.
وقد اشتبه على الناس
التفكر والتدبّر في
الآيات الشريفة بالتفسير
بالرأي الممنوع، وبواسطة
هذا الرأي الفاسد
والعقيدة الباطلة جعلوا
القرآن عارياً من جميع
فنون الاستفادة
واتخذوه مهجوراً بالكلية
في حال أن الاستفادات
الأخلاقية والإيمانية
والعرفانية لا ربط لها
بالتفسير، فكيف بالتفسير
بالرأي، فمثلاً إذا
استفاد أحد من كيفية
مذاكرات موسى عليه السلام
مع الخضر عليه السلام
وكيفية معاشرتهما وشد
موسى عليه السلام رحاله
إليه مع ما له من عظمة
مقام النبوّة لأخذ العلم
الذي ليس موجوداً عنده
وكيفية عرض حاجته إلى
الخضر كما ذكرت في
الكريمة الشريفة:
﴿هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِ مِمَّا
عُلِّمْتَ رُشْداً﴾106. وكيفية جواب الخضر
والاعتذارات التي وقعت من
موسى عظمة مقام العلم
وآداب سلوك المتعلم، مع
المعلّم ولعلها تبلغ من
الآيات المذكورة إلى
عشرين أدباً فأي ربط لهذه
الاستفادات بالتفسير فضلاً
من أن تكون تفسيراً
بالرأي والاستفادة من هذا
القبيل في القرآن كثيرة،
ففي المعارف مثلاً إذا
استفاد أحد من قوله تعالى
﴿الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾107 الذي حصر
جميع المحامد لله، وخصّ
جميع الأثنية للحق تعالى
التوحيد الأفعالي وقال
بأنه يستفاد من الآية
الشريفة أن كل كمال وجمال
وكلّ عزّة وجلال الموجودة
في العالم وتنسبها العين
الحولاء والقلب المحجوب
إلى الموجودات من الحق
تعالى وليس لموجود من قبل
نفسه شيء،ولذا المحمدة
والثناء خاص بالحق ولا
يشاركه فيها أحد، فأيّ
ربط لهذا إلى التفسير حتى
يسمّى بالتفسير بالرأي أو
لا يسمى؟ إلى غير ذلك من
الأمور التي تستفاد من
لوازم الكلام ولا ربط لها
بوجه إلى التفسير،مضافاً
إلى أن في التفسير بالرأي
أيضاً كلام لعلّه غير
مربوط بآيات المعارف
والعلوم العقلية التي
توافق الموازين البرهانية
وبالآيات الأخلاقية التي
فيها للعقل دخل، لأن
التفاسير التي من هذا
القبيل مطابقة للبرهان
المتين العقلي أو
الاعتبارات العقلية
الواضحة، فإذا كان ظاهر
الكلام على خلافها
فاللازم أن يصرف الكلام
من ظاهره، مثلاً في كريمة
﴿وَجَاء
رَبُّكَ﴾108 و﴿الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾109. التي يكون الفهم العرفي
فيها مخالفاً للبرهان ليس
تفسيراً بالرأي ولا يكون
ممنوعاً بوجه فمن المحتمل
بل من المظنون أن التفسير
بالرأي راجع إلى آيات
الأحكام التي تقصر عنها
أيدي الآراء والعقول، ولا
بد وأن تؤخذ بصرف التعبّد
والانقياد من خزّان الوحي
ومهابط ملائكة الله، كما
أن أكثر الروايات في هذا
الباب وردت في مقابل
علماء العامة الذين كانوا
يريدون أن يفهموا دين
الله بعقولهم ومقايساتهم،
وما في بعض الروايات
الشريفة من أنه ليس شيء
أبعد من عقول الرجال من
تفسير القرآن.. وكذلك
الرواية الشريفة "إن دين
الله لا يصاب بالعقول" تشهد بأن المقصود من دين
الله الأحكام التعبّدية
للدين وإلا فباب إثبات
الصانع والتوحيد والتقديس
وإثبات المعاد والنبوّة
بل مطلق المعارف حقٌ طلق
للعقول، ومن مختصاتها وإن
ورد في كلام بعض المحدثين
من ذوي المقام العالي أن
الاعتماد في إثبات
التوحيد على الدليل
النقلي، فمن غرائب الأمور
بل من المصيبات التي لا
بد أن يستعاذ بالله منها.
ولا يحتاج هذا الكلام إلى
التهجين والتوهين وإلى
الله المشتكى.
ومن الحجب المانعة من فهم
القرآن الشريف، ومن
الاستفادة من
معارف هذا الكتاب السماوي
ومواعظه حجاب المعاصي
والكدورات الحاصلة من
الطغيان والعصيان بالنسبة
إلى ساحة رب العالمين
المقدسة، فتحجب القلب عن
إدراك الحقائق.
وليعلم كما أن لكل عمل من
الأعمال الصالحة أو
السيئة كما أن له صورة في
عالم الملكوت110 تتناسب
معه فله صورة أيضاً في
ملكوت النفس، فتحصل
بواسطتها في ملكوت النفس:
أمّا النورانية ويكون
القلب مطهّراً ومنوّراً
وفي هذه الحالة تكون
النفس كالمرآة المصقولة
صافية، ويليق للتجليات
الغيبية وظهور الحقائق
والمعارف فيه، وأما أن
يصير ملكوت النفس به
ظلمانية وخبيثة، وفي هذه
الصورة يكون القلب
كالمرآة المريّنة
والمدنّسة لا تنعكس فيها
المعارف الإلهية ولا
الحقائق الغيبية، وحيث أن
القلب في هذه الحالة يقع
بالتدريج تحت سلطة
الشيطان ويكون المتصرف في
مملكة الروح إبليس فيقع
السمع والبصر وسائر القوى
أيضاً في تصرف ذاك الخبيث،
وينسد السمع بالكلية عن
المعارف والمواعظ الإلهية،
ولا ترى العين الآيات
الباهرة الإلهية وتعمي عن
الحق وأثاره وآياته ولا
يتفقّه القلب في الدين
ويحرم من التفكر في
الآيات والبيّنات وتذكر
الحق والأسماء111
والصفات112، كما قال الحق
تعالى
﴿لَهُمْ
قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ
لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ
يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾113. فيكون نظرهم إلى
العالم كنظر الأنعام
والحيوانات الخالية عن
الاعتبار والتدبّر،
وقلوبهم كقلوب الحيوانات
لا نصيب لها من التفكر
والتذكّر، بل تكون حالة
الغفلة والاستكبار تزداد
فيهم يوماً فيوم من النظر
في الآيات واستماع
المواعظ، فهم أرذل وأضلّ
من الحيوان.
ومن الحجب الغليظة التي
هي ستر صفيق بيننا وبين
معارف القرآن ومواعظه:
حجاب حبّ الدنيا، فيصرف
القلب بواسطته تمام همّته
في الدنيا وتكون وجهة
القلب تماماً إلى الدنيا
ويغفل القلب بواسطة هذه
المحبة عن ذكر الله،
ويعرض عن الذكر والمذكور،
وكلما ازدادت العلاقة
بالدنيا وأوضاعها ازداد
حجاب القلب وساتره ضخامة،
وربما تغلب هذه العلاقة
على القلب ويتسلّط سلطان
حب الجاه والشرف على
القلب بحيث يطفئ نور فطرة
الله بالكلّية وتغلق
أبواب السعادة على
الإنسان، ولعل المراد من
إقفال القلوب المذكورة في
الآية الشريفة
﴿أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾114. هذه
الأقفال وأغلال العلائق
الدنيوية، ومن أراد أن
يستفيد من القرآن ويأخذ
نصيبه من المواعظ الإلهية
لا بدّ وأن يطهّر القلب
من هذه الأرجاس، ويزيل
لوث المعاصي القلبية وهي
الاشتغال بالغير عن القلب
لأن غير المطهّر ليس
محرماً لهذه الأسرار قال
تعالى:
﴿إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
*
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*
لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ
الْمُطَهَّرُونَ﴾115. فكما
أن غير المطهّر الظاهري
ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب
ومسّه في العالم الظاهر
تشريعاً وتكليفاً، كذلك
ممنوع من معارفه ومواعظه
وباطنه وسرّه من كان قلبه
متلوثاً بأرجاس التعلّقات
الدنيوية، وقال تعالى:
﴿ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ
فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ﴾116 إلى آخر
الآية. فغير المتقي بحسب
تقوى العامة وغير المؤمن
بحسب إيمان العامة محروم
من الأنوار الصورية
لمواعظه وعقائده الحقة،
وغير المتقي وغير المؤمن
بحسب سائر مراتب التقوى
وهي تقوى الخاص وتقوى خاص
الخاص وتقوى أخصّ الخواص
محروم من سائر مراتبها.
والتفصيل حول تلك المراتب
وذكر سائر الآيات الدالة
على المقصود موجب للتطويل،
ولكن نختتم هذا الفصل
بذكر آية شريفة إلهية
تكفي لأهل اليقظة بشرط
التدبّر، قال تبارك
وتعالى:
﴿قَدْ
جَاءكُمْ مِنَ اللهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ
*
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلاَمِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾117.
فخصوصيات هذه الآية
الشريفة كثيرة، والبيان
حول نكاتها يستلزم رسالة
على حدة ليس الآن مجالها.
في التفكّر(12)
من آداب قراءة القرآن
حضور القلب، وقد ذكرناه
في الآداب المطلقة
للعبادات في هذه الرسالة
ولا يلزم إعادته، ومن
الآداب المهمة لها:
التفكر، والمقصود من
التفكر أن يتحسس من
الآيات الشريفة المقصد
والمقصود، وحيث أن مقصد
القرآن كما تقوله نفس
الصحيفة النورانية هو
الهداية إلى سبل السلام
والخروج من جميع مراتب
الظلمات إلى عالم النور،
والهداية إلى طريق مستقيم
فلا بد أن يحصّل الإنسان
بالتفكر في الآيات
الشريفة مراتب السلامة من
المرتبة الدانية والراجعة
إلى القوى الملكية إلى
منتهى النهاية فيها وهي
حقيقة القلب السليم على
ما ورد تفسيره عن أهل
البيت وهو أن يلاقي الحق
وليس فيه غيره وتكون
سلامة القوى الملكية118
والملكوتية119 ضالة قارئ
القرآن فإنها موجودة في
هذا الكتاب السماوي ولا
بد أن يستخرجها بالتفكر،
وإذا صارت القوى
الإنسانية سالمة عن
التصرّف الشيطاني وتحصّل
طرق السلامة وعمل بها ففي
كل مرتبة من السلامة تحصل
له ينجو
من ظلمة ويتجلى فيه النور
الساطع الإلهي قهراً حتى
إذا خلص عن جميع أنواع
الظلمات التي أولها ظلمات
عالم الطبيعة بجميع
شؤونها وآخرها ظلمة
التوجّه إلى الكثرة120 بتمام شؤونها يتجلى النور
المطلق في قلبه ويهديه
إلى طريق الإنسانية
المستقيم وهو في هذا
المقام طريق الربّ
﴿إِنَّ
رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾121.
وقد كثرت الدعوة إلى
التفكر وتمجيده وتحسينه
في القرآن الشريف قال
تعالى:
﴿وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ﴾122. وفي هذه
الآية مدح عظيم للتفكر،
لأن غاية إنزال الكتاب
العظيم السماوي والصحيفة
العظيمة النورانية قد
جعلت احتمال التفكر وهذا
من شدّة الاعتناء به حيث
أن مجرد احتماله صار
موجباً لهذه الكرامة
العظيمة، وقال تعالى في
الآية الأخرى:
﴿فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ﴾123.
والآيات من هذا القبيل أو
ما يقرب منه كثيرة
والروايات أيضاً في
التفكر كثيرة. فقد نقل عن
الرسول الخاتم صلى الله
عليه وآله وسلم أنه لما
نزلت الآية الشريفة
﴿إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لاَيَاتٍ﴾124 إلى آخرها..
قال صلى الله عليه وآله
وسلم: "ويل لمن قرأها ولم
يتفكر فيها".
والعمدة في هذا الباب أن
يفهم الإنسان ما هو
التفكر الممدوح،
وإلا لا شك في أن التفكر
ممدوح في القرآن والحديث،
فأحسن التعبير فيه ما
عبّر به الخواجة عبد الله
الأنصاري قال: اعلم أن
التفكّر تلمّس البصيرة
لاستدراك البغية، يعني أن
التفكر هو تحسّس البصيرة
وهي بصر القلب للوصول إلى
المقصود والمقصود هو
السعادة المطلقة التي
تحصل بالكمال العلمي أو
العملي فلا بد للإنسان أن
يتحصل على المقصود
والنتيجة الإنسانية وهي
السعادة في الآيات
الشريفة للكتاب الإلهي
وفي قصصه وحكاياته وحيث
أن السعادة هي الوصول إلى
السلامة المطلقة وعالم
النور والطريق المستقيم
فلا بد للإنسان أن يطلب
من القرآن المجيد الشريف
سبل السلامة ومعدن النور
المطلق والطريق المستقيمة
كما أشير إليها في الآية
الشريفة السابقة، فإذا
وجد القارئ المقصد وتبصّر
في تحصيله وانفتح له طريق
الاستفادة من القرآن
الشريف وفتحت له أبواب
رحمة الحق فإنه لا يصرف
عمره القصير العزيز ورأس
مال تحصيل سعادته على
أمور ليست مقصودة لرسالة
الرسول ويكف عن فضول
البحث وفضول الكلام، في
مثل هذا الأمر المهم فإذا
أشخص بصيرته مدّة إلى هذا
المقصود وصرف نظره عن
سائر الأمور تتبصّر عين
قلبه ويكون بصره حديداً
ويكون التفكر في القرآن
للنفس أمراً عادياً
وتنفتح طرق الاستفادة
وتفتح له أبواب ليست
مفتوحة له إلى الآن،
ويستفيد مطالب ومعارف من
القرآن ما كان يستفيدها
إلى الآن بوجه، فحين ذاك
يفهم كون القرآن شفاء
للأمراض القلبية، ويدرك
مفاد الآية الشريفة
﴿وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَ خَسَاراً﴾125 ومعنى قول أمير
المؤمنين صلوات الله عليه
"وتعلموا القرآن فإنه
ربيع القلوب واستشفعوا
بنوره فإنه شفاء الصدور" ولا يطلب من القرآن شفاء
الأمراض الجسمانية فقط بل
يجعل عمدة المقصد شفاء
الأمراض الروحانية الذي
هو مقصد القرآن بل القرآن
ما نزل لشفاء الأمراض
الجسمانية وإن كان يحصل
به كما أن الأنبياء لم
يبعثوا للشفاء الجسماني
وإن كانوا يشفون فهم
أطباء النفوس والشافين
للقلوب والأرواح.
في التطبيق(13)
من الآداب المهمة لقراءة
القرآن التي تنيل الإنسان
نتائج كثيرة والاستفادات
غير المعدودة هو التطبيق.
وكيفيّته أنه حينما يتفكر
في كل آية من الآيات
الشريفة يطبّق مفادها في
حاله ويرفع نقصانه بواسطة
هذا التطبيق ويشفي أمراضه
به، مثلاً في قصة ادم
عليه السلام الشريفة
يتفكر أن مطرودية الشيطان
عن جناب القدس مع تلك
السجدات والعبادات
الطويلة لماذا؟ فيطهّر
نفسه منه لأن مقام القرب
الإلهي مقام المطهّرين،
فمع الأوصاف والأخلاق
الشيطانية لا يمكن القدوم
إلى ذلك الجناب الرفيع.
ويستفاد من الآيات
الشريفة أن مبدأ عدم سجود
إبليس هو رؤية النفس
والعجب فقال أنا خير منه
خلقتني من نار وخلقته من
طين.. فهذا العجب صار
سبباً لحب النفس
والاستكبار، وصار سبباً
للاستقلال والاستكبار
وعصيان الأمر فصار مطروداً
عن الجناب ونحن خطبنا
الشيطان من أول عمرنا
ملعوناً ومطروداً واتصفنا
بأوصافه الخبيثة ولم
نتفكر في أن ما هو سبب
المطرودية عن جناب القدس
إذا كان موجوداً في أي
شخص، فهو مطرود وليس
للشيطان خصوصية، فما كان
سبباً
لطرده عن جناب القدس يكون
مانعاً من أن نتطرّق إليه،
وأنا أخاف من أن نكون
شركاء إبليس في اللعن
الذي نلعنه.
ونتفكر أيضاً في هذه
القضية الشريفة ونرى ما
هو السّبب لمزيّة ادم
وأفضليته على الملائكة،
فنتصف نحن أيضاً بمقدار
الطاقة بذاك السبب فنرى
أن سبب التفضيل هو تعليم
الأسماء126 كما قال تعالى:
﴿وَعَلَّمَ
آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا﴾127 والمرتبة
العالية من تعليم الأسماء
هو التحقق بمقام أسماء
الله. كما أن المرتبة
العالية من الإحصاء الذي
هو في الرواية الشريفة أن
لله تسعاً وتسعين اسماً
من أحصاها دخل الجنة، هو
التحقق بحقيقتها التي
تنيل الإنسان إلى جنة
الأسماء.
الإنسان يستطيع أن يكون
مظهراً لأسماء الله،
والآية الكبرى الإلهية
بالارتياضات القلبية
ويكون وجوده وجوداً
ربّانياً ويكون المتصرّف
في مملكته يدا الجمال
والجلال الإلهي. وفي
الحديث ما يقرب من هذا
المعنى من أن "روح المؤمن
أشدّ اتصالاً بالله تعالى
من اتصال شعاع الشمس بها
أو بنورها".
وفي الحديث الصحيح "لا
يزال يتقرّب إليّ عبدي
بالنوافل حتى أحبّه فإذا
أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به وبصره الذي يبصر
به ولسانه الذي ينطق به
ويده التي يأخذ بها". وفي
الحديث "عليٌ عين الله
ويد الله" إلى غير ذلك..
وفي الحديث "نحن أسماؤه
الحسنى" والشواهد العقلية
والنقلية في هذا بخصوصه
كثيرة.
وبالجملة، من أراد أن
يأخذ من القرآن الشريف
الحظ الوافر
والنصيب الكافي فلا بد له
أن يطبّق كل آية شريفة من
الآيات على حالات نفسه
حتى يستفيد استفادة كاملة،
مثلاً يقول الله تعالى في
سورة الأنفال في الآية
الشريفة:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَاناً
وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾128. فلا بد للسالك من أن
يلاحظ هل هذه الأوصاف
الثلاثة منطبقة عليه، وهل
قلبه يجِلُ إذا ذكر الله
ويخاف؟ وإذا تليت عليه
الآيات الشريفة الإلهية
يزداد نور الإيمان في
قلبه؟ وهل اعتماده وتوكله
على الحق تعالى؟ أو أنه
في كل من هذه المراحل
راجل ومن كل هذه الخواص
محروم؟ فإن أراد أن يفهم
أنه من الحق تعالى خائف
وقلبه من خوفه وجل فلينظر
إلى أعماله.
الإنسان الخائف لا يتجاسر
في محضر الكبرياء إلى
مقامه المقدس ولا يهتك
الحرمات الإلهية في حضور
الحق، وإذا قوي الإيمان
بتلاوة الآيات الإلهية
يسري نور الإيمان إلى
المملكة الظاهرية أيضاً،
فغير ممكن أن يكون القلب
نورانياً ولا يكون اللسان
والكلام والعين والنظر
والسمع والاستماع نورانياً.
فالبشر النوراني هو الذي
تكون جميع قواه
الملكية129
والملكوتية130 منيرة، فمضافاً إلى هداية
نفسه إلى السعادة والطريق
المستقيم يكون مضيئاً
لسائر الخلق أيضاً
ويهديهم إلى طريق
الإنسانية كما أنه إذا
توكل أحد على الله تعالى
واعتمد عليه فيقطع الطمع
عمّا في أيدي سائر الخلق
ويحط رحل حاجته وفقره إلى
باب الغنى المطلق ولا يرى
سائر الذين هم مثله فقراء
ومساكين حلاّلين
لمشاكله. فوظيفة السالك
إلى الله هي أن يعرض نفسه
على القرآن الشريف، فكما
أن الميزان في صحة الحديث
وعدم صحته واعتباره وعدم
اعتباره أن يعرض على كتاب
الله فما خالف كتاب الله
فهو باطل وزخرف. كذلك
الميزان في الاستقامة
والاعوجاج والشقاوة
والسعادة هو أن يكون
مستقيماً وصحيحاً في
ميزان كتاب الله، وكما أن
خُلق رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم هو القرآن
فاللازم له أن يجعل خُلقه
موافقاً للقران حتى يكون
مطابقاً لخُلق الوليّ
الكامل أيضاً، والخُلق
الذي يكون مخالفاً لكتاب
الله فهو زخرف وباطل.
وكذلك جميع المعارف
وأحوال قلبه وأعمال
الباطن والظاهر له لا بد
أن يطبّقها على كتاب الله
ويعرضها عليه حتى يتحقق
بحقيقة القرآن ويكون
القرآن له صورة باطنية.
وأنت الكتاب المبين الذي
بأحرفه يظهر المضمر
وفي هذا المقام آداب أخر
قد ذكرنا بعضها في أول
هذه الرسالة في آداب مطلق
العبادات وبعضها مندرج في
هذه الآداب، وذكر بعضها
ينجرّ إلى التطويل، فلهذه
الجملة صرفنا النظر عنه
والله العالم.
في فضل تلاوة القرآن(14)
إن من وصايا الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم الأمر بتلاوة
القرآن
﴿وَعَلَيْكَ
بِتَلاَوَةِ القرآن عَلَى
كُلِّ حَال﴾
وإن عقلنا
القاصر لا يستوعب فضيلة
تلاوة القرآن وحمله
وَتَعَلُّمِهِ والتمسّك
به وملازمتَه والتدَّبر
في معانيه وأسراره. وما
نقل عن أهل بيت العصمة
عليه السلام في ذلك أكثر
من طاقة هذا الكتاب على
استيعابه. ونحن نقتصر على
ذكر بعضها.
الكافي: بإسناده عن أبي
عبد الله عليه السلام قال:
"القرآن عَهْدُ اللَّهِ
إلى خَلْقِهِ فَقَدْ
يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ
المُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ
فِي عَهْدِهِ وَأنْ
يَقْرَأَ مِنْه فِي كُلِّ
يَوْمٍ خَمْسِينَ
آيَةً"131.
وبإسناده عن الزُّهريِّ
قالَ: سَمِعْتُ عَليَّ
بن الحسينِ عليه السلام
يَقولُ: "آيات القرآن
خَزَائِنُ فَكُلَّمَا
فُتِحَتْ خَزِينَةٌ
يَنْبَغِي لَكَ أَنْ
تَنْظُرَ فِيهَا"132.
والمستفاد من هذين
الحديثين أنه حريّ بقرّاء
القرآن التدبّر في آياته
والتفكّر في معانيه، وأن
التمعّن والتأمل في
الآيات الكريمة الإلهية،
واستيعاب المعارف
والحِكَم والتوحيد من
القرآن العظيم، لا يكون
من التفسير بالرأي المنهي
عنه الذي يلتجأ إليه
أصحاب الرأي
والأهواء الفاسدة، الذين
لا يتمسكون برأي أهل بيت
الوحي، المخاطبين بالكلام
الإلهي، كما ثبت ذلك في
محلّه. ولا داعي للولوج
في هذا الموضوع والإسهاب
فيه. ويكفينا قوله تعالى:
﴿أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
القرآن أَمْ عَلَى قُلوبٍ
أَقْفَالها﴾133.
ووردت أحاديث كثيرة
تأمرنا بالرجوع إلى
القرآن والتعمّق في آياته.
فقد نقل عن الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام أنه
قال: "أَلاَ لاَ خَيْرَ
فِي قِرَاءَةٍ لَيْس
فِيهَا تَدَبُّرٌ"134.
وبإسناده عن أبي جعفر
عليه السلام قال: قالَ
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "مَنْ قَرَأَ
عَشْرَ آيات فِي لَيْلَةٍ
لَمْ يُكْتَبْ مِنَ
الغَافِلِينَ، وَمَنْ
قَرَأ خَمْسِينَ آيَةً
كُتِبَ مِنَ الذّاكِرِينَ،
وَمَنْ قَرَأ مَائَةَ
آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
القَانِتِينَ، وَمَنْ
قَرَأَ مائتي آيَةٍ كُتِبَ
مِنَ الخَاشِعِينَ، وَمَنْ
قَرَأَ ثَلاَثْمَائَةِ
آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
الفَائِزِينَ، وَمَنْ
قَرَأ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ
كُتِبَ مِنَ
المُجْتَهِدِينَ، وَمَنْ
قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ
كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ
مِنْ بِرٍّ، القِنْطَارُ
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ
مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ،
وَالمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ قِيراطاً
أَصْغَرُهَا مِثْلُ جَبَلِ
أُحُدٍ وَأَكْبَرُهَا مَا
بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ"135.
وجاء في الأحاديث الكثيرة
أن قراءة القرآن تتمثّل
في صورة بهيّة جميلة تشفع
لأهله وقرّائه. وقد
أعرضنا عن ذكرها.
وفي الحديث عن أبي عبد
اللّه عليه السلام قال:
"مَنْ
قَرَأَ القرآن وَهُوَ
شَابٌّ مُؤْمِنٌ
اخْتَلَطَ القرآن
بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ
وَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةِ
الكِرَامِ البَرَرَةِ
وَكَانَ القرآن حَجِيزاً
عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ
كُلَّ
عَامِل قَدْ أَصَابَ
أَجْرُ عَمَلِهِ غَيْرَ
عَامِلِي فَبَلَّغ بِهِ
أَكرَمَ عَطَايَاكَ قَالَ
فَيَكْسُوهُ اللَّهُ
العَزِيزُ الجَبَّارُ
حُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَّلِ
الجَنَّةِ وَيُوضَعُ
عَلَى رَأسِهِ تَاجُ
الكَرَامَةِ، ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ هَلْ
أَرْضَيْنَاكَ فِيهِ؟
فَيَقُولُ القرآن يَا رَبِّ
قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ لَهُ
فِيمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ
هَذَا فَيُعْطِي الأَمْنَ
بِيَمِينِهِ وَالخُلْدَ
بِيَسَارِهِ ثُمَّ
يَدْخُلُ الجَنَّة
فَيُقَالُ لَهُ إِقْرَأ
وَاصْعَدْ دَرَجَةً ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ هَلْ
بَلَغَنَا بِهِ
وَأَرْضَيْنَاكَ فَيَقُولُ
نَعَمْ"136.
وفي نفس الحديث عن الإمام
الصادق عليه السلام: "وَمَنْ
قَرَأَهُ كَثِيراً
وَتَعَاهَدَهُ بِمَشَقَّةٍ
مِنْ شِدَّةِ حِفْظِهِ
أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ
وجَلَّ أَجْرَ هذَا
مَرَّتَيْنِ"137.
ويتبين من هذا الحديث
الشريف أن المطلوب من
تلاوة القرآن الكريم هو
تأثيره في أعماق قلب
الإنسان، وصيرورة باطنه
صورة كلام الله المجيد،
وتحويل ما هو ملكة القلب
من القرآن الكريم إلى
التحقق والفعلية وذلك حسب
ما ورد في الحديث المذكور
"مَنْ قَرَأَ القرآن
وَهُوَ شَابٌ مُؤْمِنٌ
اخْتَلَطَ القرآن
بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ" حيث
يكون كناية عن استقرار
صورة القرآن في فؤاده،
بدرجة يتحول باطن الإنسان
حسب استعداده وأهليته،
إلى كلام الله المجيد
والقرآن الكريم.
وفي حَمَلَةِ القرآن من
تحوّل تمام باطنه إلى
حقيقة الكلام الجامع
الإلهي، والقرآن الجامع
والفرقان القاطع، وذلك
مثل الإمام علي بن أبي
طالب والمعصومين من
أولاده الطاهرين عليهم
السلام، حيث يكون وجودهم
آيات طيبات إلهية وآيات
الله العظمى، والقرآن
التامّ والتمام. بل إن
هذا هو
المطلوب من جميع العبادات
كما أنه من الأسرار
الهامة للعبادات، وأن
تكرار الصلاة من أجل
تحقيق هذه الحقائق
العبادية، وتحويل ذات
الإنسان وقلبه إلى صورة
العبادة.
وفي الحديث "أَنَّ
عَلِّياً عليه السلام
صَلاَةُ المُؤْمِنِينَ
وَصِيَامُهم"138.
في بيان أن العبادة
تؤثر في الشباب(15)
ويتم بالقرآن الكريم
التأثر القلبي والتحوّل
الباطني بصورة أفضل فترة
الشباب، لأن قلب الفتى
لطيف وبسيط وذو نقاء
وصفاء أكثر. وأن وارداته
قليلة، وتضارب الأفكار
وتهافتها فيه قليل. فيكون
شديد الانفعال والتأثر
وسريع التقبّل.
إذن يجب على الشباب حتى
إذا كانت قلوبهم مطمئنة
بالإيمان، أن ينتبهوا إلى
كيفية تفاعلهم وعِشرتهم
مع الآخرين، ويتورّعوا عن
الاختلاط مع السيئين. بل
إن الصداقة والاختلاط مع
العصاة وذوي الخلق الفاسد
والسلوك المنحرف مسيء
لجميع الناس من أي طبقة
كانوا، ويجب أن لا يكون
أحد مطمئناً بنفسه
ومغروراً بإيمانه أو
أخلاقه وأعماله. كما ورد
في الأحاديث الشريفة
الأمر بالابتعاد عن
معاشرة أهل المعصية.
في آداب تلاوة القرآن(16)
وملخص القول إن المبتغى
من خلال تلاوة القرآن هو
ارتسام صورة القرآن في
القلب، وتأثير الأوامر
والنواهي فيه، وتثبيت
الأحكام والتعاليم
الإلهية. ولا يتحقق هذا
إلا في ظل مراعاة آداب
القراءة. وليس الهدف من
الآداب ما هو المعروف لدى
بعض القُرّاء من الاهتمام
البالغ بمخارج الألفاظ،
وأداء الحروف، هذا
الاهتمام الباعث مضافاً
إلى الغفلة عن المعاني
والتدبر فيها، إلى إبطال
التجويد بعض الأحيان، فإن
كثيراً من الكلمات
القرآنية نتيجة مثل هذا
التجويد، تفقد صورتها
الخلاّبة الأصيلة، وتتحول
إلى صورة أخرى، ذات صورة
ومادة تختلف عما أرادها
الله تعالى. إن هذا
يُعتبر من مكائد الشيطان
حيث يلتهي الإنسان المؤمن
إلى آخر عمره بألفاظ
القرآن، وينسى نهائياً
استيعاب سرِّ نزول القرآن،
وحقيقة الأوامر والنواهي،
والدعوة إلى المعارف
الحقة، والخلق الفاضل
الحسن، بل ينكشف لديه بعد
مضي خمسين عاماً أنه من
جرّاء تغليظ بعض الحروف،
والتشديد فيها، قد أخرج
صورة بعض الكلمات كلياً
عن حالتها الطبيعية
وأصبحت ذات صورة غريبة.
بل الهدف المنشود من وراء
آداب قراءة القرآن، تلك
الآداب التي
وردت في الشريعة المقدسة
والتي يعدّ من أفضلها
وأعظمها التفكر والتدبر
في آيات القرآن كما تقدمت
الإشارة إلى ذلك.
في الكافي الشريف بسنده
إلى الإمام الصادق عليه
السلام قال "إِنَّ هذَا
القرآن فِيهِ مَنَارُ
الهُدى وَمَصَابِيحُ
الدُّجى، فَلْيَجُلْ جَالٍ
بَصَرَهُ وَيَفْتَحْ
لِلضِّيَاءِ نَظَرَهُ،
فَإِنَّ التَّفَكُّر
حَياةُ قَلْبِ البَصِيرِ
كَمَا يَمْشِي
المُسْتَنِيرُ فِي
الظُّلُمَاتِ
بِالنُّورِ"139.
وفي المجالس بإسناده عن
أمير المؤمنين عليه
السلام في كلامٍ طويلٍ في
وَصْفِ المتَّقِينَ: "وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا
تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا
إِلَيْهَا مَسَامِعَ
قُلُوبِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ
فَاقْشَعَرَّتْ مِنْهَا
جُلُودُهُمْ وَوَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ فَظَنُّوا
أَنَّ صَهِيلَ جَهَنَّمَ
وَزَفِيرَهَا
وَشَهِيقَهَا فِي أصولِ
آذَانِهِمْ، وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا
تَشْويقٌ رَكَنُوا
إِلَيْهَا طَمَعاً
وَتَطَلَّعَتْ
أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهَا
شَوْقاً وَظَنُّوا
أَنَّهَا نُصْبَ
أَعْيُنِهِمْ"140.
ومن الواضح أن من يتمعّن
ويتدبر في معاني القرآن
الكريم، يتأثر قلبه،
ويبلغ مقام المتقين شيئاً
فشيئاً. وإن حظي بتوفيق
وسداد من الله، لَتجاوز
هذا المقام أيضاً
ولَتحوّل كل عضو وجارحة
وقوة منه إلى آية من
الآيات الإلهية، ولعلّ
جَذَوَاتَ خطاب الله
وجذباته، ترفعه وتبلغ به
إلى مستوى إدراك حقيقة "اقْرَأ
وَاصْعَدْ"141 في هذا
العالم وانتهى إلى مرحلة
سماع الكلام من المتكلم
من دون واسطة، وتحوّل إلى
موجود لا يسع الإنسان
فهمه واستيعابه.
الإخلاص في القراءة(17)
ومن الآداب اللازمة في
قراءة القرآن، والتي لها
دور أساسي في التأثير في
القلب والتي لا يكون من
دونها لأي عمل أهمية وشأن،
بل يعتبر ضائعاً وباطلاً
وباعثاً على السخط الإلهي.
هو الإخلاص، فإنه ركن
أصيل للانطلاق إلى
المقامات الأُخروية، ورأس
مال في التجارة الأخروية.
وقد ورد في هذا الباب
أيضاً أخبار كثيرة من أهل
بيت العصمة عليهم السلام:
منها ما حدثنا الشيخ
الكليني رضوان الله تعالى
عليه:
بإسناده عن أبي جعفر عليه
السلام قال: "قُرّاءُ
القرآن ثَلاَثَةُ: رَجُلٌ
قَرَأَ القرآن
فَاتَّخَذَهُ بِضَاعَةً
وَاسْتَدَرَّ بِهِ
المُلُوكَ وَاسْتَطَالَ
بِهِ عَلَى النَّاسِ.
وَرَجُلٌ قَرَأَ القرآن
فَحَفِظَ حُرُوفَهُ
وَضَيَّعَ حُدُودَهُ
وَأَقَامَهُ إِقَامةَ
القَدَحِ، فَلاَ كَثَّرَ
اللَّهُ هؤُلاَءِ مِنْ
حَمَلَةِ القرآن. ورَجُلٌ
قَرَأ القرآن فَوَضَعَ
دَوَاءَ القرآن عَلَى
دَاءِ قَلْبِهِ فَأَسْهَرَ
بِهِ لَيْلَهُ وَأَظْمَأَ
بِهِ نَهَارَهُ وَقَامَ
بِهِ فِي مَسَاجِدِهِ
وَتَجَافَى بِهِ عَنْ
فِرَاشِهِ، فَبِأُوْلئِكَ
يَدْفعُ اللَّهُ العَزِيزُ
الجَبَّارُ البَلاَءَ،
وَبِأُولئِكَ يُدِيلُ
اللَّهُ مِنَ الأَعْدَاءِ،
وَبِأُولئِكَ يُنْزِلُ
اللَّهُ الغَيْثَ مِنَ
السَّمَاءِ، فَوَاللَّهِ
لَهؤُلاَءِ فِي قُرّاءِ
القرآن أَعَزُّ مِنَ
الكِبْرِيتِ
الأَحْمَرِ"142.
وعن "عقاب الأعمال"
بإسناده عن أبي عبد الله
عليه السلام، عن أبيه
عليه السلام، عن أبائه
عليهم السلام قال: "مَنْ
قَرَأَ القرآن يَأْكُلُ
بِهِ النَّاسَ جَاءَ
يَوْمَ القِيَامَةِ
وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لاَ
لَحْمَ فِيهِ"143.
وبإسناده عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
في حديث قالَ: "مَنْ
تَعَلَّمَ القرآن فَلَمْ
يَعْمَلْ بِهِ وَاثَرَ
عَلَيْهِ حُبَّ
الدُّنْيَا وِزِينَتَهَا
اسْتَوْجَبَ سَخَطَ
اللَّهِ وَكَانَ فِي
الدَّرَجَةِ مَعَ اليَهودِ
وَالنَّصَارَى الَّذِين
يَنْبِذُونَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاء
ظُهُورِهِمْ.
وَمَنْ قَرَأَ القرآن
يُرِيدُ بِهِ سُمْعَةً
وَالتِمَاسَ الدُّنْيَا
لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ
عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ
لَحْمٌ وَزَجَّ القرآن
فِي قَفَاهُ حَتَّى
يُدْخِلَهُ النَّارَ
وَيَهْوَى فِيهَا مَعَ
مَنْ هَوَى.
وَمَنْ قَرَأَ القرآن
وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ
حَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى
فَيَقُولُ: "يَا رَبِّ
لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً،
قَالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذلِكَ اليَوْمَ
تُنْسَى" فَيُؤْمَرُ بِهِ
إلى النَّارِ.
وَمَنْ قَرَأَ القرآن
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ
وَتَفَقُّهاً فِي الدِّينِ
كَانَ لَهُ مِنَ
الثَّوَابِ مِثْلُ جَمِيعِ
مَا أُعْطِي المَلاَئِكَةُ
وَالأَنْبِيَاءُ
وَالمُرْسَلُونَ.
وَمَنْ تَعَلَّمَ القرآن
يُرِيدُ بِهِ رِياءً
وَسُمْعَةً لِيُمَارِيَ
بِهِ السُّفَهَاءَ
وَيُبَاهِيَ بِهِ
العُلَمَاءَ وَيَطْلُبَ
بِهِ الدُّنْيَا بَدَّدَ
اللَّهُ عِظَامَهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَلَمْ يَكُنْ
فِي النَّارِ أَشَدُّ
عَذَاباً مِنْهُ، وَلَيْسَ
نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ
العَذَابِ إلاَّ
سَيُعَذَّبُ بِهِ مِنْ
شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَخَطِهِ.
وَمَنْ تَعَلَّمَ القرآن
وَتَوَاضَعَ فِي العِلْمِ
وَعَلَّمَ عِبَادَ اللَّهِ
وَهُوَ يُرِيدُ مَا عِنْدَ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ فِي
الجَنَّةِ أَعْظَمُ
ثَوَاباً مِنْهُ وَلاَ
أَعْظَمُ مَنْزِلةً مِنْهُ
وَلَمْ يَكُنْ فِي
الجَنَّةِ مَنْزِلٌ وَلاَ
دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ وَلاَ
نَفِيسَةٌ إلاَّ وَكَانَ
لَهُ فِيهَا أَوْفَرُ
النَّصِيبِ وَأَشْرَفُ
المَنَازِلِ"144.
في معنى الترتيل(18)
ومن آداب قراءة القرآن
الكريم التي تبعث على
التأثير في النفس، ويجدر
بالقارئ أن يراعيها، هو
الترتيل في التلاوة، وهو
كما في الحديث عبارة عن
الحد الوسط بين السرعة
والعجلة من جهة، والتأني
والفتور المفرطين
الموجبين لتفرّق الكلمات
وانتشارها من جهة أخرى.
عن محمَّدِ بن يعقوبَ
بإسناده عن عبد اللَّه بن
سليمان قالَ: "سَأَلْتُ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
عليه السلام عَنْ قَوْلِ
اللهِ تعالى:
﴿وَرَتِّلْ
القرآن تَرْتِيلاً﴾ قالعليه
السلام : قال أميرُ
المُؤْمِنِينَ عليه
السلام: تَبَيَّنْهُ
تِبْياناً (تَبْييناً خ
ل) وَلاَ تَهُدَّهُ هَدَّ
الشِّعْرِ وَلاَ
تَنْثُرْهُ نَثْرَ
الرَّمْلِ وَلكِنْ
أَفْرِغُوا قُلُوبَكُمُ
القَاسِيَةَ وَلاَ يَكُنْ
هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ
السُّورَةِ"145 (أي لا
يكن هدفكم ختم القرآن في
أيام معدودة أو الإسراع
في قراءة السورة والبلوغ
إلى آخرها).
فالإنسان الذي يريد أن
يتلو كلام الله، ويداوي
قلبه القاسي، ويشفي
أمراضه القلبية من خلال
قراءته للكلام الجامع
الإلهي، ويطوي مع نور
هداية هذا المصباح الغيبي
المنير، وهذا النور على
النور السماوي، طريق
الوصول إلى المقامات
الأخروية والمدارج
الكمالية، لا
بد لهذا الإنسان من توفير
الأسباب الظاهرية
والباطنية والآداب
الصورية والمعنوية. أما
أمثالنا عندما نقرأ
القرآن بعض الأحيان،
فمضافاً إلى أننا نغفل
نهائياً عن معاني الآيات
الكريمة، وأهدافها
السامية وأوامرها
ونواهيها ووعظها وزجرها،
وكأنّ آيات الجنّة
ونعيمها، وآيات جهنم
والعذاب الأليم، لا
تعنينا، بل نعوذ بالله
يكون انتباهنا وتوجّه
قلوبنا عند قراءة الكتب
القصصية أكثر من توجهنا
حين تلاوتنا للآيات
المجيدة، مضافاً إلى ذلك
فإننا في غفلة حتى عن
الآداب الظاهرية لقراءة
القرآن الكريم.
وقد ورد في الأحاديث
الشريفة، الأمر بقراءة
القرآن بصوت حزين وجميل
"وَعَنْ
أَبِي الحَسَنَ عليه
السلام قَالَ ذَكَرْتُ
الصَّوتَ عِنْدُهُ فَقالَ
إِنَّ عَلي بنُ الحُسين
عليه
السلام كَانَ يَقْرأُ
فَرُبّمَا مَرَّ بِهِ
المارّ فَصَعِقَ مِنْ
حُسْنِ صَوْتِه، وَأَنَّ
الإِمَامَ لَوْ أَظْهَرَ
مِنْ ذلِكَ شَيئاً لَمَا
احْتَمَلَهُ النَّاسُ مِنْ
حُسْنِهِ"146 ونحن عندما
نريد أن نُري للناس صوتنا
الحسن وأنغامه الجميلة،
نلتجأ إلى قراءة القرآن
أو الأذان، من دون أن
نستهدف تلاوة القرآن
والعمل بهذا الاستحباب.
وعلى كل حال إن مكائد
الشيطان وأضاليل النفس
الأمارة كثيرة، وغالباً
ما يلتبس الحق بالباطل،
والحسن بالقبيح، فيجب أن
نلوذ بالله سبحانه ونعوذ
به من هذه الأَشْرَاكَ
والأفخاخ.
التوصية بالأنس
بالقرآن وتحقيق وتعريف
أبعاده المختلفة(19)
نذكر الزوار المحترمين أن
لا يغفلوا في هذه المواقف
المعظمة وطوال سفرهم إلى
مكة المكرمة والمدينة
المنورة عن الأنس بالقرآن
الكريم هذه الصحيفة
الإلهية وكتاب الهداية
فما لدى المسلمين الآن
وما سيكون لديهم على
امتداد تاريخ الماضي
والمستقبل هو من بركات
هذا الكتاب المقدس الغنية
وهذه الفرصة فأطلب من
جميع العلماء الأعلام
وأبناء القرآن والمفكرين
القديرين أن لا يغفلوا
على الكتاب المقدس الذي
هو تبيان كل شيء وصادر
من مقام الجمع الإلهي
ليسطع في قلب النور الأول
وظهور جمع الجمع147.
إن هذا الكتاب الإلهي
الذي هو صورة عينية
وكتبية عن جميع الأسماء
والصفات والآيات والبينات
وتقصر أيدينا عن مقاماته
الغيبية ولا أحد يطلع على
أسراره غير وجود الأقدس
الجامع (من خوطب به) وقد
أخذه ببركة تلك الذات
المقدسة وبتعليمه لهم
خلّص الأولياء
العظام واستفاد خلص أهل
المعرفة بشعاع منه وبحسب
قابليتهم ومراتب سيرهم
وذلك بالمجاهدات
والرياضات القلبية. والآن
وبعد أن أصبحت صورته
الكتبية في متناولنا بعد
أن نزلت بلسان الوحي على
مراحل ومراتب من دون
زيادة أو نقصان وحتى لو
حرف واحد.
فلا قدر الله أن يهجر مع
أن أبعاده المختلفة
والمراحل والمراتب في كل
بعد بعيدة عن متناول
البشر العاديين، لكن
يستخلص أهل المعرفة
والتحقيق في الفروع
المختلفة وبيانات ولغات
متفاوتة ما يمكن فهمه من
خزانة العرفان الإلهي
اللامتناهية ومن بحر
الكشف148 المحمدي المواج،
وذلك حسب علمهم ومعرفتهم
وقابليتهم وليقدموها
للآخرين. وكذلك أصحاب
الفلسفة والعرفان
فليبحثوا في الرموز
الخاصة بهذا الكتاب
الإلهي وليحلوا بإشاراته
تلك المسائل العميقة
القديمة والبراهين
الإلهية الفلسفية
وليضعوها في متناول أهلها.
وليقدم الفضلاء أصحاب
الآداب القلبية
والمراقبات الباطنية جرعة
هدية منهم مما قد نالوه
من قلب العوالم (أدبني
ربي) لعطاشى هذا الكوثر
وليؤدبونهم بآداب الله في
الحد الميسور. وليقدم
المتقين المتعطشين
للهداية بارقة من نور
التقوى من عين "هدى
للمتقين" النابعة
للعاشقين المحترمين
لهداية الله عز وجل.
وأخيراً فلتعمل كل طائفة
من العلماء الأعلام
والمفكرين العظماء على
بعد من الأبعاد الإلهية
لهذا الكتاب المقدس،
وليحملوا الأقلام ويحققوا
أمنية عاشقي القرآن
وليصرفوا أوقاتهم على
الأبعاد السياسية
والاجتماعية
والاقتصادية والعسكرية
والثقافية والحرب والسلام
في القرآن الكريم. ليصبح
معلوماً أن هذا الكتاب
مصدر كل شيء. من العرفان
والفلسفة حتى الأدب
والسياسة لكي لا يقول
الجهلة، إن العرفان
والفلسفة من صنع الخيال
والوهم. والرياضة والسير
والسلوك من أعمال
الدراويش. أو ما دخل
الإسلام بالسياسة
والحكومة وإدارة البلاد.
وإن هذا عمل السلاطين
ورؤساء الجمهوريات وأهل
الدنيا. أو أن الإسلام
دين صلح ومسالمة ويتبرئ
حتى من حرب الظالمين، وقد
جلبوا للقران ما جلبته
الكنيسة الجاهلة
والسياسيين الماكرين لدين
المسيح العظيم.
أيتها الحوزات العلمية
وجامعات أهل التحقيق
قوموا وأنقذوا القرآن
الكريم من شر الجاهلين
المتنسكين والعلماء
المتهتكين الذين هاجموا
ويهاجمون القرآن عمداً
وعن علم فإنني أقول بشكل
جدي وليس (للتعارف العادي)
أني أتأسف لعمري الذي ذهب
هباءً في طريق الضلال
والجهالة. وأنتم يا أبناء
الإسلام الشجعان أيقظوا
الحوزات والجامعات
للالتفات إلى شؤون القرآن
وأبعاده المختلفة جداً.
واجعلوا تدريس القرآن في
كل فروعه مد نظركم وهدفكم
الأعلى. لئلا لا قدر الله
أن تندموا في آخر عمركم
عندما يهاجمكم ضعف
الشيخوخة على أعمالكم
وتتأسفوا على أيام الشباب.
كالكاتب نفسه.
|