سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الأولى للهجرة

حوادث السنةِ الاُولى من الهجرة1: أوَّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم
منقبتان عظيمتان التآخي، أو أعظم معطيات الايمان
أعظم معاهدة تاريخية معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب
اسلام عبد اللّه بن سلام ممارسات اليهود الإجهاضية
  خطةُ اُخرى للقضاءِ على الحكومة الاسلامية


عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم
حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة، المبتهجة، بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيين له حملته صلّى اللّه عليه وآله، على أن يعمد قبل أي شيء إِلى تأسيس مركزٍ عامٍ لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة، وللقيام بالاعمال التربوية والتثقيفية، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أن عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبَد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا اللّه ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إِلى هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام (حرب اللّه) كلَّ اُسبوع في يومٍ معينٍ فيه، ويتشاوروا في شؤون الاسلام والمسلمين ومصالحهم، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافاً إِلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم والمعارف الاسلامية الشاملة للاُمور التربوية وغيرها.
لقد كان يعلَّم فيه كل التعاليم والمواد الدينية والعلمية، حتى الاُمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.
وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة2.

وربما اتخذَ مسجد المدينة صورة المركز الأدبّي، عندما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية والمعايير الاسلامية بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما فعل (كعب بن زهير) إِذ ألقى قصيدته المعروفة "بانت سعاد" عند النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في المسجد، وأعطاه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله صلة جيّدة، وخلع عليه بخلعة عظيمة3.

أو كما كان يفعل "حسان بن ثابت" الذي كان يدافع بشِعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تتسم بروعة كبيرة بحيث عندما شاهد وفد ثقيف مشهداً من مشاهدها انبهروا به، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام واكتساب المعارف والعلوم4.

كما انه كانت تمارَس الامور القضائية والفصل بين الخصومات، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة (بكل معنى الكلمة) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.هذا مضافاً إِلى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار والمشركين في المسجد.

ولعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف وتعلم العلوم هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أراد بذلك أن يثبت عملياً أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلاً للعلم أيضاً.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية، واتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمرٍ معنوي لا يتصل بالاُمور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشؤون المعيشة المادية، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى، ولا يدعوهم إِلى الايمان إِلا ويهتم أيضاً بشؤونهم المعيشية وإِصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمُّ بجانب ويُغفِلُ جانباً، بل هو دين شامل جامع يتكفل الاُمور المادية والمعنوية معاً.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام (بين العلم والإيمان) محطَّ إِهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائماً حتى بعد ما اتَّخَذَت المراكزُ التعليمية والمؤسساتُ العلمية البحتة شكلاً مستقلاً وصار لها محلّ خاص تدرس فيه، فانهم ظلوا يبنون الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إِسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ
لقد ابتاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الأرضَ التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية وبناه، وعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسُه في تشييدها أيضاً. فكان صلّى اللّه عليه وآله ينقل معهم اللبن، والحجارة، وبينما هو صلّى اللّه عليه وآله ذات مرة ينقل حجراً على بطنه استقبله "اُسيدُ بن حضير" فقال: يا رسول اللّه اعطني أحمله عنك.

قال صلّى اللّه عليه وآله: لا، إِذهَب فاحمِل غيرَه 5.وبهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل وليس رجل قول، رجل فعل وليس رجل كلام، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول

لَئِن قَعَدنا وَالنبيّ يعمَلُ                          فذاكَ مِنّا العمل المضَلّل6

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يردّد وهو يبني ويعمل:لا عيش إِلا عيش الآخرة، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان "عثمان بن عفان" ممن يهتمّ بنظافة ثيابه، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب، فأخذ عمار ينشد أبياتاً تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار:

لا يستوي مَن يَعمرُ المساجدا                     يَدأبُ فيها قائماً وقاعِدا

ومن يُرى عنِ الغُبارِ حائدا 7
وقد أغضب مفادُ هذه الابيات عثمان بن عفان، فقال لعمار مهدّداً: قد سمعتُ ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية، واللّه إِني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها، وفي يده عصا!!

فلما عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بكلام عثمان غضب وقال:"ما لَهُم وَلِعَمّار، يَدعوهُم إِلى الجنّة، وَيَدعُونَه إِلى النار.إِنّ عماراً جلدةُ ما بين عينيّ وأنفي.."8.
وكان "عمار" فتى الاسلام القوي، يحمل قدراً كبيراً من اللبن والاحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.فكان البعض يستغل طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والاحجار.

ويروى أن اصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله محبة منه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله9.وذات مرة رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا اليه عملهم وقال: يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وفرته10 وكان رجلاً جعداً وهو يقول قولته التاريخية:"ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، انما تقتلك الفئة الباغية"11.

وقد كان هذا الخبرُ الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وصدق دعواه، وصحة إخباراته، فقد وقع ما أخبره كما أخبر، فقد قتل "عمّار" وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عندما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام، فقتله أنصار معاوية، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثراً عجيباً في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معياراً لمعرفة الحق، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إِليه.وعندما قُتِلَ عمّار في ساحة القتال بصفين، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية "عليّ" عليه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل "عمّار" على أيدي أنصار معاوية بأن علياً على حق وأن معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

ومن هؤلاء "خزيمة بن ثابت" الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية، ولكنّه كان متردّداً في مقاتلته، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل "عمّار" على أيدي أهل الشام، وحمل علهيم 12.

ومنهم (ذو الكلاع) الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته، مع معاوية لمحاربة الامام عليّ عليه السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته إِعتماداً كبيراً، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إِلا بعدَ أن اطمأنَّ الى تأييده له، ومشاركته في قتال علي عليه السلام.فقد صُدِمَ القائد المخدوع بشدة عندما سمع بوجود "عمّار" في معسكر الامام "علي".

فأرادَ رجالُ معاوية أن يموِّهُوا الأمر، ويشوشوه عليه فقالوا: ما لعمار ولصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص:يا أبا عبد اللّه أما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "إن عماراً تقتله الفئة الباغية"؟
فقال عمرو:أجل، ولكن ليس عمار في رجال علي.
فقال ذو الكلاع:فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالاً بأن يتحقّقوا من الأمر.وفي هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية وعمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر "علي" أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إِذن لأحدث ذلك شرخاً كبيراً و تمزقاً فظيعاً في جيش الشام، من هنا تمت تصفية ذي الكلاع فوراً اذ قتل بصورة غامضة13.

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره، واسناده.
فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قُتِلَ عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع (أي يقول:إِنا للّه وإِنا إِليه راجعون) حتى دخل على معاوية، فقال معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتِل عمّار فقال معاوية: قد قُتِلَ عمّار فماذا؟ قال عمرو:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول:تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية:أوَنحن قتلناه انما قتله عليّ وأصحابه جاؤوا به حتى القوه بين رماحنا (وسيوفنا)14.ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إِليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام، ليس مقبولاً عند اللّه تعالى قط، كما لا يقبل به أيُّ عاقلٍ لبيبٍ.

فَإنَّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص، وهو مما لا قيمة له أبداً، فان هذا النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريقُ من المجرمين والجناة إِلى تبرير جرائمهم وفظائعهم بحجة "الاجتهاد"، وتحت غطائه.

واليك نموذجاً من هذا الأمر:ضئرُ أرأف من والدة!
لا يجد المرءُ عبارةً أفضلَ من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري (ابن كثير الشامي مؤلف البداية والنهاية).
فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال: لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاةً تكفيرهم، لأنهم وان كانوا بغاةً في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد (ثم يقول) وأما قوله: يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار فان عماراً وأصحابهُ يدعون أهل الشام إِلى الالفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وان يكون الناس أوزاعاً على كل قطر امامُ برأسه، وهذا يؤدي إِلى افتراق الكلمة واختلاف الاُمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه 15!ونحن لم نجد اسماً يناسب هذا العمل إِلا التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إِخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إِنكار هذه الحقيقة، ولكن مؤرخاً مثل ابن كثير عمد - رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!

يقول أحمد بن حنبل:دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد اللّه بن عمرو:ليطيب به أحدكما نفساً لصاحبه فاني سمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول:تقتله الفئة الباغية قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال:ان أبي شكاني إِلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال:اطع أباك ما دام حياً، ولا تعصه، فأنا معكم ولستُ اقاتل16.

إِن اعتذار "عبد اللّه بن عمرو بن العاص" يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول: إن معاوية قاتل "علياً" في صفين إِجتهاداً وايماناً، وإِن أخطأ في اجتهاده، وذلك لأن إِطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع، فهذا هو القرآن الكريم يقول:﴿وَإِنْ جاهَداك لِتُشْرِكَ بي ما لَيْس لَكَ بهِ عِلْم فَلا تُطِعْهُمَا17.

كما ان الاجتهاد إِنما يصح إِذا لم يكن في المقام نصّ صريح، ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وامثالهما باطلاً مرفوضاً، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم، ومحاربتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كما لا بدّ حينئذ أن نقول:إِن يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سفكهم لدماء الائمة المعصومين، والصالحين من المسلمين، بل ومأجورين في عملهم هذا.

انتهى النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلون من بناء المسجد، وظل يوسّع فيه كل عام شيئاً فشيئاً.وقد بُني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.وكلّف "عبادة بن الاصمت" بأن يعلّمهم الكتابة، وقراءة القرآن.

التآخي، أو أعظم معطيات الايمان
لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلاً جديداً في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فقد كان صلّى اللّه عليه وآله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إِلا جذب القلوب والدعوة إِلى دينه، ولكنه اليومَ عليه أن يعمل كصاحب دولة محنَّك على حفظ كيانه وكيان جماعته، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم، ولكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى:

1-خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.
2-خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.
3-الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث أن المهاجرين والانصار قد نشأوا في بيئتين مختلفتين، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة، وآداب السلوك، واسلوب التفكير اختلافاً كبيراً.
هذا مضافاً إِلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداءٍ قديمٍ وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب دموية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنةً بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية، والسياسية المستقرة أمراً ممكناً قط.ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة، غاية في الحنكة والابداع.فبالنسبة إِلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.وأما بالنسبة إِلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج تلك المشكلة بحذق كبير، وتدبير رائع جداً.فقد اُمر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.فجمعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم وقال لهم:"تآخوا في اللّه أَخوَينِ أَخَوَينِ".

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية، مثل "السيرة النبوية" لابن هشام 18 اسماء كلِّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.وبهذا الاسلوب كرَّس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الوحدةَ السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى اُسسَها ودعائهما.وقد سببت هذه الوحدة، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّرَ حلاً للمشكلتين الاُوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان
ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين، نذكرهما نحن هنا أيضاً: لقد آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول:يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة، قال له علي عليه السلام، وهو يبكي:"يا رسول اللّه آخيت بين أصحابكَ ولم تؤاخِ بيني وبين أحد"؟
فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد أخذ بيده:"أنت أخي في الدنيا والآخرة"19.
وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلاً اذ قال:فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعلي:" والذي بعثني بالحق نبياً ما أخّرتُكَ إَلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إِلا أنه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي"20.

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذه الرواية 21، وحيث أن هذا التشكيك نابع من نفسّيته الخاصة، ولا يقلّ تفاهةً وبطلاناً من إَعتداره ودفاعه عن معاوية، وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف، والمتتبع العدل.


منقبةُ اُخرى لعليّ عليه السلام
فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بناء المسجد، وقد بُنِيَت منازلُه ومنازل أصحابه حولَ المسجد، وكلُ شرع منه باباً إِلى المسجد، وخطّ لحمزة خطاً فبنى منزلَه فيه، وشرع بابَه الى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ماخط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إِلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال:"يا محمّد إِنَّ الله يأمُركَ أن تأمر كُلَّ من كان له بابُ إِلى المسجدِ أنْ يَسدَّهُ ولا يكون لأَحدٍ بابُ إِلى المسجد إِلا لكَ ولعليٍ عليه السلام".

يقول ابن الجوزي:فأوجدَ هذا الامرُ ضجة عند البعض، وظنُوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي، فخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الناس وقال فيما قال:"واللّه ما أنا أمرتُ بذلك، ولكنّ اللّهَ أمَر بسدّ أبوابِكم وَتركِ بابِ عليً"22.

وخلاصة القول أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قضى عن طريق المؤاخاة الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إِلى ذلك اليوم، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب
كانت المشكلةُ الثانيةُ التي يواجهها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يدرك جيداً أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمَّ الى صفوفه يهود يثرب، وبالتالي ما لم يقم وحدةً سياسيةً عريضةً في مركز حكومته، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو، ولن يتهيّأ له صلّى اللّه عليه وآله أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريشاً بخاصة.وبكلمةٍ واحدةٍ ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم اليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة، لأن كلا الجانبين كانا موحّدَين يعبدانِ اللّه، ويرفضان الأوثان، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون - إِذا اشتد ساعد المسلمين، وقويت شوكتهم أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم، هذا من جانب، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاولَ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن يكرّس هذا التفاهم، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش، ودفاعٍ مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقَّع عليها يهود المدينة أيضاً 23.وقد احترمَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.وقد أدرج كُتاب السيرة والمؤرّخون النصَّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم24.


ونظراً لأَهميّتها الخاصَّة، ولأنها تُعتبر مستنداً تاريخّياً حيّاً، قويَّ الدلالة، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه وآله بمبادئ الحرية والنظم والعدالة، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهةً متحدةً قويةً في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحدٍ من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية

بسم اللّه الرحمن الرحيم
هذا كتابُ من محمّد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.

*البند الاوّل
1-إِنّهم اُمّةُ واحدةُ من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها) يتعاقلون بينهم (أي يدفعون دية الدم) وهم يفدون عانيهم (أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

2-وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاُولى، كلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث، وبنو جشم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم(والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول، ودفع الفدية معاً لفكِّ الأسير).

3-وإِنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً (أي مثقلاً بالدّين وكثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداءٍ أو عقل (أي دفع ديةٍ او فداء أسير).

4-وإِنَّ المؤمنين المتقين (يد واحدة) على من بغى منهم، او ابتغى دسيعة (عظيمة) ظلمٍ أو إثمٍ أو عُدوان أو فساد بين المؤمنين، وأنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان وَلدَ احدهم.

5-وأَن لا يحالف مؤمن مولى (أي عبد) مؤمنٍ دونه (أي دون إِذنه).

6-وأن لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر (أي قصاصاً لمقتل كافر على يَدَي ذلك المؤمن) ولا ينصر كافراً على مؤمنٍ.

7-وانَّ ذمةَ اللّه واحدة (تشمل جميع المسلمين بلا استثناء) يجيرُ عليهم أدناهم (فاذا أجار عبد مسلم كافراً قُبِلَت إِجارته واحترِمَ أمانه).

8-وإَنّ المؤمنين بعضَهُم مواليَ بعض دون الناس.

9-وإِنّه مَن تبعنا من يهود فانَّ له النصرَ والاسوةَ غيرَ مظلومين، ولا متناصرين عليهم.

10-وإِنَّ سلمَ المؤمنين واحدةً لا يُسالَمُ مؤمنُ دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلا على سواءٍ وعَدل بينهم (فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقدِ معاهَدةِ صلحٍ مع أحدٍ من غير المسلمين إِلا بموافقة المسلمين).

11-وإِنَّ كلَّ غازيةٍ غزت معنا يعقّب بعضها بعضاً (أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد)، وانّ المؤمنين يبيء بعضُهم على بعض بما نالَ دماءَهم في سبيل اللّه (أي يراقُ منهم الدمُ على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض).

12-وإِن المؤمنين المتقين على أحسنِ هدى وأقومه.

13-وأن لا يجيرَ مشرك (من مشركي المدينة) مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحولَ دونه على مؤمنٍ (أي لايمنعه من مؤمن).

14-وإِنّه من اعتبط مؤمناً (أي قتل من المؤمنين مؤمناً بلا جناية منه توجب قتله) قتلاً عن بيّنة فانّه قِوَد به (أي يُقتَل بقتله قصاصاً) إِلا أن يرضى وليُّ المقتول.
وانّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إِلا قيام عليه.

15-وإِنّه لا يحلُّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن باللّهِ واليومِ الآخر، أن يَنصُر مُحدِثاً (صاحب بدعة) ولا يؤويه وأنه من نصرَهُ، وآواه فعليهِ لعنةُ اللّهِ وغضبُه يوم القيامة، ولا يُؤخذُ منه صرف ولا عدل.

16-وإِنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرّدَهُ إِلى اللّه عزّ وجل وَإِلى محمّد صلّى اللّه عليه وآله.

*البندُ الثاني
17-وإِنّ اليهودَ ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين (ودفاعاً عن المدينة).

18-وإِنّ يهود بني عوف اُمةُ من المؤمنين (وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إِلا من ظلم واثم، فانه لا يوتغ (لا يهلك) اّلا نفسه وأهل بيته (والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيدونه في فعله غالباً وعادة).والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائماً بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين مادام لم يكن ثمة ظالِمُ ومعتدٍ.

19-وإِنّ ليهود بين النجار، وبني الحارث وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس وبني ثعلبة، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، من الحقوق والامتيازات.وإِن جفنة بطن من ثعلبة (أي تلك القبيلة فرعُ من هذه)، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

20-وإِن البرَّ دونَ الإثم (أي أن يغلب حسناتُهم على سيّئاتِهم).

20-وإِن موالي ثعلبة (أي المتحالفين معهم) كأنفسهم.

22-وإِن بطانة يهود (أي خاصتهم) كأنفسهم.

23-وأنه لا يخرج منهم أحد (من هذه المعاهدة) إِلا باذن محمّد صلّى اللّه عليه وآله.

24-وإِنّه لا ينحجر على ثأر جرح (اي لا يضيع دم حتى الجرح)، وان من فتك (بأحد) فبنفسه فتك، وأهل بيته إِلا من ظلم (أي إَلا إِذا كان المفتوك به ظالماً).

25-وإِن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم،وانّ بينهم النصرَ على من حارب أهلَ هذه الصحيفة (أي أن على كل جماعةٍ من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب).

26-وإِن بينهم النصحَ والنصيحة (أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس) والبر دون الاثم.

27-وإِنّه لم يأثم امرؤ بحليفه (أي لا يحقُّ لأحدٍ أن يظلم حليفَه وأن النصرَ للمظلوم (لو فعل أحد ذلك).

28-وإِنّ يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة (أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقَّعَ على هذه الصحيفة).

29-وإِنّ الجار (وهو من يدخل في أمانِ أحد) كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، ( فلا يجوز إِلحاق ضرر به).

30-وإِنّه لا تجار حرمة إِلا باذن أهلها.

31-وإِنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو اشتجار يُخاف فسادُه فان مردَّهُ إِلى اللّهِ عزّ وجل وإِلى محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإِنَّ اللّه على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّهُ (أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة).

32-وإَنّه لا تجارُ قريش ولا من نَصَرَها.

*البندُ الثالث
33-وإن بينهم (أي بين اليهود والمسلمين) النصر على من دهم يثربَ(فعليهم معاً أن يدافعوا عن المدينة ضدَّ المعتدين).

34-واذا دُعوا (أي دعي المسلمون اليهود) الى صلح يصالحونه، ويلبسونه، فانهم يصالحونهُ ويَلبسونه.وإِنّهم اذا دُعوا (أي اذا دعا اليهودُ المسلمين) الى مثل ذلك (الصلح) فانه لهم على المؤمنين إِلا من حاربَ في الدين.فعلي اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقِدُه المسلمون مع الأعداء، وهكذا على المسلمين أن يقبَلوا بكلِّ صلح يعقده اليهود مع الاعداء إِلا إِذا كان ذلك العدوّ ممن يخالفُ الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

35-وإن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

*البندُ الرابع
36-وإِنهُ لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم. (فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إِذا ارتكبَ خطيئةً وجنايةً).

37-وإِنّه من خرج (من المدينة) آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إِلا من ظلم أو أثم.

ثم خُتِمَت هذه المعاهدة بالعبارة التالية:"وإِنّ اللّه جارٍ لِمَن بَرَّ واتّقى، ومحمّدُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله"25.
إنَّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدُّ نموذجاً كاملاً لرعاية الاسلام، وحرصِه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد، ومبدأ الرفاه الاجتماعي العام، وضرورة التعاون في الاُمور العامة، بل وتوضّح هذه المعاهدةُ فوق كلّ ذلك حدودَ صلاحّيات واختيارات القائد، ومسؤوليّة كلِّ الموقّعينَعليها، وعلى أمثالها.

على أنه وإِن لم يشترك يهودُ "بني قريظة" و "بني النضير" و "بني قينقاع"في إِبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها، بل شارك فيها يهودُ الأوس والخزرج فقط، إِلا أنّ تلك الطوائف اليهودية (الثلاث) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي:أن لا يُعينوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولا على أحدٍ من أصحابه بِلسان ولا يدٍ ولا بسلاح ولا بكراع (أي الخيل وغيرها من المراكب) في السر والعلانية لا بليلٍ ولا بنهارٍ، اللّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلٍّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ونسائِهم، وأخذ أموالهم.

وقد كتبَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لكلِّ قبيلة منهم كتاباً على حدة على هذا الغرار، ثم وقع عليها "حيُ بن أخطب" عن قبيلة بني النضير، و "كعب بن أسد" عن بني قريظة، و"المخيريق" عن قبيلة بني قينقاع 26.وبهذا سادَ الأمنُ يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرماً آمناً.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المشكلة الاُولى، يعني قريشاً لأنه مادام هذا العدوُّ يعرقل حركة الدعوة، ويقف سدّاً أمام تبليغ الاسلام، فلن يُوَفّقَ لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه، وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية
لقد تسبّبت تعاليمُ الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عددُ المنتمين الى الاسلام يوماً بعد يوم، وتزداد بذلك قوّةُ الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وقد أحدث هذا التقدمُ المتزايد الباهر قلقاً وضجةً عجيبةً في الأوساط اليهودية الدينية، لأنهم كانوا يتصوَّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتقويته وتأييده جرَّه إلى صفوفهم، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله سيحصل بذاته على قوةٍ تفوق قوة اليهود والنصارى، من هنا بَدَأوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بغية زعزعة إِيمان المسلمين بنبيّهم، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أيّ أثر في صفوف المسلمين المتراصّة وإيمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.ويستطيع القارئ العزيزُ من خلال قراءة آياتِ هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يُبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أجوبةٍ واضحةٍ لكلِّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام، ويحجمون عن الاعتراف به، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إِياهم إِلى اعتناق الاسلام:"قلوبُنا غلف".أي لانفهم ما تقول!!!27.

اسلام عبد اللّه بن سلام
هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لاتزيد غالبية اليهود إَلا تعنّتاً وعناداً، ولكنها كانت تسببّ أحياناً يقظة البعض وإِقبالهم على الاسلام، مثل "عبد اللّه بن سلام".فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم، برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة28.

ولم يمض وقتُ كبيرُ على اسلام ابن سلام إِلا والتحق به عالمُ آخر من علماء اليهود هو "المخيريق".

وكان عبد اللّه بن سلام يعلم بأنه سيذمُّه قومّه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم، من هنا طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يكتم عن الناس إِسلامه، ريثما يحصل أولاً على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه، وبمعرفتِه وصلاحِه قائلاً:" يا رسول اللّه إِن يهود قومُ بُهُت، وأني أحبُّ أن تُدخلني في بعضِ بيوتِك، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إِن علموا به بهتوني وعابوني".

فأدخله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه:"أيُّ رجلٍ الحصينُ بنُ سلام فيكم؟".

قالوا:سيدُنا وابنُ سيدنا، وحَبرُنا وعالمُنا، فخرجَ عليهم "عبدُ اللّه بنُ سلام" من مخبئه وقال لهم: يا معشر يهود اتّقوا اللّهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللّه إِنّكم لتعلمون أنه لرسول اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فاني أشهدُ أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، واُؤمن به واُصدقه وأعرِفُه.
فغضب اليهودُ من مقالته، وقالوا له: كذبتَ، ووقعوا فيه، وعابوه، وبهتوه 29.

خطةُ اُخرى للقضاءِ على الحكومة الاسلامية
لم تضعف مجادلاتُ اليهود واسئلتّهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانَهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فحسب، بل تسبَّبَت في أن تتضح مكانته العلمية، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وصدَّقوه.من هنا دبَّر اليهودُ مؤامرة اُخرى وهي التذرُّع باُسلوبِ "فرِقْ تسُدْ"، لالقاء الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة، بعد أن كانت مشتعلةً طوال مائة وعشرين عاماً متواليةً، ليستطعيوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دونما استثناء.

ففيما كان نفرُ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه إِذ مرّ عليهم "شاس بن قيس" وهو يهوديُ شديد العداء للإسلام، عظيمُ الكفر، شديدُ الضغن على المسلمين، فغاظه ما رأى من اُلفة الأوس والخزرج، واجتماعهم وتوادُدِهم، وصلاح ذاتَ بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوةِ الطويلة في الجاهلية، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له:إِعْمِدْ إِليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بعاث30 وما كان قبله وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!ايقاعاً بين هاتين الطائفتين من الأنصار، وإِثارة لنيران الاحقاد الدفينة، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلامُ اليهوديُ ما أمره به "شاس " فتكلمَ القومُ عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، وتواثبَ رجلان من القبيلتين على الرُكَب وأخذ كل منهما يهدّدُ الآخر، وتفاقم النزاعُ، وغضب الفريقان وتصايحا، وقاما إِلى السلاح وكاد أن يقع قتالُ ودمُ بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعرف بمكيدة اليهود، ومؤامرتهم الخبيثة هذه، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال:"يا معشر المسلمين، اللّهَ اللّهَ اَبِدعوى الجاهليةِ وأنا بينَ أظهُرِكُم بَعدَ أن هَداكُم لِلإسلام، وأكرَمَكُم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهِليّة، واستَنقذكُم به من الكُفر، وألَّف بينَ قُلُوبِكُم؟؟".

فعرف القومُ أنها مؤامرة مبيَّنة من اليهود اعداءِ الاسلام والمسلمين، وكيدُ خبيثُ منهم، فندموا على ما حدث، وبكَوا وعانَق الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضاً، ثم انصّرفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سامعين مطيعين، وأطفأ اللّهُ عنهم كيدَ أعدائهم 31.

إِلا أن مؤمرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ، ولم تنته بهذا، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصةَ مع مشركي الأوس والخزرج، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم، واشتركوا بصورةٍ صريحةٍ في اعتداءات قريش على المسلمين، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين، وكانوا يُقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين، ويعملون لصالحهم!

وقد جَرّت هذه النشاطاتُ السرّيةُ والعلنيةُ المضادَّةُ المعاديةُ للاسلام والمسلمين، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش، جرّت إِلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إِلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما، بنقض العهد، ومعاداة الاسلام والمسلمين، والتآمر ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خاصّة، وبنصرة أعدائه، ودعم خصومِه، الأمرُ الذي أجبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم، وإِخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على ما تبقى مِن كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة من ربيع الأول من السنة الاُولى للهجرة إِلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها، وقد أسلم في هذه الفترة كلُ من تبقّى من الأوس والخزرج، ولم يبق دارُ من دور الانصار إِلا أسلم أهلُها، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر32.


1-لا بدّ اأنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيداً أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكة وحطّ في الباقي من شهرها الثالث (أي ربيع الاول) على أرض يثرب، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام (وليس من اثني عشر ربيع الاول).
2-راجع صحيح البخاري:ج 1 كتاب العلم، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد، بقيت المدارس تبنى وتشيَّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.
3-السيرة النبوية:ج 2 ص 503 قال أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المسجد: بانت سعاد.
4-تاريخ الخميس: ج 2 ص 136.
5-بحار الأنوار:ج 19 ص 112.
6-السيرة النبوية:ج 1 ص 496.
7-السيرة النبوية: ج 1 ص 496، وتاريخ الخميس: ج 1 ص 345 والسيرة الحلبية: ج 2 ص 76 ومع ان ابن اسحاق صرح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب الدنية: المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضاً.
8-تاريخ الخميس: ج 1 ص 345.
9-السيرة الحلبية: ج 2 ص 71، البداية والنهاية: ج 2 ص 217.
10-أي شعر راسه.
11-المصدران السابقان.
12-المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 385 ووقعة صفين لابن مزاحم.
13-وقعة صفين:377 و378.
14-مسند الامام احمد بن حنبل: ج 4 ص 198.
15-البداية والنهاية: ج 2 ص 218.
16-مسند احمد بن حنبل: ج 2 ص 164و 165.
17-العنكبوت: 8.
18-السيرة النبوية:ج 1 ص 504 - 507.
19-المستدرك على الصحيحين:ج 3 ص 14.
20-ينابيع المودة:ص 56، ونظيره في السيرة النبوية.
21-تذكرة الخواص:ص 46، بتصرف بسيط.
22-البداية والنهاية:ج 2 ص 226.
23-المقصود منهم يهود الأوس والخزرج، وأما يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة فقد عقد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله معهم معاهدة مستقلةً سنذكرها.
24-مثل السيرة النبوية:ج 1 ص 501.
25-السيرة النبوية:ج 1 ص 503 و 504، الاموال:ص 125 - 202.
26-بحار الأنوار:ج 19 ص 110و 111.احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.
27-للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 530 - 572، بحار الأنوار: ج 9 ص 303 فما بعد.
28-للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية: ج 1 ص 530 - 572، بحار الأنوار: ج 9 ص 303 فما بعد.
29-السيرة النبوية:ج 1 ص 516.
30-قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا: هو يوم اقتتلت فيه الأوسُ والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.
31-السيرة النبوية:ج 1 ص 555 - 557.
32-السيرة النبوية: ج 1 ص 500.