جورج جرداق: صوت محمد
من لهيب الصحراء المرحقة
وهجٌ في عينيه!
ومن انبساط الرمال أمام
وهج الشمس صراحةٌ على
شفتيه!
ومن جنائن يثرب وخمائل
الطائف، ومن واحات الحجاز
السابحة في الفضاء كأنها
الجزرُ المتناثرةُ في
محيطٍ من الرمل تحت ضوء
القمر، نداوةٌ في قلبه
ورفقٌ في دمه!
ومن عصف الرياح الهُوج،
ثورةٌ في خياله!
ومن بيان الشعر ونور
السماء، سحرٌ في لسانه
وقبَسٌ في روحه!
ومن صدق العزيمة ولغة
الفكر، مضاءٌ في حسامه
ورسالة في يمينه!
ذاك هو محمد بن عبد الله،
نبيّ العرب، ومحطّم
الوثنية التي أقصت
الإنسان عن أخيه الإنسان:
وثنية المال، وثنية
العادة، العنصر الخرقاء!
كان بنو قريش يختصرون
الدنيا بدرهم يزلق من يد
الأعرابي ليستقرّ في
جيوبهم!
وكانوا يوجزون قيم الحياة
بتجارة رابحة وكسب يضاف
إلى كسب، وقافلة تسير في
الشعاب والأوهدة وتقطع
البيدَ على حدو التّوق
ولا تجد لها مَقيلاً غير
ظلٍ من دوحة قرشيّة، ولا
موئلاً إلاّ في مكة
الوثنية حيث يعتز الدرهم
ويشمخ الدينار!
وعصف في آذانهم صوتٌ
تخلّعت له أعصابهم،
وتمزّقت شهواتهم ومالت به
الدنيا عليهم تقول:
إنّ للإنسان قيمة غير
التي تعرفون! وإنّ
للأعرابي السادرِ في
مجاهل البيد رسالةً غير
التي تزعمون!
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
وجدّت أسد وتميم في طريق
الحماقة، وحثّوا السير في
مهاوي الضلال، وطفقوا
يئدون بناتهم وليس لهم في
وأدهنّ من حاجة إلا
إتّباع العادة وتمكين ما
حرّف الإنسان من آيات
الخالق، وما أنكرَ من
جمال الطبيعة، وما شوّه
من فتنة الكون!
وتردّدَ في أسماعهم صوتٌ
رفيقٌ جرت عليه نسماتُ
الحنان وخفقاتُ الحب وهمسُ
الحياة يقول:
إليكم عن الوأد عباد الله!
للأنثى منكم مثل ما للذكر!
وليس لمخلوق على آخر حقّ
الحياة والموت، وإنما هو
الله من يحيي ويميت!
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
وانطلق الأعراب يتفانون
بحدّ السيف ويتقارعون
بألسنة كأنّها سياط
الجحيم، ويلثمون أفواه
العذارى على شفار المهتّد،
فإذا هم خلط من فوارس
يفخرون، ورجال يصرعون،
وأطفال يصرخون ويستغيثون،
وينشأون على غير المودّة
وغير الإخاء.
ودوّى في خيامهم صوت أضد
قصفاً من الرعد، وأمدّ
هولاً من العاصفة، يردّد
ويقول:
ما هذا الذي تصنعون! ألكم
أن تقتتلوا وأنتم إخوة في
خالق السماء والأرض؟
الحرب من عمل الشيطان
والسلم أولى بكم وفيه
ذُواق النعيم الذي تشتهون!
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
وأدرك العرب الزهو كما لم
يدرك شعباً ولا أمة!
وأبدوا من الاحتقار
للأعاجم ما يُبديه
الاعتدادُ والغطرسة
والخلق الأعجب العربيد.
فنال الأعجميّ من
الامتهان ما أزرى بكرامته
كإنسان. فشقّ ذلك على
صاحب الرسالة فأفاق
المتغطرسون على صوت يقول:
ليس لعربي فضلٌ على أعجمي
إلاّ بالتقوى. والإنسان
أخو الإنسان أحبّ أم كره.
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
أما المعذّبون في الأرض.
أما المشرّدون الذين
لفحتهم سموم الصحراء،
ونبذهم
المجتمع الأجير، وضيّقت
عليهم الحياة فباتوا من
الوجود أحقرَ من ذرّات
الرمال، وصاروا من العيش
على الصحائف السود؛ أمّا
أولئك فهم أصدقاء صاحب
الرسالة، كما كان الفقراء
والمنبوذون أصدقاء المسيح
عيسى بن مريم وأصدقاء
غيره من عظماء الأرض. وهو
من أجلهم جعل الحكم شورى
وحرّم الاستعباد واستغلال
الإنسان للإنسان، وأمّم
بيت المال وجهود الناس،
وألهب ظهور أعمامه
القرشيين بالسياط الخيّرة،
وتطلّع بجملة كيانه إلى
وحدة الكون مجسّداً في
إله، وهم يُغرون به
السفاء والصبية فيرجمونه
بالحجارة ويسخرون منه!
أمّا أولئك المعذّبون في
الأرض والمشرّدون
والأرقّاء، الذين كان
منهم بلال مؤذّن الرسول
وأول مؤذن في الإسلام،
فهم الذين تفتّحت قلوبهم
على صوت أعمق صدىً من
نشيد الصباح وأمدّ سلطاناً
من جنح الليل، وأفعل في
النفس من صوت القدر:
"الخلق كلّهم عيالُ الله
وأحبّهم إليه أنفعهم
لعياله".
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
أما خصومه وراجموه
والساخرون به، فقد تلقّوا
عن لسانه هذا الصوت
المحيي:
"ولو كنتَ فظّاً غليظ
القلب لانفضّوا من حولك.
فاعفُ عنهم، واستغفر لهم،
وشاورهم في الأمر، وإذا
عزمتَ فتوكلّ على الله إن
الله يحب المتوكلين".
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
أمّا المحاربون في سبيل
حياة أفضل، وأما أنصاره
ضد الشر، وأما مَن قد
تحدّثهم نفوسهم بهدر
الحقوق والكرامات في ساعة
الجهاد والذود عن الثورة
القويمة، فقد ثبتت في
قلوبهم هذه الكلمات
الرائعة:
"لا تغدروا ولا تغلّوا
ولا تقتلوا وليداً ولا
امرأة ولا شيخاً فانياً
ولا منعزلاً بصومعته، ولا
تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا
شجراً ولا تهدموا بناء".
ذلك الصوت، كان صوت محمد!
وحمل العرب من ابن عبد
الله ذلك الصوت الكريم،
وامتدّوا به أوّل أمرهم
على بسطة الأرض حتى
أغرقوا فيه
كلّ ذي تاج وسلطان.
وحتى أوثقوا الصلة
بين الإنسان والإنسان،
وبين الإنسان وروح
الكائنات التي جسّدها
نبيّ الصحراء إلهاً
سوياً لا شريكَ له!
واتسع ظل محمد بن عبد
الله وتعاظم حتى
اكتنف العالم القديم.
فإذا هو من مطلّ
الشمس إلى مغربها أرضٌ
تُنبت الخير والمعرفة
والسلم! وإذا بنبيّ
الصحراء يمدّ يده فوق
الدنيا ليذر في أرضها
بذور الإخاء والحب.
وصار لدولة العرب رجلٌ
في الهند، ورجلٌ في
الأندلس!
وعُقد على جبين الشمس
تاجُ شعب عظيم!
وكانت، على هذا الصوت،
الدعوة إلى الإخاء
الإنساني، وكان رفع
أيدي الحكام عن الشعب
وأمواله وجهوده،
ومساواة الناس في
الحقوق: الصغير
والكبير، المحكوم
والحاكم، العربي
والأعجمين فالناس
كلهم إخوان متساوون.
وكانت، على هذا الصوت،
الدعوة إلى تحرير
المرأة من جور الرجل،
وتحرير العامل من ظلم
صاحب العمل،
وتحرير الرقيق والخدم
من العبودية والهوان
بما يحمله فكرُ
الزمان وتأذن به
طبيعةُ المحيط،
وإشراك الشعب في
السلطان، على غير ما
رأى فلاسفةُ الأولين
الذين قرّروا حرمان
العمال والصنّاع
والموالي من الحقوق
المدنية لـ"انحطاط"
ما يمارسونه من المهن
والصناعات، وجعلوا
الدنيا طبقات في
الحقوق والواجبات!
كان أكثر ما يمكن أن
يكون من الخير العامّ
في منطق ذيّاك الزمان
وإمكانات أبنائه.
وحُرّم الرّبا
واستغلال الإنسان
للإنسان!
وكان صوت عليّ بن أبي
طالب!
وكانت ثورة على مجتمع
آخذ من كلّ بغيٍ
وعدوان!
من كتاب صوت العدالة
الإنسانية
بولس سلامة: عظمة
رجل
مسيحي ينحني أمام
عظمة رجل يهتف باسمه
مئات الملايين من
الناس في مشارق الأرض
ومغاربها خمساً كل
يوم. رجل ليس في مواليد
حواء أعظم منه شأناً،
وأبعد أثراً، وأخلد ذكراً.
رجل أطلّ من غياهب
الجاهلية فأطلت معه دنيا
أظلها بلواء مجيد، كتب
عليه بأحرف من نور: لا
إله إلا الله! الله أكبر!
من ملحمة الغدير
|