أهداف الدرس:
1- أن يتعرّف الطالب إلى
كيفيّة نشوء الحكم
العبّاسيّ.
2- أن يتبيّن الأساليب
التي اعتمدها العبّاسيّون
في الوصول للحكم.
3- أن يتبيّن موقف الإمام
عليه السلام من الحركة
العبّاسيّة.
الدولة العبّاسيّة (النشأة
والأساليب)
كان هشام بن عبد الملك
يحذر وجود أبي هاشم ـ وهو
من رجال بني هاشم
البارزين ـ لوجود لياقات
علميّة وسياسيّة عنده
كانت تؤهّله للقيادة،
فحاول هشام اغتياله.
ولمّا أحسّ أبو هاشم
بالمكيدة ضدّه احترز من
ذلك فأوصى إلى محمّد بن
عليّ بن عبد الله بن
العبّاس بإدارة أتباعه في
مقاومة الأمويّين سنة
99هـ.
وكانت هذه الوصيّة هي
بذرة الطمع الّتي حرّكت
محمّد بن عليّ بن عبد
الله بن العباس ما جعلته
يشعر بأنّه القائد
والخليفة مستقبلاً. وكانت
الفرصة سانحة في ذلك
الوقت بالتبليغ لشخصه،
لذا شرع في إرسال الدعاة
إلى خراسان سرّاً لهذا
الغرض، واستمرّ بدعوته
إلى أن مات سنة 125هـ
وترك من بعده أولاده وهم:
إبراهيم الإمام، والسفّاح،
والمنصور. وقد كان "إبراهيم
الإمام" أكثر دهاءً وحنكة
من أخويه فخطّط لقيام
الدولة العبّاسيّّة.
نشط إبراهيم بالدعوة وأخذ
يتحدّث بأهميّة الثورة
وإنقاذ المنكوبين، وشارك
البسطاء من الناس آلامهم
وأخذ يعطف على المظلومين
ويلعن الظالمين. وانتشر
دعاة إبراهيم في بلاد
خراسان وكان لهم كبير
الأثر هناك. وقد تعرّضوا
للقتل
في سبيل دعوتهم
ومُثّل ببعضهم وحبس بعضهم
الآخر. وكان في طليعة
الدعاة الأكثر نشاطاً
وقوّة ودهاءً أبو مسلم
الخراسانيّ....1
وتضمّن المنهج السياسيّ
العبّاسيّ لكسب الأُمّة
عدّة أساليب كانت منسجمة
مع الواقع ومقبولة عند
عامّة الناس، ولذا لقيت
الدعوة استجابة سريعة
وانضمّ المحرومون
والمضطهدون إليها، ومن
هذه الأساليب:
الأوّل, الدعوة لأهل
البيت عليهم السلام:
روّج العبّاسيّون أفكار
الدعوة بقوّة وحرّكوا
العواطف تجاهها وحاولوا
إقناع الناس بأنّ الهدف
من دعوتهم هو الانتصار
لأهل البيت عليهم
السلامالّذين تعرّضوا
للظلم والاضطهاد، وأُريقت
دماؤهم في سبيل الحقّ.
وركّز العبّاسيّون. بين
صفوف دعاتهم على أنّ
الهدف المركزيّ من دعوتهم
هو رجوع الخلافة المغصوبة
إلى أهلها، ولهذا تفاعل
الناس مع شعار "الرضا لآل
محمّد" ووجدوا بهذا
الشعار ضالّتهم.
وكان يعتقد الدعاة أنّ
هذه الدعوة تنبّئ بظهور
عهد جديد يضمن لهم حقوقهم
كما عرفوه من عدالة
الإمام عليّ عليه السلام.
وقد حقّق هذا الشعار
نجاحاً باهراً خصوصاً في
البلاد الّتي كانت قد
لاقت البؤس والحرمان،
وكانت تترقّب ظهور الحقّ
على أيدي أهل بيت النبوّة
عليهم السلام.
الثاني, إخفاء اسم
الخليفة: حيث ركّز
العبّاسيّون على اسم
الّذي يدعون إليه،
وتكتَّموا على أمره،
وأقنعوا الناس بأنّ
الخليفة لا يمكن إظهار
اسمه إلّا بعد زوال سلطان
الأمويّين حيث يُعلن
اسمُه الّذي يعرفه القادة
والنقباء2.
الثالث, لبس السواد:
كان العبّاسيون يلبسون
السواد، وكانوا يرمزون به
إلى محاربة الظالمين
وإظهار الحزن والتألّم
لأهل البيت عليهم
السلام والشهداء الّذين
لحقوا بهم. وهكذا قامت
الدعوة العبّاسيّة باسمهم
للانتقام من الأمويّين.
وتركيزاً لهذا الشعار
الّذي كان له وقع بالغ في
النفوس أرسل إبراهيم
الإمام لواءً يُدعى الظِلّ
أو السحاب على رمح طويل ـ
وكان ثلاثة عشر ذراعاً ـ
وكتب إلى أبي مسلم: إنّي
قد بعثت إليك براية النصر3.
وقد تأوّلوا الظلّ أو
السحاب: بأنّ السحاب
يُطبق الأرض، وكما أنّ
الأرض لا تخلو من الظلّ
كذلك لا تخلو من خليفة
عبّاسيّ4 ، وأنّ ذلك يمثّل
لواء رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لأنّهم
ذكروا أنّ لواءه في حروبه
وغزواته كان أسود!
اجتماع الأبواء5
كان الهدف من عقد هذا
الاجتماع الصوريّ معرفة
نوايا العلويّين من خلال
اقتراح تعيين خليفة من
جهة، وتهيئة الأجواء
الودّيّة وإشاعة روح
المحبّة والوئام بينهم
وبين العبّاسيّين،
وتطميناً لخواطرهم من جهة
أُخرى أو على أقلّ تقدير
جعلهم محايدين في هذا
الصراع ليتمّ للعبّاسيّين،
ما يهدفون إليه، وبذلك
يقدرون على حشد ما
استطاعوا من قوّة لصالحهم،
فكان محلّ الاجتماع هو
منطقة الأبواء.
وقد دُعي إلى الاجتماع
كبار العلويّين
والعبّاسيّين، فحضر كلٌّ
من إبراهيم الإمام
والسفّاح والمنصور وصالح
بن عليّ وعبد الله بن
الحسن وابناه محمّد ذو
النفس الزكيّة وإبراهيم
وغيرهم.
وقام صالح بن عليّ خطيباً
فقال: "قد علمتم أنّكم
الّذين تمدّ الناس أعينهم
إليهم، وقد جمعكم الله في
هذا الموضع، فاعقدوا بيعةً
لرجل منكم تعطونه إيّاها
من أنفسكم، وتواثقوا على
ذلك حتّى يفتح الله وهو
خير الفاتحين".
ثمّ قام عبد الله بن
الحسن، فحمد الله وأثنى
عليه ثمّ قال: "قد
علمتم أنّ ابني هذا هو
المهديّّ فهلّموا لنبايعه".
وقال أبو جعفر المنصور:
"لأيّ شيء تخدعون
أنفسكم؟ ووالله لقد علمتم
ما في الناس أحد أطول
أعناقاً، ولا أسرع إجابة
منهم إلى هذا الفتى ـ
يريد محمّد بن عبد الله ـ
قالوا: قد - والله - صدقت
إنّ هذا لهو الّذي نعلم".
فبايعوا جميعاً محمّداً،
ومسح على يده كلّ من
إبراهيم الإمام والسفّاح
والمنصور وكلّ من حضر
الاجتماع6. وبعد أن أنهى
مؤتمرهم أعماله بتعيين
محمّد بن عبد الله بن
الحسن خليفة للمسلمين،
أرسلوا إلى الإمام الصادق
عليه السلام فجاء فقال:
"لماذا اجتمعتم؟"
قالوا: نبايع محمّد بن
عبد الله فهو المهديّّ،
فقال الإمام جعفر الصادق
عليه السلام: "لا
تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت
بعد، وهو ليس بالمهديّّ"،
فقال عبد الله، ردّاً على
الإمام عليه السلام:
يحملك على هذا الحسد
لابني! فأجابه الإمام
عليه السلام بخُلُق
الأنبياء: "والله لا
يحملني ذلك ولكن هذا
وإخوته وأبناؤهم دونكم"
وضرب بيده على ظهر أبي
العباس، ثمّ قال لعبد
الله: "ما هي إليك ولا
إلى ابنيك، ولكنّها لبني
العبّاس، وإنّ ابنيك
لمقتولان"، ثمّ نهض عليه
السلام، وقال: "إنّ
صاحب الرداء الأصفر ـ
يقصد بذلك أبا جعفر ـ
يقتله". قال الراوي:
والله ما خرجت من الدنيا
حتّى رأيته قتله. وانفضّ
القوم، فقال أبو جعفر
المنصور للإمام جعفر عليه
السلام: تتّم الخلافة لي؟
فقال: "نعم أقوله حقّاً"7.
تحرُّك العبّاسيّين
بعد اجتماع الأبواء
بعد أن حقّق اجتماع
الأبواء غرضه وأنِسَ
الحاضرون بقراره الكاذب
نشط إبراهيم الإمام
بالاتّجاه الآخر, ليواصل
عمله بلا رجوع لأعضاء
المؤتمر ولا للخليفة
المرشَّح فأصدر عدّة
قَرارات كعادته سرّاً.
منها: أنّه كتب إلى شيعته
في الكوفة وخراسان: إنّي
قد أمرت أبا مسلم بأمري
فاسمعوا له وأطيعوا. قد
أمّرته على خراسان وما
غلب عليه. وكان ذلك سنة
(128هـ). وكان أبو مسلم
لا يتجاوز عمره التسع
عشرة سنة، وكان يقظاً
فاتكاً غادراً لا يعرف
الرحمة ولا الرأفة، وكان
ماهراً في حبك الدسائس.
ودهش الجميع لتعيين أبي
مسلمٍ في هذا المنصب
الخطير نظراً لحداثة سنّه
وقلّة تجاربه، وأبى جمع
من الدعاة طاعته
والانصياع لأوامره إلّا
أنّ إبراهيم الإمام
ألزمهم السمع والطاعة8.
وقد أقدم أبو مسلم فيما
بعد على إعدام جميع من
عارض اختياره لقيادة هذه
المنطقة.
أمّا ما هو الخطّ الّذي
سوف يتحرّك بموجبه أبو
مسلم لإعلان ثورته هناك،
فقد جاء هذا الخطّ في
وصيّة إبراهيم الإمام له
عندما قال: "يا عبد
الرحمن إنّك منّا أهل
البيت فاحفظ وصيّتي. انظر
هذا الحيّ من اليمن
فأكرمهم، وحلّ بين
ظهرانيهم، فإنّ الله لا
يتمّ هذا الأمر إلّا بهم.
وانظر هذا الحيّ من ربيعة
فاتّهمهم في أمرهم، وانظر
هذا الحيّ من مُضَرَ
فإنّهم العدوّ القريب
الدار، فاقتل من شككت في
أمره ومن وقع في نفسك منه
شيء، وإن شئت أن لا تدع
بخراسان من يتكلّم
العربيّة فافعل، فأيّما
غلام بلغ خمسة أشبار
فاقتله"9. وهذه الوصيّة
تلخّص السياسة العامّة
التي اعتمدها العبّاسيّون
مع المسلمين.
وقد أثّر أبو مسلم
الخراسانيّ في الناس
لتعاطفه معهم إذ كان
يتمتّع بصفات تؤهّله لهذا
الموقع، فهو: خافض الصوت،
فصيح بالعربيّة
والفارسيّة، حلو المنطق،
راويةٌ للشعر، لم يُر
ضاحكاً ولا مازحاً إلّا
في وقته، ولا يكاد يُقطّب
في شيء من أحواله، تأتيه
الفتوحات العظام فلا يظهر
عليه أثر السرور، وتنزل
به الحوادث الفادحة فلا
يُرى مكتئباً. وعندما سئل
إبراهيم الإمام عن أهليّة
أبي مسلم قال: إنّي قد
جرّبت هذا الأصفهانيّ،
وعرفت ظاهره وباطنه
فوجدته حَجَر الأرض10.
وفجّر الثورة هناك. وكان
يبذر الشقاق بين جنود
الأمويّين ليحصل الانقسام
بينهم. وقد استفاد من ذلك
ونجح في مهمّته. وقد
انجفل الناس من هرات
والطالقان ومرو وبلخ،
وتوافروا جميعاً مسوّدين
الثياب11.
وباشر أبو مسلم إبادة
الأبرياء فقتل ـ فيما
ينقل المؤرّخون ـ ستمائة
ألف عربيّ بالسيف صبراً
عدا من قتل في الحرب.
وتقدّمت جيوش أبي مسلم
بعد أن هزمت ولاة
الأمويّين في خراسان نحو
العراق ـ وهي كالموج ـ
تخفق عليها الرايات السود
فاحتلّت العراق. وبهذا
أُعلن الحكم العبّاسيّ
على يد أبي مسلم
الخراسانيّ في الكوفة سنة
132هـ.
موقف الإمام الصادق
عليه السلام من الحركة
العبّاسيّة
التزم الإمام الصادق عليه
السلام إزاء المستجدّات
السياسيّة موقف الحياد،
لكنّه من جانب آخر كان
يتحرّك ويعمل لتوسعة
دائرة الأفراد الصالحين
في المجتمع. ومن هذا
المنطلق أصدر جملة من
التوصيات لشيعته كان من
شأنها أن تجنّبهم الدخول
في المعادلات السياسيّة
المتغيّرة الّتي تؤدّي
بنتيجتها إلى استنزاف
الوجود الشيعيّ في نظر
الإمام عليه السلام،
محذّراً من أساليب العنف
والمواجهة لهذه المرحلة.
يقول الإمام الصادق عليه
السلام: "اتّقوا الله
وعليكم بالطاعة لأئمّتكم،
قولوا ما يقولون، واصمتوا
عمّا صمتوا، فإنّكم في
سلطان من قال الله تعالى
فيه: }وَإِن كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبَالُ {12 (يعني
بذلك ولد العبّاس)،
فاتّقوا الله فإنّكم في
هدنة، صلّوا في عشائرهم
واشهدوا جنائزهم وأدّوا
الأمانة إليهم"13.
ويمكن بلورة سيرة الإمام
الصادق عليه السلام
ومنهجه السياسيّ مع
الأطراف الطامعة في الحكم،
أو العبّاسيّين ـ الّذين
كانوا يرون في الإمام
الصادق عليه السلام وخطّه
خطراً حقيقيّاً على
سلطانهم ولو على المدى
البعيد ـ من خلال المواقف
التالية:
1ـ موقف الإمام عليه
السلام من أبي سلمة
الخلّال: كان أبو سلمة
أحد الدعاة العبّاسيّين
النشطين في الكوفة، ولعب
دوراً مميّزاً في نجاح
الدعوة العبّاسيّة. ولمّا
أدرك أبو سلمة بعد موت
إبراهيم الإمام أنّ
الأمور تسير على خلاف ما
كان يطمح إليه كتب إلى
الإمام الصادق عليه
السلام بأنّه يريد البيعة
له، ولكنّ الإمام عليه
السلام رفض العرض وقال:
"ما لي ولأبي سلمة وهو
شيعة لغيري"14.
وأكّد عليه السلام رفضه
القاطع عندما قام بحرق
الرسالة جواباً لأبي سلمة.
2ـ موقف الإمام عليه
السلام من أبي مسلم
الخراسانيّ: وهو الّذي
قاد الانقلاب على
الأمويّين في خراسان وتمّ
تأسيس الدولة العبّاسيّة
على يديه، كتب إلى الإمام
عليه السلام يبايعه،
فأجابه عليه السلام: "ما
أنت من رجالي ولا الزمان
زماني"15.
ولم يحدّثنا التاريخ عن
أيّة علاقة بينه وبين
الإمام عليه السلام، لا
عقائديّة، ولا سياسيّة،
سوى لقاء واحدٍ لم يتمّ
فيه التعارف بينهما أو
التفاهم، وكان أبو مسلم
قد سفك دماء الآلاف من
الأبرياء.
3ـ موقف الإمام عليه
السلام من العلويّين: الّذين خدعهم العبّاسيّون
في اجتماع الأبواء،
وبايعوا في حينه محمّد بن
عبد الله المحض. وقد كان
للإمام عليه السلامموقفه
الواضح - الذي سبق وأشرنا
إليه - في ذلك. وقد تكرّر
هذا الموقف لمّا جاء عبد
الله بن الحسن إلى الإمام
الصادق عليه السلام
مسروراً يبشّره بعرض
قدّمه له أبو سلمة بعد
رفضه من قبل الإمام عليه
السلام ، فأجابه الإمام
عليه السلام قائلاً: "يا
أبا محمّد (وهي كنية عبد
الله المحض)، ومتى كان
أهل خراسان شيعة لك؟ أنت
بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟!
وأنت أمرتهم بلبس السواد؟!.."
فنازعه عبد الله بن محمّد
بأنّ ولده مهديّ هذه
الأمّة، فقال الإمام عليه
السلام: "ما هو مهديّ
هذه الأمّة ولئن شهر سيفه
ليقتلنّ"، فقال عبد
الله: كان هذا الكلام منك
لشيء، فقال الإمام الصادق
عليه السلام: "قد علم
الله أنّي أوجب النصيحة
على نفسي لكلّ مسلم، فكيف
أدّخرها عنك فلا تمنّ
نفسك الأباطيل، فإنّ هذه
الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد
جاءني مثل الكتاب الّذي
جاءك"16.
ولو أنّنا تأمّلنا قليلاً
في هذه الكلمات التي
ذكرها الإمام عليه السلام
لشعرنا بمقدار الألم الذي
كان يعتصر قلبه عليه
السلام ممّا آلت إليه حال
هذه الأمّة، بل حال
أقربائه من العلويّين
الذين أعمت الرياسة
أبصارهم عن رؤية الحقّ
ومعرفة أهله.
|