ادلة وقرائن على نبوة النبي محمد - ص
دليل آخر على صدق نبوّة نبيّ الإسلام
هناك طريق آخر غير طلب المعجزة لا ثبات صحة دعوى النّبوة أو عدمها، وهو طريق يعتبر بحد ذاته دليلاً حياً آخر للوصول الى الهدف المنشود، وذلك هو دراسة القرائن التالية وتوفر عدد منها في مدعي النّبوة:
1- مميزاته الاخلاقية وتاريخه الاجتماعي.
2- الظروف التي تسود المحيط الذي ظهرت فيه الدّعوة.
3- الظروف الزّمانية.
4- محتوى الدّعوة.
5- خطط الدّعوة التنفيذية ووسائل الوصول الى الهدف.
6- مقدار الأثر الذي تتركه الدّعوة في المحيط.
7- مقدار ايمان صاحب الدّعوة بهدفه ومدى تضحيته في سبيله.
8- عدم المساومة مع الاعداء لحرفه عن طريقه.
9- سرعة تأثير الدّعوة في الرأي العام.
10- دراسة الذين يؤمنون بالدعوة وطبقتهم الاجتماعية.
علينا أنْ ندرس هذه الامور دراسة دقيقة وأنْ ننظم ملفاً خاصاً بذلك بحيث يسهل علينا معرفة صدق مدعي النّبوة أو كذبه.
والآن بعد الاخذ بنظر الاعتبار النقاط السابقة، نباشر باجراء دراسة دقيقة ومكثفة عن شخص نبيّ الاسلام صلى الله عليه وآله، على الرغم من أنَّ هذا يتطلب المجلدات الكثيرة:
1- فيما يتعلق بمميزات نبي الاسلام الاخلاقية، فإنَّ كتب التاريخ التي كتبها المحبون والكارهون تؤكد لنا أنَّه كان على درجة من الطهارة والنقاء والاستقامة بحيث أنَّهم في ذلك العصر الجاهلي وصفوه بالصادق الامين. يقول التاريخ: عندما إراد الهجرة الى المدينة طلب من علي عليه السلام أنْ يؤدي عنه الامانات الى أصحابها.
أمّا شجاعته وثباته وحسن خلقه وسعة صدره وفتوته وتضحياته فيمكن التعرف عليها من خلال حروبه وفترات سلمه. إنَّ العفو العام الذي أصدره بالنسبة لأهل مكة بعد فتحها واستسلام اعدائه الالداء للمسلمين خير دليل حي على خلقه النبيل.
2- إنَّنا نعلم أنَّ الناس العاديين بل حتى النّوابغ منهم يتأثرون بالمحيط الديني الذي يعيشون فيه شاؤوا أم أبوا، وأنْ يكن تأثرهم على درجات متفاوتة.
تصور، إذن، رجلاً عاش أربعين سنة في محيط كله جهل وعبادة اصنام، وتسوده ثقافة الخرافات والاباطيل، كيف يمكن له أنْ يدعو الى التوحيد الخالص، وأنْ يبادر الى مصارعة مظاهر الشرك كلها؟ كيف يمكن أنْ يصدر عن محيط جاهل أعلى التّجليات العلمية التي تعشي الابصار؟ أيمكن أنْ نصدق أن ظاهرة عجيبة كهذه يمكن أن تظهر الى الوجود بغير أنْ تكون مؤيدة من الله من ما وراء الطبيعة؟
3- علينا أنْ نعرف العصر الذي ظهر فيه النّبي صلى الله عليه وآله. لقد كان عصر القرون الوسطى، عصر الاستبداد والمحاباة والامتيازات الظالمة، عصر العنصرية والطبقية. تعال نستمع الى وصف ذاك العصر من لسان علي بن أبي طالب عليه السلام، اذ يقول: "بعثه والنّاس ضلاّل في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم الاهواء، واستنزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الامر، وبلاء من الجهل...".1
فتصور ديناً شعاره المساواة بين الناس والقضاء على التبعيض العرقي والطبقي: ﴿إنّما المؤمنون إخوة...﴾(الحجرات:10) كيف ينسجم مع مثل ذلك العصر؟
4- محتوى الدعوة التوحيد من جميع الجهات، والغاء الامتيازات الظالمة، توحيد عالم الانسانية، مكافحة الظلم والجور، اقامة حكومة عالمية، الدفاع عن المستضعفين، واعتبار التقوى والطهارة والامانة من أهم معايير القيم الانسانية.
5- بالنسبة للخطط التنفيذية لم يُجِز ابداً المقولة القائلة أنَّ الغاية تسوّغ الواسطة، وللوصول الى أهدافه المقدّسة.
كان يقول: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُم شَنآنُ قَوم عَلَى أنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾.(المائدة:8) أمّا علو أخلاقه فيتضح من تعليماته في التزام المبادىء الاخلاقية في ميادين الحرب، عدم الاعتداء على غير المقاتلين، الامتناع عن قطع شجرة، وعدم تلويث مياه شرب العدو، ومعاملة الاسرى بكل محبّة، وعشرات اخرى من امثال هذه التعليمات.
6- مقدار تأثير دعوته في ذلك المحيط كان من الشدّة بحيث أن الاعداء كانوا يخشون الاقتراب منه، خوفاً من أن ينجذبوا إليه، فكانوا إذا أخذ يتكلم يثيرون الجلبة والضوضاء لئلا يسمع الناس ما يقول فتنجذب اليه قلوبهم العطشى. ولكي يموهوا على الناس تأثيره المعجز وصفوه بالساحر الذي ينطق بالسحر، وهذا بذاته اعتراف ضمني بقوّة تأثير دعوته الخارقة للعادة.
7- أمّا مقدار تضحيته في سبيل دعوته، فلقد كان أشدّ الناس إيماناً بهذا الدين الذي عهد اليه به.
في بعض الحروب التي فرّ منها المسلمون الجُدد، وقف هو بثبات، ولم ينفع معه ترغيب الاعداء ولاترهيبهم، بل ظل ثابتاً على دينه، لا يظهر عليه شي من الضعف والتردد.
8- كثيراً ما سعوا لجرّه الى المساومة مع المنحرفين، ولكنه لم يتزحزح قيد شعرة عن موقفه، بل قال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر ما تركته".
9- لم يكن تأثير دعوته في الرأي العام عجيباً فحسب، بل كانت سرعة انتشارها خارقة للعادة أيضاً.
إن الذين قرأوا ماكتبه المستشرقون الغربيون حول الاسلام لابدّ أنّهم لاحظوا أنَّ اولئك يبدون دهشتهم من سرعة انتشار الاسلام. من هؤلاء ثلاثة من الاساتذة الغربيين الذين كتبوا عن تاريخ حضارة العرب يعترفون بهذه الحقيقة دون مواربة، ويقولون:
"على الرّغم من البحوث والدّراسات التي اُجريت لمعرفة سبب انتشار الاسلام السريع في العالم بحيث انه سيطر على جانب واسع من العالم في أقل من قرن، فإنَّ القضية مازالت غامضة".
نعم، إنَّه لغز غامض! ترى كيف استطاع في ظروفه تلك أنْ ينفذ الى قلوب ملايين الناس بتلك السرعة العجيبة، وأنْ يهضم في ذاته مختلف الحضارات ويخلق حضارة جديدة؟!
10- نصل أخيراً الى اعدائه، فقد كانوا من رؤساء الكفر والظالمين المستكبرين والمترفين والانانيين، في الوقت الذي كان فيه الذين آمنوا به، في غالبيتهم، المحرومين والعبيد، اناس ما كان لهم من رأسمال سوى الطهارة وصفاء النفس والتعطش الى الله.
من مجموع هذه البحوث التي يطول شرحها وتفصيلها يمكن أنْ نستنتج أنَّ دعوته دعوة إلهية، دعوة انبعثت ممّا وراء الطّبيعة، وأنَّه قد بعثه الله لينقذ الانسان من الفساد والضياع والجهل والشرك والظلم والجور.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي . مؤسسة البعثة،ط2 ، ص118-123
1- نهج البلاغة، الخطبة 95 (اعداد صبحي الصالح).
|