معرفة النبي> خاتمية النبوة

ما معنى الشريعة الثابتة

ليس في الكون المادي، أمر خالد باق مدى الدهور وتعاقب الأجيال، لأنّ التحوّل ناموس عام في الطبيعة، وعلى ذلك، فكيف يقرر الإسلام سنناً وقوانين ثابتة، منذ بعثة الرسول إلى يوم القيامة، فإنّ الاعتقاد بخاتمية الرسول وكتابه وسننه وتشريعاته، يلازم الاعتقاد بثباتها في هذا الكون الّذي كتب على جبينه عدم القرار والثبات.

الجــواب
إنّ السؤال نَجَم من الخلط بين الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها، فالمتغيّر هو الأول دون الثاني، فإنّ السماء والأرض وما فيهما لا تستقرّ على حالة واحدة، وأمّا النواميس السائدة عليها فهي ثابتة أبدية لا يصيبها التبدّل، ولا تقع في إطار الحركة والتحوّل.

مثلاً: المعادلات الرياضية، وقانون الجاذبّية، والثقل النوعي في الموجودات، وإنكسار الضوء وأحكام العَدَسِيّات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزيائية، ثابتة غير متغيرة، سائدة في كل الظروف والأزمنة.

ومثله: الأحكام الشرعية، المحمولة على الموضوعات الخارجية فالموضوعات وإن كانت تتغير، والمجتمع يتحول من حال إلى أُخرى، ولكن لكلّ موضوع في حال خاص حكم لا يتغير ما دام الموضوع موضوعاً، وإذا تبدّل، فالتبدّل يستلزم رفع الحكم برفع موضوعه لا استبداله بحكم آخر.

وبذلك تقف على مدى وهن ما يُعترض به على ثبات قوانين الإسلام، بأنّه ليس عندنا أصل ثابت وشيء مستقر، بل الكون بأجمعه يموج بالتحولات والتغيرات.

إذ فيه مضافاً إلى ما ذكرنا من الخلط بين القانون ومُنْطَبَقه، أَنّ قولَهم هذا بأنّه ليس عندنا علم ثابت، هو بحدّ ذاته، قانون ثابت لدى المعترض، فهو في الوقت الّذي يعترض فيه على ثبات القوانين وبقائها، يعترف بقانون ثابت في العالم، وهو أنّه "ليس عندنا قانون ثابت".


كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصر اقتضاءً خاصّاً؟1
التطور الاجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين المجتمع، والقانون الموضوع في ظرف خاص، ربما يكون مضرّاً أو غير مفيد في ظرف آخر، ومقتضيات الزَّمان (القوانين)، تختلف باختلاف ألوان الحياة والظروف الطارئة على المجتمع، فما صحّ بالأمس، لا يصحّ اليوم، وما يصحّ اليوم لا يصحّ غداً. وعلى هذا فلو كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود في جميع الظروف والأحوال إلى يوم القيامة، لكنها لما كانت متغيرة ومتحوّلة، فلا يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائماً، فكيف يصحّ القول بأنّ شريعة الإسلام شريعة خالدة، إذ لا يُعنى من خاتمية النبوة، إلاّ خاتمية الشريعة وبقاؤها إلى الأبد؟

الجـــــواب
إنّ هذه الشبهة من أَهم الشبهات في موضوع الخاتمية، ومنشؤها تخيل أنّ التحوّل يدبّ في جميع شؤون الإنسان، وأمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان مع قطع النظر عمّا يحيط به من الظروف المختلفة روحيات وغرائز لا تتغير أبداً، ولا تَنْفَكُّ عنه، وهي في الحقيقة مشخصات تكوينية له، بها يتميز عن سائر الحيوانات، فالشبهة مندفعة من رأس، فإنّ القوانين والسنن الراجعة إليها، تكون ثابتة خالدة، حسب خلودها، إذا كانت موافقة لما تقتضيه.

توضيحه: إنّ السائل قد قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المختلفة المتبدلة، الّتي هي نتيجة تكامل الحضارات والمجتمعات، وذهل عن أنّ للإنسان غرائز ثابتة وروحيات خالدة، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها وتشريعٌ يعدِّلها، ويصونها عن الإفراط والتفريط، فبما أنّ هذه الغرائز والفطريات، لا تمسّها يد التغيّر، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة، والصالحة لهدايتها، تخلد بخلودها وتثبت بثبوتها، فلو كان السائل واقفاً على أنّ الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية، ومشخصات طارئة متغيرة، لوقف على أنّ القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة وتعديلها تَثْبُت على جبين الدَّهر، ما دام الإنسان إنساناً، وأمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة، فلا تصلح للخلود والثبات. وإليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه.

1- الروابط العائلية، كرابطة الولد بوالديه، والأخ بأخيه، هي روابط طبيعية، لوجود الوحدة الروحية، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط، من التوارث أولاً، ولزوم التكريم والصِّلة ثانياً، من الأحكام الّتي لا تتغيّر بتغيّر الزمان، فلا تجد مجتمعاً ينادي بقطع التوارث بين الوالد والولد، أو قطع الحضانة بين الأُم وولدها، أو ما شابه ذلك.

2- إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس، فهما موجودان بشريان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً، على رغم كل الدعايات السخيفة الّتي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. ولأجل ذلك اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر اختلافاً يقتضيه طبع كل منهما. فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله.

3- الإنسان بما هو موجود اجتماعي، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله، إلى العيش الاجتماعي، والحياة العائلية، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان، ما برحت تقوم عليهما ـ في جملة ما تقوم عليه ـ منذ تكون الإنسان.

ومن المعلوم أنّ الحياة الاجتماعية والعائلية، ليستا غنيتين عن التشريع لتنظيمهما، فلو كان التشريع حافظاً لحقوق الأفراد، خالياً عن الظلم والجور، مبنياً على مِلاكات واقعية، يدوم هذا القانون، ما دام مرتكزاً على العدل والصلاح.

4- التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال، وممّا لا يشك فيه أنّ الخمر والميسر، والإباحية الجنسية، ضربات تقصم ظَهْر الأخلاق وتقضي عليها، فالخمر يزيل العقل، والميسر يُنبت العداوة في المجتمع، والإباحية الجنسية تُفْسد الحرث والنسل، فالأحكام الراجعة إليها ثابتة دائماً.

وحصيلة البحث: أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها، لا يوجب أن يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب، والنقل، ومعدات التكتيك الحربي، و..، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم، ووجوب العدل، ولزوم أداء الأمانة، والوفاء بالعهود والأَيْمان، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى التحسين والتقبيح العقليين، الّتي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع موضوعاً.

أجل، إنّ تقلب الأحوال، وتحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحولاً في السنن والأنظمة، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين، غير أنّه لا يتطلب تحوّلاً فيما يمسّ واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية الّتي تدير الكون بأُصولها الثابتة، فلا تتغير النسب الرياضية، ولا القواعد الهندسية، وإن تطورت الأوضاع وتحولت.

*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص514-518
 


1- الفرق بين هذا السؤال وسابقه واضح، فإنّ الأول، يعتمد على أصل فلسفي وهو شمول التحول لكلّ ما في الكون، وانطلاقاً من هذا الأصل لا يمكن الاعتراف بثبات أصل وقانون. والسؤال الثاني سؤال اجتماعي، وهو لزوم اختلاف القوانين حسب اختلاف المقتضيات، والاعتراف بهذا لا يجتمع مع القول بثبوت سنن الإسلام وقوانينه.