سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الرابعة للهجرة

تحريم الخمر (غزوة ذات الرقاع، غزوة بدر الصغرى)

رواية مختلَقَة وقفة عند "البيان الشافي"
بدرُ الثانية غزوةُ ذات الرقاع
  ولادةُ السبط الأصغر لرسول اللّه


1- تحريم الخمر
كانت الخمور، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجر اليها أكبر الأخطار، ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر مما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء، ذلكم هو العقل، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان وبين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء، وكانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية1.

وقد كان يحبّ أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ: (آية اللّه السيد البروجردي) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور والمسكرات، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة "قم"، وبعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد، وقد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس وكنت أنا ووالدي حاضرين هناك كذلك. فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو: لماذا حرم الاسلام المسكرات ؟فقال الامام البروجردي: يكفي أن اُشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة وهي أن الخمرة تحطّم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء، ويتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية ومتجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل، واسلوب مدروس، ولم تكن الظروف والاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسولُ الاسلام عن تحريم الخمر دفعةً واحدةً ومن دون اية مقدمات، وممهّدات لذلك، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماماً كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض، وتجذر. من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمطٍ واحدٍ، بل بدأت من مرحلةٍ مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعن في هذه الآيات يكشف لنا عن كيفيّة الاُسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد، والدعوة والهداية، وينبغي للخطباء، والكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة، ويكافحوها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلاً على أضرار ذلك السلوك، ومفاسده، وتذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع- بذلك- الاستعداد الروحي بل والدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد، والخلق الذميم، ويكون الناس هم الضمانة لإنجاح هذه المهمة. وذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف2.

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر. اذا مِت فادفني الى جنب كرمة تروّي عظامي بعد موتي عروقُها3

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور والاعناب- في مجتمع كان تعاطي الخمر جزءاً أساسياً من حياته- مخالفاً للرزق الحسن، وبذلك ايقظ العقول العافية، إذ قال: )وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4.

إنّ القرآن أعلن- في المرحلة الاُولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر- أن اتخاذ المسكر من التمر والعنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية: أعطت هزةً ذكيّةً للعقول وهيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يشدد من نبرته، ويعلن عن طريق آية اُخرى أنّ النفع المادي القليل، الذي تعود به الخمر ويأتي به القمار، ليس بشيء بالقياس الى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة، وقد تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى: ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا( 5.

ولا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع والضرر، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كافٍ لايجاد النفور والاشمئزاز لدى العقلاء، والداعين من الخمر وما شاكلها، وشابهها. إلا أن جماهير الناس وعامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهياً صريحاً وقاطعاً عنها.

فها هو عبد الرحمان بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمراً، فأكلوا، وشربوا الخمر، ثم قاموا الى الصلاة، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيَّر من مراد اللّه تعالى فيما قرأ من الآية، فقد تلا سورة "الكافرون"، وبدل أن يقول: ) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ( قرأ: "أعبُدُ ما تعبدون". فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمراً عظيماً !! وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر، وقد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول اللّه تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَاتَقُولُون(6.

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يُطرد من حياة المسلم نهائياً. ولكن البعض بقي يتعاطاها حتى أنّ رجلاً من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر- رغم نزول الآية الحاضرة- فلما شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض، وجرح بعضهم بعضاً فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقداً عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر.

ولا يخفى أن هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريماً كاملاً وقاطعاً، من هنا نزل قولُه تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (7.

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطعُ أن يقلع عن الخمر نهائياً من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.وقد جاء في كتب السنة والشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية: إنتهينا يا ربّ8 !!

وقفة عند "البيان الشافي"
قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر، بل بقي ينتظر بياناً شافياً يكشف عن التحريم القطعي، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات، وقد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو: أنّ الخمر "رجس من عملِ الشيطان فاجتنبوهُ لعلّكم تُفلِحون" ولكن المتغربين، وهواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر، فيقولون لا بدّ أن يُعلن عن هذا التحريم بلفظة: حرام أو حرّمت، والا لم يمكن القطع بحرمة الخمر !!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها، الأسيرة لشهواتها الحرام، لا تريد في الحقيقة إلا أن تظل عاكفة على الخمر أبداً، ومن هنا تطرح مثل هذه المعاذير وتتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء. على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكلٍ ما في شأن الخمر إذ قال: )وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا(9.

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اُخرى إذ قال:)قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ(10. وبعبارة اُخرى: لقد بين اللّه تعالى في آية اُخرى الموضوع، وهو أن الخمر (التي تسمّى إثماً أيضاً) قد حُرِمّت. فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بياناً كافياً شافياً ؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبداً فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها "رجس" وأنها نظير "الميسر"، وأنها "عمل شيطاني"، مناقض للفلاح، وسبب "للعداوة" و"البغضاء"، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها، ولا غموض، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطةٍ هامةٍ وهي أن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله إستطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع، بيئته ومجتمعهُ من أدران هذه العادة الشريرة، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار، بينما لم يستطع العالمُ الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوةً ناجحةً في هذا الطريق، فقد اخفقت كل خططه، أمام هذا السمّ القاتل، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933- 1935 أمر معروف للجميع، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها 11.

رواية مختلَقَة
ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطاً: "اعبد ما تعبدون" فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَاتَقُولُون(.

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي عليه السلام مثل هذه النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر12 وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله الذي كان يتجنب الخمر، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها، هذا وعلي عليه السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن علياً عليه السلام شرب الخمر، وهناك في الجاهلية (وقبل الاسلام) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل، ويؤول بالمرء الى ما لا يُحمد. ففي السيرة الحلبية كان عبد اللّه بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرماً بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبداً.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضاً وقال: لا أشرب شيئاً يذهِبُ عقلي، ويضحكُ بي من هو أدنى مني، ويحملُني على أن اُنِكح كريمتي من لا أريد13. وورد عن الامام محمد الباقر عليه السلام قال: أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع خصال. فدعاه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فأخبره فقال: لولا أن اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك:
 ما شربتُ خمراً قط لأني لو شربتها زال عقلي.
وما كذبتُ قط لان الكذب ينقص المروة.
وما زنيت قط لأني خفت إذا عملتُ عُمِل بي.
وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله على عاتقه وقال: "حق للّه تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة"14. نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام علي عليه السلام من الخمر، ولو في العهد الجاهلي، وقبل تحريمها في الاسلام. لكن يد الوضع والدس أبت إلا أن تختلق رواية في المقام، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سنداً ومتناً ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ:

1- حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمان قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمان عن علي أنه كان هو وعبد الرحمان ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمان فقرأ: يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت: لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

2- حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن حبيب أن عبد الرحمان بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا علياً يصلّي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون اعبُد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية: ) لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَاتَقُولُون(15.

والروايتان- مضافاً إلى ما يرد عليهما من الاشكال- تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما، فكلتا الروايتان تنهيان إلى عطاء بن السائب، وهو مطعون في وثاقته وديانته، وفي حفظه وحديثه، واليك ماقال عنه أئمة علم الرجال:

قال عنه الذهبي: عطاء بن السائب أحد علماء التابعين، تغيّر باخرة وساء حفظه.
قال عنه أحمد: من سمع منه قديماً فهو صحيح، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء.
وقال عنه يحيى بن معين: لا يحتج به.
وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى: حديثه ضعيف.
وقال عنه أبو حاتم: محلّه الصدق قبل أن يخلّط.
وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.
وقال ابن عليّة: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فكنا نسأله، فكان يتوهّم، فنقول له: مَن؟ فيقول: اشياخنا ميسرة، وزاذان، وفلان.
وقال الحميدي، حدثنا سفيان، قال: كنتُ سمعتُ من عطاء بن السائب قديماً، ثم قدم علينا قِدمةً فسمعته يحدثُ فسمعته يحدثُ ببعض ما كنتُ سمعتُ، فخلّط فيه، فاتقيته واعتزلته.
واضاف الذهبي: "ومن مناكير عطاء..."16.

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال، انه سيئ الحفظ، ضعيف مخلّط له مناكير، يتوهّم، تغيّر باخرة، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن علياً عليه السلام كان مأموماً في هذه القصة (كما في الرواية الاُولى) وتارة يقول كان عليه السلام إماماً للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره، وأوهامه بلا ريب، إذ كيف يصح أن يُنسب إلى رجلٍ لازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره، شرب الخمر، والائتمام برجل دونه في الفضل، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم ؟!

ولنستمع معاً إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام عن فترة صباه في كنف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها: قال عليه السلام: "قد علمتُم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجره وأنا ولد يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويُمسّني جسده ويُشمُّني عرفه، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فِعل، ولقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه وآله من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلُك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنتُ اتبعُه إتباع الفصيل أثر اُمه، يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به"17.

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي عليه السلام وغيره، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل، كما فعل سيد قطب في تفسيره "في ظلال القرآن"18، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوةُ ذات الرقاع
قيل إنما سُمّيت هذه الغزوة، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة. وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، والرقاع فسُمِت هذه الغزوة بذات الرقاع19. وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماماً مثل بقية الغزوات، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الإشتعال، والانفجار، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبُثّ أشخاصاً أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية، وفي أوساط القبائل. فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها، فسار اليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلاً بنجد قريبة من مكان العدو 20.

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها. لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب، واللجوء الى رؤوس الجبال، وقد خافوا ألا يبرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى يستأصلهم. وقد صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف، التي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قوياً في تجهيزاته وقواه، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

مواقف خالدة في هذه الغزوة
يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام21 وأمين الاسلام الطبرسي 22 قصصاً عجيبة، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله مع أعدائه، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحُرّاس الصامدون
مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قِتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم، واستراح في شِعبٍ في أثناء الطريق، وبات ليلته هناك، ثم كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله رجلين بحراسة الجيش ليلاً يد عيان: "عباد" و"عمار"، فقسم الرجلان الليل بينهما، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش، وكان الذي سهر أول الليل هو "عباد". ثم إن رجلاً من العدوّ خرج في أثر المسلمين، وكان يقصد أن يريق دماً أو يصيب شيئاً ويعود الى محله.

وقام "عباد" يصلّي، وأقبل ذلك الرجل يطلب غِرّةً فلما رأى "عباد" سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه: نعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم، وحرسهم ففوّق له سهماً ورماه به فأصاب عباداً ولكن عبّاداً نزع السهم ووضعه، وثبت قائماً يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر، فأصابه فانتزعه وثبت قائماً فرماه بثالثٍفنزعه، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد اُصبتُ، فجلس عمّار، فلمّا رأى الاعرابُي أن عماراً قد قام علم أنهما قد علما به،: فقال عمّار: أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به ؟!

قال: كنتُ في سورة أقرأُها وهي سورة الكهف، فكرهتُ أن أقطعها حتى أفرغ منها، ولولا أني خشيتُ أن اضيّع ثغراً أمرني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما انصرفت ولو أتى على نفسي23. وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدرُ الثانية
لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم " اُحُد" نادى: موعُدنا وموعدُكم بدرُ الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل. ولهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المسلمين بأن يتهيّأوا للدفاع عن أنفسهم وقد مر على وقعة "اُحد" عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريشاً آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول اللّه في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام "نعيم بن مسعود" الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة، فجاءه أبو سفيان وقال له: إنّي وعدتُ محمّداً وأصحابه يوم "اُحد" أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول، وقد جاء ذلك، ولا يصلح أن نخرج اليه العام.

فقال نعيم: ما أقدمني إلا ما رأيتُ محمّداً وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع، وقد تجلّب اليه حلفاءُ الأوس، فتركتُ المدينة أمس وهي كالرمّانة. فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد، ويخذّلهم. وعاد "نعيم" إلى المدينة، وراح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلا أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فخرج صلّى اللّه عليه وآله في ألفٍ وخمسمائة مقاتل من أصحابه، وقد خرجوا ببضائع لهم، وتجارات حتى انتهوا الى "بدر" وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيراً ثم تفرّق الناس، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه. وقد كان هذا الاجراء اجراءً عسكرياً حكيماً ورائعاً إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه الى بدر، لم ير حكّام مكة المشركون بدّاً من الخروج إلى بدر حفاظاً على ماء الوجه، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط، فاعترض صفوان بن اُميّة على أبي سفيان وقال: قد واللّه نهيتُك يومئذ أن تعد القوم، وقد اجترأوا علينا، ورأوا انا قد أخلفناهم، وانما خلفنا الضعف عنهم24.

ولادةُ السبط الأصغر لرسول اللّه
وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة (الرابعة من الهجرة) وُلِد السبط الثاني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الامام الحسين بن عليّ25 ، كما توفيت "فاطمة بنت أسد" والدة الإمام علي عليه السلام26.
وفي هذا العام بالذات أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود 27.


1- عام 1339 هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران، وقد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي المسكرات.
2- مفاتيح الغيب: ج 2 ص 263.
3- أي ما يسكر.
4- النحل: 67.
5- البقرة: 219.
6 النساء: 43.
7 المائدة: 90.
8- مستدرك الوسائل: ج 4 ص 143، روح المعاني: ج 7 ص 15.
9- البقرة: 219.
10- الاعراف: 33.
11- راجع ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 80 وغيره.
12- الاحزاب: 33، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.
13- السيرة الحلبية: ج 1 ص 130.
14- الدرجات الرفيعة: ص 70 نقلاً عن الامالي لابن بابويه.
15- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري: ج 5 ص 61.
16- ميزان الاعتدال: ج 3 ص 70- 73.
17- نهج البلاغة: الخطبة رقم 192.
18- عند تفسير قوله تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
19- السيرة النبوية، الهوامش: ج 2 ص 204.
20- امتاع الاسماع: ج 1 ص 188.
21- السيرة النبوية: ج 2 ص 205- 209.
22- مجمع البيان: ج 3 ص 103.
23- السيرة النبوية: ج 2 ص 208، المغازي: ج 1 ص 397.
24- المغازي: ج 1 ص 384- 390، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة. وتسمى هذه الغزوة "بدر الموعد".
25- تاريخ الخميس: ج 1 ص 467.
26- تاريخ الخميس: ج 1 ص 467.
27- إمتاع الاسماع: ص 187، تاريخ الخميس: ج 1 ص 464.


ا