أهداف الدرس
أن يتعرّف الطالب إلى
نزول الوحي والأحداث التي
رافقته.
أن يُعدِّد بعض أوائل
المؤمنين بالدعوة.
أن يُلخّص أسلوب النبيّّ
صلى الله عليه واله وسلم
في بدء الدعوة.
أن يُوجز الإعلان عن
النبوّة والولاية في وقتٍ
واحد.
إرهاصات الوحي
والنبوّة
تعرّفنا في الدرس السابق
إلى الأجواء التي عاشها
رسول الله صلى الله عليه
واله وسلم قبل النبوّة؛
حيث كان جميع آبائه
موحِّدين، وكان صلى الله
عليه واله وسلم على درجةٍ
عالية من التربية وحُسن
الخُلُق، ولم يتدنّس
بعبادة الأصنام، فكان منذ
صغره موضع عناية الله
تعالى كما يُُصوِّر لنا
ذلك أمير المؤمنين عليه
السلام بقوله: "ولقد
قرن الله به من لدن أن
كان فطيماً أعظم ملك من
ملائكته، يسلك به طريق
المكارم ومحاسن أخلاق
العالم ليله ونهاره..."
1. فكان
صلى الله عليه واله وسلم
يخلو بضعة أيّام من السنة
في جبل حراء، يقضيها
بالعبادة والدعاء، وكان
من قبل يتعبّد فيه عبد
المطّلب. وحينما بلغ
النبيّّ الأربعين، نزل
عليه جبرئيل، وقرأ عليه
أوّل آيات القرآن الكريم
2 وهي قوله
تعالى:
﴿اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ خَلَقَ
الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ﴾
3. وبعد تلقين
ذلك البيان الإلهيّ، عاد
النبيّّ صلى الله عليه
واله وسلم إلى أهله
مستبشراً مسروراً بما
أكرمه الله به من النبوّة
والرسالة.
طمأنينة رسول اللَّه
صلى الله عليه واله وسلم
كانت البعثة النبويّة
المباركة في السابع
والعشرين من شهر رجب
الأصَبّ، وتَنقُل لنا
الروايات أنّه صلى الله
عليه واله وسلم كان
مطمئنّاً إلى المهمّة
التي شرّفه الله بها، فلم
يكن خائفاً أو مرعوباً
مما جرى له، بل كان
عالماً بنبوّة نفسه،
ولمّا دخل على خديجة
وأخبرها بما أنزله الله
عليه، وبما سمعه من
جبرئيل، قالت له: "أبشر
فوالله لا يفعل الله بك
إلّا خيراً، وأبشر فإنّك
رسول الله حقّاً"
4.
قال الإمام الصادق عليه
السلام في جواب أحد
أصحابه (زرارة) عندما
سأله: كيف لم يخف رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم في ما يأتيه من
قِبَل الله أن يكون ممّا
ينزغ به الشيطان؟ فقال
عليه السلام: "إنّ
الله إذا اتخذ عبداً
رسولاً أنزل عليه السكينة
والوقار، فكان الذي يأتيه
من قِبَل الله عزَّ وجلَّ
مثل الذي يراه بعينه"
5.
الدعوة السريَّة
أقام رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم بمكّة
ثلاث سنين يَكتُم أمره
6 وهو يدعو إلى
توحيد الله عزَّ وجلَّ،
وذلك لأنّ أجواء مكّة لم
تكن في تلك الظروف
المناسبة للمجاهرة
بالدعوة علناً، فكان في
هذه السنوات يدعو سرّاً
كلّ من يرى فيه استعداداً
لقبول دعوته، ويدعوهم إلى
توحيد الله والإقرار
بنبوّته. وفي هذه المدّة
تناهى خبره إلى أسماع
قريش، فكان إذا مرّ بملأ
من قريش قالوا: إنّ فتى
ابن عبد المطّلب ليُكلَّم
من السماء.
ولكن بما أنّه لم يكن
يُجاهِر بدعوته في الوسط
العامّ، لذلك لم يكونوا
على علمٍ بفحوى دعوته،
وبالنتيجة لم يصدر أيّ
ردّ فعل تجاهه.
وفي هذه المدّة آمن
بدعوته عدد من الأشخاص،
ثمّ إنّ أحد هؤلاء
المسلمين الأوائل وهو
الأرقم وضع داره ـ التي
كانت تقع عند قاعدة جبل
الصفّار ـ تحت تَصرُّف
الرسول صلى الله عليه
واله وسلم، فجعل منها صلى
الله عليه واله وسلم
بمثابة مقرّ لهم كانوا
يجتمعون فيها أثناء مدّة
الإستخفاء، إلى أن جاء
أمر الله بأنّ يَصْدَع
بالدعوة
7. وكانت أمام
الرسول صلى الله عليه
واله وسلم نقطتان هامّتان
في هذه المرحلة وهما:
1 ـ بناء النواة
الجهاديّة الأولى للدعوة.
2 ـ حماية هذه النواة
والمحافظة عليها.
أوّل من أسلم من
النساء والرجال
يتّفق المؤرّخون على أنّ
خديجة عليها السلام أوّل
امرأة آمنت برسالة
النبيّّ صلى الله عليه
واله وسلم؛ لأنّها كانت
أوّل من يطّلع على الأمر
بعد عودة النبيّّ صلى
الله عليه واله وسلم من
غار حراء. وكذلك الإمام
عليّ بن أبي طالب عليه
السلام، وكان عمره آنذاك
عشر سنوات، أو اثنتي عشرة
سنة.
وكون الإمام عليّ عليه
السلام أوّل الناس
إسلاماً يُؤيّده الكثير
من الأدلّة ومنها
1 ـ تصريح النبيّّ صلى
الله عليه واله وسلم
بذلك: قال صلى الله عليه
واله وسلم في محضر جماعة
من المسلمين: "أوّلكم
وروداً عليَّ الحوض،
أوّلكم إسلاماً، عليّ بن
أبي طالب"
8.
ونقل كبار العلماء
والمحدّثين ما يلي: "استنبىء
النبيّّ يوم الإثنين
وصلّى عليّ يوم الثلاثاء"
9.
2 ـ تصريح الإمام عليّ
عليه السلام: قال عليه
السلام: "لم يجمع بيت
واحد يومئذٍ في الإسلام
غير رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم وخديجة
وأنا ثالثهما، أرى نور
الوحي
والرسالة وأشمّ ريح
النبوّة"
10.
وتحدّث عليه السلام في
موضعٍ آخر عن سبقه إلى
الإسلام، قائلاً: "اللهم
إنّي أوّل من أناب، وسمع
وأجاب، لم يسبقني إلّا
رسول الله بالصلاة"
11. وقد قال
هذا الكلام في معرض
احتجاجه على خصومه في
مناسبات متعدّدة من دون
أن يعترض أحد على ذلك، أو
يجرؤ على الإنكار.
3 ـ أورد العلامة الأميني
في كتابه الغدير أقوالاً
عن العشرات من كبار
الصحابة والتابعين
وغيرهم، وعن العشرات من
مصادر الفريقين، تؤكّد
أنّ أمير المؤمنين عليه
السلام هو أوّل الأمّة
قاطبةً إسلاماً وإيماناً،
ومنها ما رواه عن أحمد بن
حنبل أنّ النبيّّ صلى
الله عليه واله وسلم قال:
"عليّ بن أبي طالب
أوّل أصحابي إسلاماً"
12.
والذي يبدو من النصوص أنّ
عليّاً عليه السلام سبق
خديجة إلى الإسلام لكونه
ملازماً للنبيّّ صلى الله
عليه واله وسلم لا
يُفارقه حتّى وهو في غار
حراء.
والسبق إلى الإسلام
أفضلية أكّد عليها القرآن
الكريم مُعلِناً
﴿
وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ﴾13
.
شبهة الأسبقيّة في
الإسلام
بعد هذا العرض يُمكن
الجزم بأنّ ادّعاء سبق
غير علي عليه السلام إلى
الإسلام، ادّعاء غير صحيح
تُبطله كلّ النصوص
والحقائق التي ذكرناها..
على أنّ هذا الادعاء قد
جاء مُتأخِّراً عن عهد
الخلفاء الأربعة، وتمّت
صياغته بعد شهادة أمير
المؤمنين عليه السلام،
ولربما يكون قد حصل ذلك
حينما كتب معاوية إلى
ولاته
على الأقطار؛ يأمرهم
بأن لا يَدَعوا فضيلة
لعليّ عليه السلام
إلّا ويأتوه بمثلها
لغيره من الصحابة.
ومن هنا، فإنّنا
نعتقد: أنّ القول
بأوّلية إسلام بعض
الصحابة غير عليّ
عليه السلام موضوع في
وقت مُتأخِّر
تزلُّفاً للأمويّين.
وأمّا القول بأنّ
علياً عليه السلام هو
أوّل من أسلم من
الصبيان لا من
الرجال، فهو قول
غريب، وذلك لما يلي
أوّلاً: إنّه
قد جاء في بعض النصوص
المرويّة عن عليّ
عليه السلام وعن غيره
التعبير بأنّه: "أوّل
رجل أسلم"، ممّا يعني
أنه كان حينئذٍ رجلاً
بالغاً
14.
ثانياً: إنّه
وإن كان قد أسلم
وعمره عشر سنوات،
إلّا أنّه من الواضح:
أنّ الرجوليّة
والبلوغ لا ينحصران
بالسنّ.
على أنّ ثمّة أقوالاً
كثيرة في سنّ عليّ
عليه السلام حين
إسلامه بأنّه كان
يتراوح بين 12 سنة و
16 سنة، وبعضهم
يتجاوز ذلك أيضاً
15. فكيف
يصحّ وصفه بالصبيّ؟
ثالثاً: إنّ
سنّ البلوغ قد حُدّدت
بعد الهجرة في غزوة
الخندق، أمّا قبل ذلك
فقد كان المُعتمد هو
التمييز والإدراك،
وعليه يدور مدار
التكليف والدعوة إلى
الإسلام والإيمان
وعدمه.
رابعاً: لو
كان الأمر كما ذكروه،
فلا يبقى معنى لقول
النبيّّ صلى الله
عليه واله وسلم عنه:
"إنّه أوّل من أسلم".
دعوة عشيرته
بعد ثلاث سنوات من بدء
الدعوة، نزل ملك الوحي
يحمل أمر الله تعالى إلى
النبيّّ صلى الله عليه
واله وسلم ليُنذر عشيرته
الأقربين:
﴿
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ *
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ *فَإِنْ
عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا
تَعْمَلُونَ﴾
16.
يصنع طعاماً ويدعو له بني عبد المطّلب ليُبلِّغهم، فصنع عليّ عليه السلام
الطعام، ثمّ دعاهم وهم
يومئذٍ أربعون رجلاً،
وفيهم أعمامه أبو طالب،
وحمزة، وأبو لهب، وكان
الطعام لا يكفي لهذا
العدد في الظروف العادية،
ولكن القوم أكلوا حتّى
شبعوا جميعاً.
فقام أبو لهب وقال: لقد
سحركم صاحبكم. فانفضّ
القوم ولم يُكلِّمهم
الرسول صلى الله عليه
واله وسلم.
وفي اليوم التالي أمر
الرسول صلى الله عليه
واله وسلم عليّاً أن يفعل
كما فعل آنفاً. وبعد أن
أكلوا وشربوا، تكلّم رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم فقال: "إنّي والله
ما أعلم شابّاً من العرب
جاء قومه بأفضل ممّا
جئتكم به، إنّي جئتكم
بخير الدنيا والآخرة. وقد
أمرني الله عزَّ وجلَّ أن
أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن
بي ويؤازرني على أمري
فيكون أخي ووصيّي
وخليفتي؟".
فأمسك القوم وأحجموا عنها
جميعاً. فقام عليّ عليه
السلام وكان أصغرهم سنّاً
فقال: "أنا يا نبيّ
الله أكون وزيرك على ما
بعثك الله به". فأخذ رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم بيده، ثمّ قال: "إنّ
هذا أخي ووصيّي ووزيري
وخليفتي فيكم. فاسمعوا له
وأطيعوا"
17.
هذه القضية تنتهي بنا
إلى مطلب أساس وهو
أنّ "النبوّة"
و"الإمامة" يُمثِّلان
مبدأً متماسكاً لا
يقبل التجزئة، وذلك
لأنّ النبيّّ صلى
الله عليه واله وسلم
قد طرح قضية الإمامة
والقيادة المستقبليّة
للمسلمين منذ السنوات
الأولى لرسالته، ومنذ
اليوم الذي صرّح فيه
بنبوّته.
وفي ضوء ترتيب نزول
السور يُمكن
الإستنباط أنّ دعوة
عشيرته جاءت قبل
الدعوة العلنيّة
بمدّة
18.
وفي الختام نُشير إلى
أنّ أبا طالب قال
ردّاً على أبي لهب
عند دعوة العشيرة إلى
الإسلام: "يا
عورة! والله لننصرنّه
ثمّ لنعيننّه، يا ابن
أخي إذا أردت أن تدعو
إلى ربّك فأعلمنا
حتّى نخرج معك
بالسلاح"
19. وبهذا
أعلن عميد البيت
الهاشميّ قرار هذا
البيت بحماية النبيّّ
صلى الله عليه واله
وسلم وعدم تسليمه إلى
المكذِّبين برسالته.
|