أهداف الدرس:
1- أن يتعرّف الطالب إلى
عصر الإمام عليّ عليه
السلام.
2-أن يتبيّن أحداث
السقيفة وموقف الإمام
عليه السلام منها.
3- أن يتبيّن كيفيّة
مواجهة الإمام عليه
السلام للانحراف السياسيّ.
تمهيد
ينقسم عصر الإمام عليّّ
عليه السلام إلى عهدين
متميّزين هما: عهد
الخلفاء الثلاثة، وعهد
حكومته عليه السلام.
ويبدأ الأوّل منهما بوفاة
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في الثامن
والعشرين من صفر سنة 11
هجرية وينتهي بمقتل عثمان،
ويبدأ الثاني منهما
بالبيعة له على الحكم
والقيادة المباشرة للدولة
والأمّة الإسلاميّة
وينتهي باستشهاده عليه
السلام.
وعلى الرغم من الجهود
العظيمة الّتي بذلها
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم في تربية
الأمّة وإعداد أفرادها
لتحمّل المسؤوليّات،
وتأسيسه للدولة
الإسلاميّة، إلّا أنّ
غيابه صلى الله عليه وآله
وسلم ترك فراغاً كبيراً
لا سيّما مع وجود خطّ
النفاق واستفحاله، كما أنّ
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم لم يألُ جهداً
في تهيئة الأرضية
السياسيّة والاجتماعيّة
اللازمة للخليفة من بعده،
وتأكيده الدائم على
الولاية للإمام عليّ عليه
السلام بأمرٍ من الله
تعالى، لكنّ ذلك كلّه لم
يمنع من نشوء وظهور عوامل
يُخشى معها أن تؤدّي إلى
انهيار الدولة الإسلاميّة
وضياع الرسالة المطهّرة.
لذلك كان على الإمام عليّّ
عليه السلام - وهو
المؤتمن من الله تعالى
ورسوله
الكريم صلى الله عليه
وآله وسلم
- أن يحافظ على
كلّ ثمار الرسالة الخاتمة
بما فيها دولة الرسول
وأمّته، وصيانة الرسالة
والشريعة من أيّ تحريف
وتزييف وضياع.
أحداث السقيفة
توفّي رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ولم يكن
حوله في اللحظات الأخيرة
من حياته سوى عليّ عليه
السلام وبني هاشم. وقد
علم الناس بوفاته من
الضجيج والعويل، فأسرعوا
وتجمّعوا في المسجد
وخارجه، وإذا بموقف غريب
يصدر عن عمر بن الخطاب1 إذ خرج بعد أن دخل على
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم والسيف في يده
يهزّه ويقول: إنّ رجالاً
من المنافقين يزعمون أنّ
رسول الله قد مات، إنّه
والله ما مات ولكنّه ذهب
إلى ربّه كما ذهب موسى بن
عمران2 . ولم يهدأ عمر
حتّى وصل أبو بكر إلى بيت
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فكشف عن وجه
النبيّ وخرج مسرعاً، وقال:
أيّها الناس، من كان يعبد
محمّداً فإنّ محمّداً قد
مات، ومن كان يعبد الله
فإنّ الله حيّ لا يموت.
وفي الوقت الّذي كان فيه
الإمام عليّّ عليه السلام
وأهل بيته يقومون بتجهيز
النبيّ والصلاة عليه
ودفنه، كانت جماعة من
الأنصار تجتمع في سقيفة
بني ساعدة لتدبير أمر
الخلافة برئاسة سعد بن
عبادة زعيم الخزرج3
، وخرج إليهم أبو بكر وعمر
ومعهما أبو عبيدة ومن ثمّ
لحقهم آخرون.
وانقسم الناس إلى فريقين:
الحزب القرشيّ أو
المهاجرين، والأنصار،
وتنازعوا في أمر الخلافة،
وكلّ فريق يدّعي بأنّ
الأحقيّة له.
وكانت حجّة الحزب القرشيّ
في السقيفة ضدّ الأنصار
مبنيّة على أمرين:
1- أنّ المهاجرين أوّل
الناس إسلاماً.
2- أنّهم أقرب الناس إلى
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأمسّهم به
رحماً.
وقد أدان هؤلاء أنفسهم
بهذه الحجّة، وذلك لأنّ
الخلافة إذا كانت بالسبق
إلى الإسلام والقرابة
القريبة من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ـ
كما يدّعون ـ فهي للإمام
عليّ عليه السلام وحده،
لأنّه أوّل الناس إسلاماً
وإيماناً وتصديقاً
بالرسالة الإسلاميّة،
وأخوه بمقتضى المؤاخاة،
وابن عمّه نسباً وأقرب
الناس إلى نفسه وقلبه بلا
شكّ في ذلك.
أمّا الأنصار فلم يكونوا
على رأيٍ واحد، ولم يحضر
في هذا اللقاء خيارهم،
وهم البدريّون من أمثال:
أبي أيوب الأنصاريّ،
حذيفة بن اليمان، عبادة
بن الصامت.
ونقل عن الإمام عليّ عليه
السلام أنّه قال في شأن
الخلافة: "واعجباً أتكون
الخلافة بالصحابة، ولا
تكون بالصحابة والقرابة"،
ويروى عنه عليه السلام
شعر في هذا المعنى:
فإن كنت بالشورى ملكت
أمورهم
فكيف بهذا والمشيرون
غُيَّبُ
وإن كنت بالقُربى حججت
خصيمهم
فغيرك أولى بالنبي وأقرب4
هذا مع العلم أنّ الأنصار
- وهم الثقل الأكبر في
جمهور المسلمين - كانوا
يعلمون جيّداً النصوص
النبويّة ويحفظونها في
شأن العترة الطاهرة، وقد
شهدوا تنصيب الإمام عليّ
عليه السلام في غدير خم،
وأوصاهم النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم به وبأهل
بيته عليهم السلام. لكنّ
المرجّح أنّ مسارعة بعضهم
إلى عقد الاجتماع في
السقيفة هو لعلمهم المسبق
بنوايا قريش في صرف
الخلافة عن صاحبها الشرعيّ
وهو الإمام عليّ عليه
السلام، وتخوّفهم من
العزلة السياسيّة
والإدارية. وممّا يؤيّد
هذا أنّ قرارات الأنصار
لم تكن حاسمة، وكانوا
متردّدين في الكلام، لكنّ
موقفهم ولقاءهم في
السقيفة هيّأ
الفرصة
السياسيّة الثمينة لذلك
الجناح والفريق المترقّب
للفوز بالسلطة، ففُتح باب
الصراع على مصراعيه بعيداً
عن القيم والأحكام
الإسلاميّة؛ إذ قدّمت فيه
الحسابات القبليّة على
الحسابات الشرعيّة، وعلى
مصلحة الرسالة.
وعلى كلّ حال، فإنّ
النتيجة الّتي أسفر عنها
اجتماع السقيفة هي تحويل
مسار الخلافة عن صاحبها
بعد جدالٍ طويل ونقاش بين
الفريقين.
ملامح مخطّط إقصاء الإمام
عليه السلام عن الخلافة
نلاحظ أنّ هناك مخطّطاً
محكماً لدى الخطّ المناوئ
لعليّ عليه السلام لأخذ
الخلافة منه من خلال ما
يلي:
1- بقاؤهم في المدينة
وتخلّفهم عن جيش أسامة،
وذلك عندما عرفوا بمرض
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم.
2- حضورهم الدائم قرب
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ومحاولتهم
الحيلولة دون حصول شيء
يدعم ولاية الإمام عليّ
عليه السلام، فكان الشغب
في مجلس النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم تحت
الشعار الّذي رفعه عمر بن
الخطاب: "حسبنا كتاب الله"،
ثمّ اتّهام النبيّ
المعصوم صلى الله عليه
وآله وسلم بغلبة الوجع
عليه وأنّه يهجر5 .
3- السرعة في البتّ
بموضوع الخلافة وإتمام
البيعة، عبر استغلالهم
الفرصة بانشغال الإمام
عليّّ عليه السلام وبني
هاشم بمراسم تجهيز النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
ودفنه.
4- سعيهم لتحييد الأنصار
وإبعادهم عن ميدان
التنافس السياسيّ بدعوى
أنّهم ليسوا عشيرة النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم.
5- الترتيب في أخذ البيعة
أوّلاً من الأنصار، لأنّ
قريشاً لو بايعت الخليفة
الجديد؛ لما كان لبيعتها
أدنى قيمة واقعية، ولأمكن
للإمام عليه السلام فيما
بعد أن يقيم الحجّة على
قريش.
وعلى الرغم من محاولات
هؤلاء في كسب أصوات
المسلمين بقيت ثلّة من
المهاجرين والأنصار إلى
جانب الإمام عليّّ عليه
السلام، ولم يخضعوا
لإرهاب الحزب المسيطر،
ومن هؤلاء العبّاس عمّ
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم.
ولجأ هؤلاء لفرض رأيهم
وسلطتهم على الإمام عليه
السلام ومن معه، إلى درجة
أنّهم هاجموا بيت الإمام
عليّّ عليه السلام مع
علمهم بوجود فاطمة
الزهراء عليها فيه،
وأضرموا النار به6 لإخراج
من فيه وأخذ البيعة منهم
بالقوّة.
موقف الإمام عليه
السلام من اجتماع السقيفة
لم يكن الإمام عليّّ عليه
السلام طامعاً وساعياً في
استلام الخلافة والتربّع
على عرشها مثل الآخرين،
إذ كان همّه الأوّل
والأخير تثبيت دعائم
الإسلام ونشره، وإعزاز
الدِّين وأهله، وإظهار
عظمة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم وحثّ
الناس على الاقتداء
بمنهجه، وهو المؤهّل
للخلافة رساليّاً
والمبايَع بها قبل سبعين
يوماً من وفاة
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم. إلّا أنّ نفوس
القوم أضمرت ما ينافي
وصايا نبيّهم في غزوتي
أُحد وحنين وغيرهما،
وأغراهم الطمع في سلطان
الإسلام بغيرِ حقّ فتركوا
نبيّهم مطروحاً بلا دفن،
كما تركوه وفرّوا عنه في
حياته عند الشدائد
والهزاهز.
وقد استفاضت النصوص
الواردة عن الإمام عليه
السلام الّتي تفصح عن
حقيقة ما جرى بعد النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم
من الانحراف السياسيّ،
وتكشف النقاب عن أسباب
هذا الانحراف بشكلٍ لا
يدع مجالاً للريب في صحّة
ما ذكرناه، وفي صوابيّة
موقف الإمام عليه السلام
الّذي يستند إلى دليل
واضح وبرهان ثاقب. فمن
هذه النصوص:
قوله عليه السلام في
الخطبة الشقشقيّة: "
أما والله لقد تقمّصها7
ابن أبي قحافة، وإنّه
ليعلَمُ أنّ محلّي منها
محلّ القطب من الرحى"8 .
وحين سأله بعض أصحابه:
كيف دفعكم قومكم عن هذا
المقام وأنتم أحقّ به؟!
قال عليه السلام: "...
أمّا الاستبداد علينا
بهذا المقام ونحن الأعلون
نسباً والأشدّون برسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم نوطاً9 ؛ فإنّها كانت
أثرةً شحّت عليها نفوس
قومٍ وسخت عنها نفوس
آخرين، والحَكَم الله،
والمعْوَد إليه القيامة"10
.
وقال عليه السلام: "اللّهم
إنّي أستعديك على قريش
ومن أعانَهم، فإنّهم
قطعوا رَحِمي وصغّروا
عظيم منزلتي وأجمعوا على
منازعتي أمراً هُوَ لي"11 .
وتضمّنت هذه النصوص
التصريح بعدّة حقائق
مهمّة:
1- أنّ الخلافة هي حقّ
الإمام عليه السلام دون
غيره.
2- أنّ هناك من حاول
تقمّص منصب الخلافة بغير
حق.
3- أنّ قريشاً مع من
أعانهم هم الّذين خطّطوا
للاستيلاء على الخلافة
ومنازعة الإمام عليّّ
عليه السلام.
4- أنّهم أبعدوا أمير
المؤمنين عليه السلام عن
شؤون الخلافة واستأثروا
بها.
هذا فضلاً عن غيرها من
النصوص الكثيرة الّتي
تضمّنت مثل هذه المعاني
والحقائق.
ومن هنا يتّضح للباحث
وجود خطّين فكرييّن،
وسلوكين متضاربين:
أحدهما: يرى أنّ
استلام السلطة إنّما هو
وسيلة لتحقيق القيم
العُليا، ولا تُسحق القيم
من أجل الوصول إلى السلطة،
وأنّ الحقّ هو الأحقّ
بالاتّباع دون غيره.
الثاني: يرى
استلام السلطة هدفاً أعلى،
والقيمَ وسائلَ قد تخدم
هذا الهدف وقد لا تخدمه،
ولا ضرورة للخضوع لها.
وقد تَمثّل الخطّ الأوّل
في سلوك الإمام عليّ عليه
السلام، والأئمّة من بنيه
عليهم السلام على أكمل وجه،
بينما تمثّل الخطّ الثاني
في من ناوأهم.
الإمام عليّّ عليه
السلام ومضاعفات السقيفة
برزت المواقف الساخطة على
ما نجمت وأسفرت عنه حادثة
السقيفة، فوقف الصفوة
الأبرار من الصحابة مع
الإمام عليّّ عليه السلام
في المطالبة بحقّه الشرعيّ
في الخلافة، واحتجّوا
بصلابة وثقة وعلانية،
بالحجّة والبرهان
والأدلّة
الشرعيّة، ومن هؤلاء
خزيمة بن ثابت وسهل بن
حنيف وعمّار بن ياسر حيث
قال: "يا معاشر المسلمين!
إن كنتم علمتم وإلّا
فاعلموا أنّ أهل بيت
نبيّكم أولى به وأحقّ
بإرثه وأقوم بأمور
الدِّين... فمروا صاحبكم
فليردّ الحقّ إلى أهله...".
وكما أشرنا سابقاً فإنّ
القوم حاولوا إرغام
الإمام عليه السلام وقسره
على البيعة، فأرسلوا قوّة
عسكرية أحاطت بداره
ودخلوها بعنف12 ، وأخرجوه
منها بصورةٍ لا تليق
بمكانته، وجيء به إلى أبي
بكر، فصاحوا به بعنف:
بايع أبا بكر، فأجابهم
عليه السلام بمنطق الواثق:
"أنا أحقّ بهذا الأمر
منكم، لا أبايعكم وأنتم
أولى بالبيعة لي.. نحن
أولى برسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حيّاً
وميتاً، فأنصفونا إن كنتم
تؤمنون..."13 .
ووقف الإمام عليّ عليه
السلام عند مفترق طرق، في
كلٍّ منها حرج شديد على
نفسه:
1- أن يبايع أبا بكر دون
ممانعة، فيحفظ وجوده
ويسلم من أذاهم، وهذا غير
ممكن لأنّه يعني إمضاءه
عليه السلام لبيعة أبي
بكر وخلافته.
2- أن يسكت وفي العين قذى
وفي الحلق شجا، ويصبر ما
دام الجور عليه خاصّة.
3- أن يعلن الثورة على
خلافة أبي بكر.
فما كان من الإمام عليّّ
عليه السلام سوى أن يختار
الطريق الثاني ليحقّق
أكبر قدرٍ ممكن من
الأهداف الرساليّة الّتي
جعله الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم وصيّاً
عليها.
ولا ينبغي للباحث أن يغفل
عن موقف الإمام عليّّ
عليه السلام من أبي سفيان
الّذي
عرض على الإمام عليه
السلام البيعة له، فواجهه
عليه السلام بالرفض وذلك
لعِلم الإمام عليه السلام
بنواياه الخبيثة. وكان
للأمويّين مطمع سياسيّ
كبير في نيل نصيب مرموق
من الحكم، واسترجاع شيء
من زعامتهم في الجاهلية،
ومن هنا فإنّهم عندما
عارضوا نتائج السقيفة لم
يعبأ الحاكمون بمعارضتهم
ولا بتهديدات أبي سفيان
وما أعلنه من كلمات
الثورة لعلمهم بطبيعة
النفس الأمويّة وشهواتها
السياسيّة والماديّة،
فكان من السهل كسب
الأمويّين إلى جانب الحكم
القائم كما صنع أبو بكر
فأباح لنفسه، أو أباح
لعمر بتعبير أصحّ كما
يذكر المؤرخون14 ، أن يدفع
لأبي سفيان جميع ما في
يده من أموال المسلمين
وزكواتهم ثمّ جعل
للأمويّين بعد ذلك حظّاً
من العمل الحكوميّ في
عدّة من المرافق الهامّة.
الانحراف السياسيّ
ونتائجه
تشير المرحلة الأولى من
حياة الأمّة الإسلاميّة،
في عصر النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم إلى وجود
اتّجاهين رئيسين متخالفين
قد رافقا نشوء الأمّة منذ
بداية التجربة الإسلاميّة
وهما:
1- الاتّجاه الّذي يؤمن
بالتعبّد بالدِّين
وتحكيمه والتسليم المطلق
للنصّ الدينيّّ في كلّ
جوانب الحياة (وهو اتّجاه
مدرسة أهل البيتعليهم
السلام وشيعتهم)15 .
2- الاتّجاه الّذي لا يرى
أنّ إيمانه بالدِّين
يتطلّب منه التعبّد إلّا
في نطاقٍ خاصّ من
العبادات والغيبيّات،
ويؤمن بإمكانيّة الاجتهاد
وجواز التصرّف على أساسه
بالتغيير والتأويل في
النصّ الدينيّّ وفقاً
للمصالح16 .
وهذان الاتّجاهان اللذان
بدأ الصراع بينهما في
حياة النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم، قد
انعكسا
على موقف المسلمين من
خلافة الإمام عليّّ عليه
السلام بعد النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم. وقد
تجسّد الاتّجاه الشيعيّ،
منذ اللحظة الأولى، في
إنكار ما اتّجهت إليه
السقيفة من تجميد لولاية
وخلافة الإمام عليّّ عليه
السلام، وإسناد السلطة
إلى غيره.
ويرى الاتّجاه الأوّل أنّ
إمامة أهل البيت عليهم
السلام بدءً بالإمام عليّّ
عليه السلام تُعبِّر عن
مرجعيّتين: إحداهما
المرجعيّة التشريعيّة
والفكريّّة، والأخرى
المرجعيّة في العمل
القياديّ والاجتماعيّّ،
وأمّا الاتّجاه الآخر في
المسلمين الّذي قام على
الاجتهاد بدلاً عن
التعبّد بالنصّ، فقد قرّر
في البدء منذ وفاة الرسول
الأعظم صلى الله عليه
وآله وسلم تسليم
المرجعيّة القياديّة
الّتي تمارس السلطة إلى
رجالات من المهاجرين وفقاً
لاعتبارات من عند أنفسهم.
وعلى هذا الأساس تسلّم
أبو بكر السلطة بعد وفاة
النبيّ مباشرة على أساس
ما تمّ من تشاور محدود في
مجلس السقيفة. ثمّ تولّى
الخلافة عمر بنصّ محدّد
من أبي بكر، وخلفهما
عثمان بنصّ غير محدّد من
عمر17 .
وكان من نتائج هذا
الاجتهاد بعد ثُلث قرنٍ
من وفاة الرسول القائد
صلى الله عليه وآله وسلم
أن تسلّل أبناء الطلقاء
الّذين حاربوا الإسلام
بالأمس إلى مراكز السلطة.
هذا فيما يتّصل
بالمرجعيّة القياديّة
الّتي تمارس السلطة.
وأمّا بالنسبة إلى
المرجعيّة الفكريّّة فقد
كان من الصعب على هؤلاء
إقرارها لأهل البيت عليهم
السلام، - بعد أن أدّى
الاجتهاد إلى انتزاع
المرجعيّة القياديّة
منهم-لأنّ إقرارها كان
يعني خلق الظروف
الموضوعيّة الّتي تمكّنهم
عليهم السلام من تسلّم
السلطة والجمع بين
المرجعيّتين.
ونظراً لعدم إمكانيّة
توفّر المرجعيّة
الفكريّّة في أيّ صحابيّ
بمفرده فقد ظلّ ميزان
المرجعيّة الفكريّّة
يتأرجح فترةً من الزمن،
وظلّ الخلفاء في كثيرٍ من
الحالات، يتعاملون مع
الإمام عليّّ عليه السلام،
على أساس إمامته
الفكريّّة، حتّى قال
الخليفة
الثاني مرّات عديدة: "لولا
عليّ لهلك عمر، ولا
أبقاني الله لمعضلة ليس
لها أبو الحسن"18 . ومع
مرور الزمن وبفعل سياسة
إقصاء أهل البيت عليهم
السلام تمكّن هؤلاء من
إسناد المرجعيّة
الفكريّّة إلى بديلٍ آخر،
وهذا البديل ليس هو شخص
الخليفة، بل الصحابة.
وهكذا وُضِعَ بالتدريج
مبدأ مرجعيّة الصحابة ككلّ
بدلاً عن مرجعيّة أئمّة
أهل البيت عليهم السلام.
لماذا لم يحتجّ الإمام
عليّّ عليه السلام بالنصّ؟
يمكن اختصار الإجابة عن
هذا السؤال بأنّ سكوت
أمير المؤمنين عليه
السلام عن المواجهة بالنصّ
إلى حينٍ كان لجملة أمور،
منها:
1- أنّه لم يكن يجد في
رجالات تلك الساعة من
يطمئنّ إلى شهادته بذلك.
2- أنّ الاعتراض بالنصوص
كان سيُلفت أنظار الحكّام
إلى قيمتها المعنويّة
الهامّة، فيستعملوا شتّى
الأساليب لمحوها والتخلّص
منها.
3- أنّ معنى الاعتراض بها
التهيّؤ للثورة بأوسع
معانيها، وهذا ما لم يكن
يريده الإمام عليه السلام.
4- إنّ اتّهام الخليفة
عمَر للنبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم في آخر
ساعاته بأنّه يهجر زاد
الإمام عليّاً عليه السلام
معرفةً بحال هؤلاء، ومدى
استعدادهم لنسف القيم
والنصوص في سبيل مراكزهم،
ممّا جعله يخاف من تكرّر
شيء من ذلك لو أعلن عن
نصوص إمامته19 .
تخطيط الإمام عليه
السلام لمواجهة الانحراف
إنّ للإمام المعصوم عليه
السلام واجباتٍ تتلخّص في
الحرص على سلامة الرسالة
الإسلاميّة وديمومتها في
الحياة، ومن هنا اجتهد
الإمام عليّّ عليه السلام
في تعميق الرسالة فكريّاً
وروحيّاً وسياسيّاً في
صفوف أبناء الأمّة
الإسلاميّة، وحاول تقديم
الوجه المشرق للرسالة
الإسلاميّة عبر أساليب
عديدة منها:
1- التدخّل الإيجابيّ
لتوجيه الزعامة المنحرفة،
بعد أن كانت لا تحسن
معالجة كثير من القضايا
البسيطة فضلاً عن
المعقّدة، فكان دوره عليه
السلام دور الرقيب
الرساليّ الّذي يتدخّل
كلّما لزم الأمر.
2- كان عليه السلام
يتصدّى للرّد على شبهات
المنحرفين بعد اتّضاح عجز
المتصدّين للزعامة.
3- تقديم المثل الأعلى
للإسلام والصورة الناصعة
للحكم الإسلاميّ والمجتمع
الرساليّ.
4- تربية ثلّة صالحة من
المسلمين تُعين الإمام
عليه السلام في حركته
الإصلاحيّة والتغييريّة.
5- إحياء سُنّة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
بالحثّ على تداولها
وتدوينها والاهتمام
بالقرآن تلاوةً وحفظاً
وتفسيراً وتدويناً، إذ
إنّهما عماد الشريعة، فلا
بدّ أن تتفهّم الأُمّة
حقائق القرآن الكريم
ومفاهيم السنّة الشريفة20 .
ومن هنا كان جمع القرآن
الكريم على رأس ما قام به
الإمام عليّّ عليه السلام
بعد ارتحال النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم؛ فقد
عكف ستّة أشهر في داره
مشغولاً بهذه المهمّة،
وكان يقول لمن يطالبه
بالخروج من البيت ومبايعة
أبي بكر: "آليت على
نفسي يميناً ألّا أرتدي برداء إلّا
للصلاة حتّى أجمع القرآن
"21 فجمعه. ونقل
السيوطيّ أنّه جمع القرآن
على ترتيب نزوله بعد وفاة
النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم، وأشار إلى
عامّه وخاصّه ومطلقه
ومقيّده ومحكمه ومتشابهه
وناسخه ومنسوخه وسننه
وآدابه، كما أشار إلى
أسباب النزول، ثمّ توجّه
إلى عملٍ آخر لا يقلّ
أهمية عن الأوّل وهو جمع
ما دوّنه من أحكام أملاها
عليه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في كتاب
واحد سُمِّيَ بالجامعة أو
كتاب عليّ، وهو كتاب طوله
سبعون ذراعاً مكتوب على
الجلد. وقد احتوت هذه
الجامعة كما روي عن
الإمام الصادق عليه
السلام على جميع الأحكام
حتّى أرش الخدش. وهذا
الكتاب توارثه أهل البيت
عليهم السلام.
ولولا هذا العمل الجبّار
لاندرست الأحكام الشرعيّة
ولما كُتب للرسالة
الإسلاميّة الاستمرار
والبقاء. وهذا كان بنظر
الإمام عليّّ عليه السلام
أهمّ بكثير من خلافة
وزعامة لفترة زمنية
محدودة ما تلبث أن تنتهي...
|