سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة التاسعة للهجرة

حوادث السنة التاسعة من الهجرة: إعلان البراءة من المشركين في منى

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيلُ على رسول اللّه صلّى الله عليه وآله بعدة آيات من سورة التوبة (سورة البراءة)، وكلّف رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يبعث بها رجلاً إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رُفعَ الأمان في هذه الآيات عن المشركين، واُلغيت جميعُ العهود (إلا العهود والمواثيق التي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها)، واُبلغَ إلى رؤوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد- وذلك خلال أربعة أشهر، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نُزعت منهم الحصانة، ورفع عنهم الأَمان.

عندما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة وهذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفاً لمبدأ الحريّة الإعتقادية، ولكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز، وَدَرسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء، والتي ذُكرت في هذه السورة، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء، ولصَدقوا واعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم، أبداً واليك فيما يأتي الدوافع وراء صور هذا العهد (البراءة):

1- كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير ويطوف بثوب آخر، واذا لم يكن له ثوب آخر، فان عليه أن يستعير ثوباً ويطوف به حتى لا يضطرَّ إلى الطواف عرياناً، وإن لم يمكنه ان يستعير ثوباً طاف بالبيت المعظم عارياً، بادي السوأة.

وقد دخلت إمرأة ذاتُ جمال كبير، ذات يوم المسجد الحرام، وحيث أنّها لم تكُ تملكُ ثوباً آخر، لذلك اضطرّت تبعاً لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظَّم، وِمنَ الواضح أن مِثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جمع الطائفين بالبيت ينطوي على نتائج سيّئة بالغة السوء.

2- لقد نزلت الآيات الاُولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلّى اللّه عليه وآله، وفي هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بَلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يُصرّون على الشرك والوثنية لم يكن ذلك إلا عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد حانَ لأن يستخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف، وأن يستعين بمنطق القُوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة، وأن يعتبرها نوعاً من العدوان على الحقُوق الالهية والإنسانية، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئات العادات السئية في المجتمع.

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفاً لمبدأ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي وقاعدة المدنية الراهنة قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم مادام لا يضرُّ بسلامة الفرد والمجتمع، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتماً بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أوربا اليوم مثلاً جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري إنطلاقاً من افكار منحرفة فاسدة وقاموا- على أساس أن إخفاء بعض الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريرة ويسبب فساد الاخلاق- بتشكيل نوادي العري السرية، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة، ويقول: إن الاعتقاد أمر محترم، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظاً على سعادة تلك الجماعة نفسها، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات والحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر، فهم يحاربونها بلا هوادة، وهذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة، وقد بذل رسولُ الاسلام جهوداً كبرى وكافية في سبيل هدايتهم، وبعد أن انقضى اكثر من عشرين عاماً من دعوته كان الوقتُ قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

3- ومن جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات والشعائر الاسلامية ولم تكن الصراعات والمواجهات التي وقعت بين الاسلام ورؤوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسولُ الكريمُ المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيداً عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبيُّ الكريمُ بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة، ولكن النبيَّ صلّى اللّه عليه وآله انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك اذا خلَت منطقة الحرام الإلهي ونواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية، والحجرية، ويطهّرها من كل معالم الشرك والوثنية، ويصبح الحرم الإلهي خالصاً للموحدين والعباد الواقعيين.

4- إن جهاد النبي لم يكُ له أيُّ ارتباط بحرية العقيدة، فالعقيدة ليست شيئاً يمكن أن يُفرَض على أحد، ويوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان ونفسه هو مركز الاعتقاد ومقرّه، وظرفه ومكانه، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير، وإن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات والأوليّات التي توجب حصول العقيدة، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر، ولا تقبل الفرض، بل كان نضالُ النبي ينحصر في النضال ضدَّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الاوثان.

من هنا هدَم كل بيوت الاصنام، وحطَّم الأوثانَ بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع- لا محالة- مثل هذا التطور والتحول والانقلاب.

ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلاً من المسلمين1الى مكة، ويتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام بأداء هذه المهمة، وتوجه نحو مكة، إلا أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله برسالة من اللّه سبحانه وهي: "إنّه لا يُؤَدِّي عنكَ إلا أنتَ أو رجُل مِنكَ".

ولهذا استدعى رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً وأخبره بالخبر ثم قال له: إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده، وامض بها الى مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم، أي إقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية:

1- أن لا يدخُلَ المسجدَ مشرك.
2- أن لا يطوفَ بالبيت عُريان.
3- أن لا يحج بعد العام مشرك.
4- أنّ مَن كان لَهُ عندَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عهد فهو لَهُ إلى مدته، أي إنّه محترم ميثاقهُ ومالُه ونفسُه إلى يوم انقضاء العهد، ومن لم يكن له عهد ومدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناهُ بعد أربعة أشهر قتلناهُ، وذلك بدءاً من هذا اليوم (العاشر من شهر ذي الحجة).

إى إنَّ على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين، وينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك ويحطموها، وإما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين2.

فخرج علي عليه السَّلام على ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله العضباء مع جماعة منهم "جابرُ بن عبد اللّه" الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي عليه السَّلام.

ويروي محدِّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر: أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن اُخيِّرك بين أن تسير معي أو ترجعَ إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع علي عليه السلام الى مكة...: بل أرجع إليه، وعاد إِلى النبي صلّى اللّه عليه وآله، فلما دخل عليه قال: يا رسول اللّه إِنك أهلتني لأمر طالت الاعناقُ إليَّ فيه، فلمّا توجهت له رددتني عنه، مالي أنزل فيَّ قرآن ؟!

فقال له النبي صلّى اللّه عليه وآله: "لا ولكنَّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ وجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا انت أو رجل منكَ، وعلي مِنّي، ولا يؤدّي عنّي إلا عليّ"3. إلا أن بعض روايات أهل السنّة تفيدُ أنّ أبا بكر أُنيط اليه امارة الحجيج في ذلك العام، بينما كُلّف عليّ عليه السَّلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى4.

دخل أميرُ المؤمنين علّي بن أبي طالب عليه السَّلام مكة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة (البراءة) وأذان رسول اللّه المتضمن للنقاط الاربعة، رافعاً صوته به، بحيث يسمعه جميع من حضر، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة، وأخبر المشركين الذين لا عهد ولا مدة لهم مع النبي صلّى اللّه عليه وآله بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر إبتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان، فاذا انقضت هذه المدة قُتِلُوا اذا وُجدوا على الشرك، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية وإلا سُلِبَت عنهم الحصانة، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثرُ هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلا وأقبلَ المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجاً افواجاً، وهكذا استؤصِلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث:
لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يُعدُّ من ابرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار والشك، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ والانحراف مع ذلك عند تحليل ودراسة هذه الحادثة. فهذا "الآلوسي البغدادي" يكتب في تفسيره عن دراسة وتحليل هذه الحادثة: النكتة في نصب الامير كرم اللّه تعالى وجهه مبلّغاً نقضَ العهد في ذلك المحفَل ان الصِّديق رضي اللّه تعالى عنه لما كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال كما يرشد اليه ما تقدم في حديث الاسراء ولما كان علي كرم اللّه وجهه والذي هو أسد اللّه ومظهر جلاله فوض اليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر5.

إن هذا التفسير النابع من منبع التعصُّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر: "إن هذه الآي لا يؤدِّيها إلا أنا أو رجل منّي" أي لا يصلُحُ لأدائها غير هذين الرجلين وليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافاً إلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يُكلف حتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بابلاغ هذه الآيات، على حين أن الوحيَ قال: هذه الآيات لا يؤديها إلا أنت أو رجل مِنكَ".

ولقد برّر جماعة اُخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا: لقد كان التقليد المتَّبَع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفسُ الموقِّع على العَهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حالهِ، وحيث أن عليّ بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كُلِّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من هو أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مثل عمّه العباس، فلماذا لم يكلَّف بابلاغ آيات البراءة، ونبذ العهد الى المشركين. ثم لماذا لم يتبع النبي صلّى اللّه عليه وآله هذه العادة من أول الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه ؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول: إن علة هذا العزل، والنصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام، والطموح الى السلطة، ولا وشيجة القربى مع علي عليه السَّلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عملياً عن أهليّة أمير المؤمنين علي عليه السَّلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلِّقة بالحكومة الاسلامية، وليعلَمَ الناس أنه عديلُ النبي صلّى اللّه عليه وآله في الجوانب الروحية، وفي مجال الأهليّة، والصلاحية.

وانه اذا ما غابت شمسُ الرسالة بعد حين وجب أن تُسَلَّم مقاليدُ الحكم، وازمّة التصرُّف في المسائل والاُمور المتعلِّقة بشؤون الخلافة الى عليّ عليه السَّلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه، وانه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الإشكال والتشتت، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر، لأنهم قد رأوا باُم عينهم كيف نصب "علي" من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين، الذي هو من صلاحيات واختيارات الحاكم الاسلامي وشؤونه.


1- وقد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلثمائة (المغازي: ج 3 ص 1077).
2- فروع الكافي: ج 1 ص 326.
3- الارشاد: ص 37.
4- السيرة النبوية: ج 2 ص 546 وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير: ج 6 ص 338- 350.
5- روح المعاني: ج 10 ص 45 تفسير سورة التوبة.