سيرة سيد المرسلين> ما قبل البعثة الشريفة

العَرَب قبلَ الإسلام
 

صورٌ من الوضع الجاهلي وهذه القبائل الاُمّ هي
العقيدة والدين في الجزيرة العربية أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة
  هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟

لمعرفة أوضاع العرب قبل الإسلام يمكن الرجوع إلى المصادر التالية

1- التوراة على ما فيها من تحريفات .

2- كتابات اليونانيين والروميين في القرون الوسطى .

3- الكتابات التاريخية الّتي كتبها علماء الإسلام ومؤلفوه .

4- الآثار القديمة الّتي عثر عليها المستشرقون في تنقيباتهم والّتي استطاعت من أن تكشف النقاب عن طائفة لا يُستهان بها من الحقائق في هذا الصعيد .

إلاّ انه مع وجود كل هذه المصادر والمراجع لا تزال هناك نقاطٌ كثيرةٌ عن تاريخ العرب في القرون البعيدة تعاني من الغموض .

ولكن حيث أنَّ دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام هي من باب المقدمة في هذا الكتاب، والهدف الاساسي إنما هو دراسة السيرة النبوية الطاهرة، من هنا نكتفي في هذا الفصل باستعراض النقاط الخاصة والواضحة من حياة العرب قبيل الإسلام على اننا يمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب خاصة قبيل بزوغ الإسلام من خلال مصدرين اسلاميين اساسيين هما:

1- القرآن الكريم .

2- ماورد عن الامام علي ـ عليه السلام ـ في نهج البلاغة.

فقد وردت في هذين المصدرين تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عن ما كان عليه العرب في الجاهلية من سوء الأحوال والاوضاع والاخلاق في جميع الاصعدة والابعاد، وسنشير إلى ابرز هذه النصوص ونقف عندها بعض الشيء، ولكننا نستعرض قبل ذلك شيئاً من تاريخ العرب في القرون البعيدة فنقول:

إن من المسلَّم أن شبه الجزيرة العربية كان منذ أقدم العصور موطناً لقبائل كثيرة انقرض بعضها بمرور الايام، وفي ثنايا الاحداث، بيد ان هناك ثلاث قبائل قد تشعَّبتْ عنها أفخاذٌ وفروعٌ تحظى بشهرة اكثر من بين من سكنوا هذه المنطقة .

وهذه القبائل الاُمّ هي

1- العرب البائدة: وإنما سُميت بالبائدة لأنها أبيدت بالعذاب الالهي السماوىّ أو الأرضىّ بسبب عصيانها وتمردها، وهلكت شيئاً فشيئاً، ولم يبق على وجه الارض من نسلهم أحد!

ولعلهم كانوا هم المعنيون بقوم "عاد" و "ثمود" الذين جاء ذكرُهم في القرآن الكريم مراراً .

2- القحطانيّون: وهم أبناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يقطنون في "اليمن" وسائر المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية ويُسمّون بالعرب الاُصلاء، وهم اليمينون اليوم، ومنهم قبائل الأوس والخزرج وهما قبيلتان كبيرتان كانتا تقطنان المدينة المنورة إبان ظهور الإسلام .

وقد كان للقحطانين حكومات كثيرة، كما كانت لهم جهودٌ كبرى في تعمير ارض اليمن واحيائها، وقد تركوا من ورائهم حضارات ومدنيّات لا يستهان بها .

وتوجد الآن كتابات تُقرأ بصورة علمية توضحُ إلى حدّ كبير تاريخ القحطانيين وكلُ ما يقال عن مدنيّة العرب وحضارتهم قبل الإسلام تعود في الحقيقة إلى هذه الطائفة وخاصة من سكَنَ منهم ارضَ اليمن .

3- العدنانيون: وهم أبناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ،

وسوف يأتي ذكر جذور هذه الطبقة في الابحاث القادمة. وخلاصة ذلك: أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ اُمرَان يسكن وَلده الرضيع اسماعيل مع زوجته "هاجر" ام اسماعيل في ارض مكة، فخرج بهما ابراهيم ـ عليه السلام ـ من "فلسطين" وهبط بهما في ذلك الوادي العميق الخالي عن الماء والعشب "مكة" ثم ان يد العناية الالهية امتدت إلى تلك العائلة المهاجرة، وجادت عليها بعين "زمزم" الّذي جلب الرواء والحياة إلى تلك المنطقة القاحلة الضامئة.

ثم تزوج إسماعيل من قبيلة "جُرهُمْ" الّتي خيّمت بالقرب من مكة، واصاب من هذا الزواج عدداً كبيراً من الابناء، والاحفاد، وأحفاد الاحفاد كان من جملتهم "عدنان" الّذي ينتهي نسبه إلى النبي اسماعيل عبر عدد من الآباء والجدود .

ثم تشعَّبت ذريةُ إسماعيل إلى بطون وأفخاذ، وعشائر وقبائل عديدة، كان من بينها قبيلة قريش الّتي حظيت بشهرة أكبر، ومنها عشيرة بني هاشم الّتي انحدر منها رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما ستعرف ذلك بالتفصيل، عما قريب .

أخلاقُ العرب وتقاليدُهم العامة
والمراد منها هو الأَخلاق والآداب الاجتماعية الّتي كانت سائدة في ذلك المجتمع، وقد سادت بعض هذه الاخلاق والعادات والتقاليد في المجتمع العربي عامة.

ويمكن تلخيصُ ما كانَ العربُ يتمتعون به من أخلاق وصفات حسنة عامة في ما يلي :

لقد كان العرب زمن الجاهلية وبخاصة ولد "عدنان" أسخياء بالطبع، يكرمون الضيف، وقلّما يخونون في الامانة، لا يغتفرون نقض العهود، ولا يتهاونون مع من يتنكر للمواثيق، يضحون في سبيل المعتقد، ويتحلون بالصراحة الكاملة، وربما وجد فيهم من تمتع بذكاء لامع، وذاكرة خارقة يحفظ بها الأشعار والقصائد الطوال، والخطب المفصلة.

هذا إلى جانب براعتهم في فن الشعر والخطابة بحيث لم يسبقهم في ذلك غيرهم وإلى جانب انهم كانوا مضرب المثل في الشجاعة والجرأة، والمهارة في الفروسية والرمي.

يرون الفرار والادبار في الحرب عاراً لازماً، وصفة ذميمة يلام صاحبها بسببها اشد اللوم .

ولكن في مقابل ذلك كله كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تغطي على كل كمال عندهم، وتنسي كل فضيلة .

ولولا تلك الكوة المباركة الّتي فتحت عليهم من عالم الغيب، لطويت صفحة حياتهم الإنسانية على القطع واليقين .

يعني لو لم تبزغ شمس الإسلام في أواسط القرن السادس الميلادي، ولم تسطع اشعتها الباعثة على الحياة، على عقولهم وقلوبهم لما رأيت اليوم من العرب العدنانيين اي اثر، ولتكرّرت مقولة العرب البائدة مرة اُخرى !

لقد حَوَّل فقدان القيادة الرشيدة، وغياب الثقافة الصحيحة حياة العرَب، من جانب، وانتشار الفساد والفحشاء من جانب آخر إلى حياة حيوانية مُزرية حتّى أن صفحات التاريخ تروي لنا أخباراً وقصصاً مفصلة عن حروب دام بعضها خمسين عاماً، وبعضها الآخر مائة عام قد نشبت بين الاطراف العربية لأسباب طفيفة ودوافع تافهة جدا .

لقد أدى عدم سيادة النظام والقانون على الحياة العربية، وعدم وجود حكومة قوية مسيطرة على الاوضاع، توقف البغاة والمتمردين عند حدودهم، إلى أن يعيش العرب ـ آنذاك ـ في صورة القبائل الرُحّل، ويرحلوا في كل سنة إلى منطقة معينة من الصحراء التماساً للعشب والماء لانفسهم ولانعامهم، فاذا عثروا على ماء وعُشب أو شيء من آثار الحياة نزلوا عنده، وأنزلوا رحالهم بجواره، فاذا سمعوا عن وجود مكان افضل استأنفوا رحلتهم الصحراوية التماساً لحياة اكثر بركة، وعطاء، وأوفر خصباً وأمناً .


هذه الحيرة وهذا الضياع وعدم الاستقرار كان ناتجاً من أمرين


الأوّل:سوء الاوضاع الجغرافية ورداءة الأحوال الطبيعية للجزيرة العربية، وخاصة من حيث الماء والمناخ والمراعي .

والآخر: الحروب والمصادمات الدمَوية الكثيرة، واضطراب الأحوال الاجتماعية، الّتي كانت تُلجىء جماعات كثيرة إلى التنقل الدائم والرحيل عن الأوطان ومغادرتها، وعدم الاستقرار في منطقة معينة .

هل كانَ للعرب حضَارةٌ قبل الإسلام؟
يستنتج مؤلف كتاب "حضارة العرب" من دراسته لأوضاع العرب الجاهلية أن العرب كانوا أصحاب حضارة عريقة سبقت الإسلام بقرون .

فالقصور الضخمة الّتي أقاموها في مختلف نقاط ومناطق الجزيرة العربية، والعلاقات التجارية الّتي كانت لهم مع ارقى شعوب الأَرض، شواهد قوية على تمدنهم وحضارتهم الغابرة، لأن قوماً أنشأوا المدن العظيمة ـ قبل الرومان بقرون كثيرة ـ وكانت علاقاتهم بارقى واكبر شعوب الأرض وثيقة، لا يمكن عدهم همجاً، وشعباً بلا حضارة.

ثم إنه يستدل ـ في موضع آخر من كتابه ـ على حضارة العرب الغابرة بادابهم ووحدة وكمال لغتهم إذ يقول: "ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة لقطعنا ـ مع ذلك ـ بوجودها قبل ظهور "محمَّد" بزمن طويل، ويكفي لتمثّلها أن نذكر أنه كان للعرب آداب ناضجة ولغة راقية .

والحق أنَّ الآداب واللغة من الاُمور الّتي لا تأتي عفواً، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل، وينشأ عن إتصال اُمة بأرقى الامم اقتباسُها لما عند هذه الاُمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك" .

وقد خَصَّصَ المؤلفُ المذكور صفحات عديدة في كتابه لإثبات حضارة عريقة وعظيمة للعرب قبل الإسلام معتمداً في ذلك على ثلاث اُمور:
1- وجود لغة راقية .

2- وجود علاقات مع الامم الراقية .

3- وجود قصور وأبنية ضخمة، وفخمة في اليمن كما يصفها المؤرخان المسيحيان المعروفان "هيردوتس" و "ارتميدور" اللذان كانا يعيشان قبل المسيح بقرون، وقدامى المؤرخين المسلمين كالمسعودي1 .

لا كلام في أنه كانت هناك في بعض مناطق الجزيرة العربية بعضُ حضارات، ولكن الأدلة الّتي استند اليها المؤلفُ المذكورُ لا يمكن ان تكون شاهداً ودليلاً على وجود الحضارة في جميع نقاط الجزيرة العربية أبداً .

صحيح أن تكامل اللغة يسير جنباً إلى جنب مع غيره من مظاهر المدنيّة، ولكن لا يمكن ان نعتبر اللغة العربية لغة مستقلة وغير مرتبطة باللغات الاُخرى اي العبرانية والسريانية والآشورية والكلدانية، لأن جميع هذه اللغات ـ حسب ما يؤيده ويؤكده المتخصصون في علم اللغات ـ كانت ذات يوم ـ متحدة الأصل، وقد تشعبت من لغة واحدة، وفي هذه الحالة يحتمل أن تكون اللغة العربية قد حققت تكاملها عبر اللغة العبرانية أو الآشورية، وبعد تكاملها أصبحت لغة مستقلة، أي ان الآخرين أسهموا في تكميلها .

كما أنه لا شك أنّ وجود علاقات تجارية مع الاُمم والشعوب الراقية هو الآخر دليل على الحضارة والمدنية إلاّ أنه هل كانت جميع مناطق الجزيرة العربية تملك مثل هذه العلاقات، أم إن اكثرها كانت محرومة من ذلك؟

هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فان وجود علاقات بين حكومتين في الحجاز وهما: "الحيرة وغسان" وبين حكومتي "الفرس" و "الروم" لا يدل أبداً على وجود حضارة في المنطقتين الحجازيتين إذ أن جميع هذه الحكومات كانت متصفة بالعمالة، فان الكثير من البلاد الافريقية هي اليوم من مستعمرات الدول الاوربية ومع ذلك لا توجد فيها اية مؤشرات ولا اية مظاهر من الحضارة الغربية الواقعية .

طبعاً لا يمكن إنكار حضارة "سبأ ومأرب اليمن" العجيبة لأنه مضافاً إلى ما جاء حول هذه الحضارة في التوراة، وما نُقِلَ عن "هيردوتس" وغيره، كتبَ المؤرخ المعروفُ "المسعودي" عن مأرب يقول: إن ارض سبأ كانت من أخصب أراضي اليمن وأَثراها وأغدقها، واكثرها جناناً وغيطاناً وأفسحها مُروجاً، بين بُنيان وجسد مقيم وشجر موصوف ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار متفرقة، وكانت مسيرة اكثر من شهر للراكب المجدّ على هذه الحال، وفي العرض مثل ذلك، وانّ الراكب أو المارّ كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس، ولا يفارقه الظِلُ لاستتار الارض بالعمارة والشجر واستيلائها عليها واحاطتها بها، فكان أهلها في اطيب عيش وارفهه، وأهنا حال وارغده، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء، وتدفُّق المياه وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة... فذلّت لهم البلاد، واذعن لطاعتهم العباد فصاروا تاج الارض2.

وخلاصة القول أن هذه الدلائل لا تدل على وجود حضارة في كل مناطق الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز الّتي لم تذق طعم الحضارة أبداً، حتّى أن "غوستاف لوبون" نفسه يعترف بهذه الحقيقة إذ يقول: "ان جزيرة العرب نجَتْ من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وإن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم يَنالوا شيئاً من جزيرة العرب الّتي أوصدت دونهم أبوابها"3 .

وعلى فرض صحة كل ما قيلَ عن وجود حضارة شاملة في جميع مناطق الجزيرة العربية فانه يجب القول بان القدر المسلَّم في هذا المجال هو انه لم يبق أي اثر من هذه الحضارات في منطقة الحجاز، إبان طلوع الإسلام، وبزوغ شمسه، وهي حقيقة يصرح بها القرآن الكريمُ إذ يقول تعالى:﴿ وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفرَة مِنَ النّار فأنقَذكُمْ مِنْها4 .

وينْبغي هنا أن نقف عند القرآن الكريم قليلا ـ كما وعَدْنا بذلك ـ فانه خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بدقة متناهية وبشمولية ماوراءها شمولية .

ملامح المجتمع الجاهلي العربي في منظور القرآن
إن القرآن يكشف إجمالا عن أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بُعِثَ إلى قوم لم يبعث اليها احد قبله إذ يقول:﴿ وَلَكِنْ رَحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبْلكَ لَعلَّهُمْ يَتَذكَّرُونَ5.

ويقول في آية اُخرى﴿:أمْ يَقُولونَ افتراه بَلْ هُوَ الحقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذرَ قوماً ما أتاهُمْ مِنْ نَذير مِنْ قَبلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدونَ6 .

ومن المعلوم أن المقصود في هاتين الايتين ونظائرهما هم قريش والقبائل القريبة اليها.

على أن أشمل وصف قرآنىّ لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي وأحواله هو قول اللّه تعالى:﴿ وَاْعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعداء فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَته إخواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفَرَة مِنَ النّار فَأَنقذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ7 .

فإنَّ هذه الآية تصوّرُ حياة العرب تصويراً مرعباً، إذ تُصوِّرُهُمْ اولا وكأنهم قد سقطوا في قعر بئر الجاهلية، والضلال والشقاء فلا ينقذهم شيء من قعر التردي والسقوط الاّ التمسُّك بحبل اللّه، حبل الإيمان والقرآن .

وتصوِّرُهُمْ ثانياً وكأَنهم على شفير جهنم يوشكون أن يسقطوا فيه ويهووا في نيرانه، وليست تلك النار إلاّ نيران العداوات والحروب الّتي لو لم يقض عليها الإسلامُ بتعاليمه لاُحرقت حياة العرب جميعاً .

هذه هي صورةٌ سريعةٌ عما كان عليه العرب في الجاهلية من جهل وسقوط .

وامّا تفصيل ذلك فيمكن الوقوف عليه بمراجعة الآيات الاُخرى التي تعرضت لذكر عادات العرب وأخلاقهم، وأفعالهم وتقاليدهم، بصورة مفصلة، وها نحن نشير هنا إلى تلكم العادات والاخلاق الفاسدة على ضوء تلك الآيات على نحو الاختصار تاركين التوسع في ذلك إلى مجال آخر .

لقد اتصف المجتمعُ العربىُ الجاهلي قبل الإسلام وشاعت فيه أخلاق وعادات من أبرزها مايلي:

1- الشِرْكُ في العِبادة
صحيح أن العرب في الجاهلية كانت ـ كما يكشف القرآن ذلك لنا ـ موحِّدة في جملة من الامور والمجالات كالخالقية والتدبير والذات8 إلاّ أنهم كانوا ـ في الأكثر ـ مشركين في العبادة، بل قد ذَهبُوا في هذا السبيل الباطل إلى أحطَّ المستويات في إتخاذ المعبودات والوثنية .

وإلى ذلك يشير قوله تعالى:﴿وَجَعلُوا للّه شُركاء الجِنَّ وَ خَلَقهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِيْنَ وَ بَنات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحانَه و تَعالى عَما يَصِفُونَ9 .

وقوله تعالى:﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعزّى وَ مَناةَ الثالِثَةَ الاُخْرى10 .

وغير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ما كانَ يعبُدُه الجاهِليُّون مِن أوثان وأصنام ومبلغ ما وصلوا إليه من انحطاط، واسفاف وانحراف في هذا المجال .

2- إنكارُ المعاد
كان المشركون والجاهليون يرفُضُون الاعتراف بالمعاد الّذي يعني عودة الإنسان إلى الحياة في عالم آخر للحساب والجزاء، ويصفون من يخبر عن ذلك اليوم بالجنون أو الكذب على اللّه!!

يقول تعالى﴿:وَ قالَ الَّذينَ كَفَروا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلى رَجل يُنبِّئكُمْ إذا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إنَكُمْ لفي خَلق جَديد، وأفْترى عَلى اللّه كَذِباً أمْ به جِنَّةٌ بَلِ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة في الْعذابِ وَالضَّلالِ البِعيْد11.

3- هَيْمَنةُ الخرافات

لقد كانت حياة العرب الجاهلية مليئةً بالخرافات الّتي كان منها تحريمهم الأكل من أنعام اربعة ذكرها القرآن مندداً بهذه البدعة إذ قال:﴿ ما جَعَل اللّهُ مِنْ بَحيرة ولا سائبة وَ لا وَصيْلَة وَ لا حام ولكنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَفْترونَ عَلى اللّهِ الكِذبَ وأكثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ12 .

أمّا البحيرة بوزن فعِلية بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق، فهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها اُنثى ـ وقيل ذكر ـ بحروا اُذنها وشقوها ليكون ذلك علامة وتركوها ترعى، ولا يستعملها أحد في شيء .

وأمّا السائبة على وزن فاعلة بمعناها أو بمعنى مفعولة فهي الناقة إذا نتجت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة ـ فهي تُهمَل ولا تُركب. ولا تمنع عن ماء، ولا يشرب لبنها الاضيف .

وأمّا الوصيلة بوزن فعيلة بمعنى فاعلة أوبمعنى مفعولة فهي الشاة تنتج سبعة أبطن أوتنتج عناقين عناقين .

وأمّا الحامي بوزن فاعل من الحمى بمعنى المنع فهو الفَحل من الإبل الّذي يستخدم للقاح الاُناث، فاذا وُلدَ من ظهره عشرة ابطن قالوا: حُمِي ظهره فلا يحمل عليه، ولا يُمنع من ماء ومرعى13 .

والظاهر ان هذا المذهب تجاه هذه الانواع من الانعام كان بدافع الاحترام والشكر لما وهب أصحابها من النعم والبركات، غير ان هذا العمل ـ كان في حقيقته ـ نوعاً من الإيذاء والإضرار بهذه الحيوانات، لأنهم كانوا يُهملونها ويحرمونها من العناية اللازمة فكانت تشقى بقية حياتها، وتقاسي من الحرمان، مضافاً إلى ما كان يصيبُها من التلف والضياع، وما يلحق ثروتهم والنعم الّتي وهبها اللّه لهم من هذا الطريق من الضرر والخسارة .

والأسوأ من كل ذلك أنهم ـ كما يُستفاد من ذيل الآية ـ كانوا ينسبون هذه المبتدعات المنكرات وهذا المنع والحظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ يقول سبحانه: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللّه الكذبَ وقد أعلمَ اللّه في مطلع الآية أنه لم يحرّم مِن هذه الاشياء شيئاً، وأنهم ليكذبون على اللّه بادّعائهم أن هذه الأشياء من فعل اللّه أو أمره .

وقد أشار القرآن إلى هذه الخرافات الّتي كانت تُكبّل عقول الناس في ذلك المجتمع إذ يقول:﴿ و يَضَعُ عَنْهُمْ إصرَهُم والأغلالَ الّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ14 .

4- الفساد الاخلاقي
كان المجتمع الجاهلي العربي يعاني من فساد ذريع في الاخلاق وقد أشار القرآن الكريم إلى اثنين من أبرز وسائل الفساد ومظاهره هما: القمار الّذي كانوا يسمّونه بالميسر وانما اشتق من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيُسر وسهولة من غير كدٍّ ولا تعب والخمر .

وقد بلغ شغفهم بالخمر أنهم أعرضوا عن قبول الإسلام واعتناقه لأنه يحرّم تناول الخمر وشربه، كما نقرأ ذلك في قصة الاعشى عما قريب .

يقول القرآنُ في هذا الصعيد﴿:يَسأَلونَكَ عَن الخَمْر والمَيْسر قُلْ فيها إثمٌ كبيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاس وَ إثمُهما اكبرُ مِنَ نفْعِهما15  .

وقد استطاع القرآن الكريم عبر مراحل أربع أن يستأصل هذه العادة البغيضة الّتي كانت قد تجذرت بشكل عجيب في نفوس ذلك القوم، حتّى اصبحت السمة البارزة لحياتهم واصبح التغنّي بالخمرة، ووصفها الطابع الغالب لآدابهم، واللون البارز الّذي يصبغ قصائدهم واشعارهم .

على أن الفساد الأخلاقي في المجتمع الجاهلي العربّي قبل الإسلام لم يكن ليقتصر على معاقرة الخمر، ومزاولة الميسر بل تعدى إلى ألوان اُخرى ذكرها القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً، حيث عدّ منها الزنا، واللوط، والقذف، وإكراه الفتيات على البغاء وماشا كل ذلك16 .

5- وَأدُ البنات وإقبارُهن
ويشير القرآن الكريم أيضاً إلى عادة جاهلية سيئة اُخرى كانت رائجة بين قبائل العرب الجاهلية قاطبة وهي دفن البنت حيةً .

فقد شجب القرآن الكريم هذه العادة البغيضة وهذا العمل اللانساني ونهى عنه بشدة في اربعة مواضع، إذ قال تعالى:﴿ وَ إذا المَوؤدةُ سُئلتْ. بأىّ ذَنب قُتِلَتْ17. وقال تعالى:﴿ وَ لا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خَشيَةَ إمْلاق نَحْنُ نَرزقُهُمْ وَ إياكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كبيراً 18 .

وقد اتى جدُ "الفرزدق" "صعصعة بن ناجية بن عقال" رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعدّ من اعماله الصالحة في الجاهلية أنه فدى مائتين وثمانين موؤدة في الجاهلية، وأَنقَذهُنَّ من الموت المحتَّمْ باشترائهنَّ من آبائهن بأمواله .

وقد افتخر "الفرزدق" بإحياء جدِّه للموؤدات في كثير من شعره إذ قال:

 ومنّا الّذي منَع الوائدات        وأحيا الوئيد فلم يُوأد19

6- تصوراتهم الخرافية حول الملائكة
وممّا اشار إليه القرآن الكريم تصورات العرب الجاهلية حول الملائكة، فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة من الإناث وأنهن بنات اللّه، إذ يقول تعالى:﴿فَاستَفْتِهِمْ ألرَبِّكَ البَناتُ وَلَّهُمْ البَنُونُ. امْ خَلَقْنا الْمَلائكَةَ إناثاً وَهُمْ شاهِدونَ. ألا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَ إنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أصطفى البَناتِ عَلى البَنينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ20 .

7- كيفية الانتفاع من الانعام
إذا كانت العربُ الجاهلية تمتنع من تناول لحوم الأنعام الاربعة المذكورة آنفاً وتجتنب عن استعمال ألبانها وشعورها وأصوافها إلا أنها كانت في المقابل تتناول الدم، والميتة والخنزير، وتأكل من الحيوانات والأنعام الّتي تقتلها بصورة قاسية، وبالتعذيب والأذى، وربما كانت تعتبر ذلك نوعاً من العبادة، ويُعرف ذلك من الآية التالية الّتي نزلت تنهى بشدة عن أكل هذه اللحوم، وتحرّم تناولها، إذ يقول سبحانه: ﴿حُرِّمتْ عَليْكُمُ الميْتَة والدَّمُ وَلَحمُ الْخِنْزيرِ وَ ما اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَ المُنخَنقةُ والموقوذةُ والمتردِّيةُ والنَطيحةُ وَ ما اكَلَ السَبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلى النُصُب وأن تَسْتَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْق ٌ21 .

فقد حرم اللّه في هذه الآية اكل
1- الميتة .

2- الدم.

3- لحم الخنزير .

4- ما ذكر اسم غير اللّه عليه .

5ـ الّتي تموت خنقاً، وهي المنخنقة .

6- الّتي تضرب حتّى تموت، وهي الموقوذة .

7ـ الّتي تقع من مكان عال فتموت وهي المتردية .

8ـ الّتي تموت نطحاً من حيوان آخر وهي النطيحة .

9ـ ما افترسه سبع إلا إذا ذُكي قبل موته .

10- وما ذُبِح أمام الاصنام .

8- الاستقسام بالازلام
فقد كان تقسيم لحم الذبيحة يتم عن طريق الأزلام، والأزلام جمع زلم بوزن شَرَف وهي عيدان وسهام تستخدم في ما يشبه القرعة لتقسيم لحم الذبيحة .

فقد كان يشتري عشرة أنفار بعيراً ثم يذبحونه، ثم يكتبون على سبعة منها اسهماً مختلفة من الواحد إلى السبعة ولا يكتبون على ثلاثة منها شيئاً، ثم يجعلونها في كيس ثم يستخرجونها واحدة بعد اُخرى، كلُ واحدة باسم أحدهم فيأخذ كل واحد منهم من الذبيحة ما خرج له من السهم، وهكذا يقتسمون الذبيحة بينهم22، فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله: وأن تَستَقْسِمُوا بِالأزلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ لأنَّه ضربٌ من القمار الّذي ينطوي على مفاسد الميسر والقمار .

9- النسيء
كان العرب الجاهليون يعتقدون حرمة الاشهر الحرم وهي اربعة المحرم ورجب وذوالقعدة وذوالحجة فكانوا يتحرجون فيها من القتال، وجرت عادة العرب على هذا من زمن إبراهيم واسماعيل ـ عليهما السلام ـ .

الاّ أنَ سَدَنة الكعبة أو رؤساء العرب كانوا يعمَدُون أحياناً، ولقاء مبالغَ يأخذُونها، أو جرياً مع أهوائهم، إلى تأخير الاشهر الحُرمَ، وهو الأمر الّذي عبّر عنه القرآن الكريم بالنسيء ثمّ نهى عنه وعدّه كفراً إذ قال:﴿ إنّما النّسيء زيادةٌ في الكُفْر يُضَلُّ به الَّذينَ كَفرُوا يُحِلونَهُ عامَاً وَ يحرِّمُونهُ عاماً ليُواطئوا عدَّة ما حَرَّمَ اللّه فيحلّوا ما حَرَّمَ اللّه زيِّنَ لهُم سوء أعْمالِهمْ واللّه لا يهدي الْقومَ الْكافِرين َ23 .

وقد ذكرت كُتُب التاريخ والسير كيفية النسيء وتأخير الأشهر الحرم، الّذي كان يتم بصورة مختلفة منها: أن جماعة ما لو كانت ترغب في استمرار الغارة والقتال ولم تطق تاخير النضال مدة الاشهر الحرم كانت تطلب من سدنة الكعبة، لقاء ما تقدمه لهم من هدايا واموال، تجويز الغارة والقتال في شهر محرم، وتحرم القتال في شهر صفر بدله ليتم عدد الأشهر الحرم وهي اربعة. وهذا هو معنى قوله تعالى: ليُواطِئوا عدةَ ما حَرَّمَ اللّهُ وكانوا إذا أحلُّوا الْقتالَ والغارة في المحرم من سنة حَرَّمُوه في المحرم مِنَ السَنة التالية، وهذا هو معنى قوله تعالى: يُحلُّونَهُ عاماً، ويُحرِّمُونِه عاماً .

10- الربا
وممّا يشير إليه القرآنُ الكريم من المفاسد الشائعة، والأعمال المنكرة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام: "الربا" الّذي كان يشكل العمود الفقري في اقتصاد ذلك المجتمع .

وقد حاربَ القرآنُ الكريمُ هذه العادة المقيتة، وهذا الفسادَ الاقتصادي حرباً شعواء، إذ قال تعالى:﴿ يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا اتّقوا اللّهَ وَذَرُوا ما بقيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ. فَإنْ لَم تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِه و إنْ تُبْتُمْ فَلكُمْ رُؤُوسُ اموالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَ لا تظْلَمُونَ24 .

والعجيب أنهم كانُوا يُبّررونَ هذا العمل اللإنساني بقولهم إنّما البيعُ مِثلُ الرِّبا25 فاذا كان البيعُ حلالا وهو اخذ وعطاء فليكن الرّبا كذلك حلالا، فإنه أخذٌ وعطاء أيضاً، مع أن "الرّبا" من ابشع صور الاستغلال، وقد ردَّ سبحانه على هذه المقالة بقوله تعالى: ﴿وأَحلَّ اللّه البَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا26 ففي البيع والشراء يتساوى الطرفان في تحمل الضرر المحتمل، بينما لا يتضرر المرابي في النظام الربوي أبداً وإنّما يلحق الضرر بمعطي الربا دائماً، ولهذا تنمو المؤسسات الربوية، ويعظم رصيدُها، وثروتها يوماً بعد يوم فيما يزداد الطرفُ الآخر بؤساً وفقراً، ولا يحصل من جهوده المضنية إلا على ما يسدُّ جوعته، ويقيم اوده، لا اكثر، كلُ ذلك نتيجة لهذا الاسلوب الاقتصادي غير العادل .

صورٌ من الوضع الجاهلي
ما قدمناه كان أبرز المفاسد الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي اشار اليها القرآن الكريمُ، وأما التاريخ فمليء بالصور والقصص الّتي تحكي عن تردي حالة العرب الجاهلية وسقوطها الفضيع في قعر الفساد في جميع المناحي والجهات .

واليك في ما يلي نماذج وصور معدودة تكفي للوقوف على الحالة العامة في ذلك المجتمع نقتبسها لك من أصحّ المصادر واوثقها:

وها نحن نقدم قصة "أسعد بن زرارة" الّتي تسلط الضوء على ما كان عليه الوضع الجاهلي في اكثر مناطق الحجاز، فقد قدم "أسعد بن زرارة" و "ذكوان بن عبد قيس" ـ وهما من الأوس وكان بين الاوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم "يوم بُعاث" وقد انتصر فيها الأوسُ على الخزرج ـ مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الاوس، وكان اسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال: انه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة: إن لَنا شغلا لا نتفرّغ لشيء. قال سعد: وما شغلكم وأنتمْ في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول اللّه سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا وأفسدَ شُبّاننا، وفرّق جماعَتَنا، فقال له أسعد: مَنّ هو منكم؟ قال: ابن عبداللّه بن عبدالمطلب من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً .

وكان أسعد وذكوان، وجميع الاوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع، أن هذا أوان نبىّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنكم به يا معشر العرب، فلما سمعَ ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعَ من اليهود، قال: فأينَ هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصَرة بني هاشم في شعب أبي طالب، فقال له "أسعد": فكيف أصنعُ وأنا معتمر لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضعْ في اُذنيكَ القطنَ، فدخل "أسعدُ" المسجد وقد حشا اُذُنيه بالقطن، فطاف بالبيت ورسول اللّه جالس في الحجر مع قوم من، فرفع رسولُ اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رأسه إليه وقال: قد أبدَلَنا اللّه به ما هو احسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم، قال له أسعد:إنَ عهدَك بهذا لقريب، إلى ما تدعُويا محمَّد؟ قال: إلى شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه، واني رسولُ اللّه، و أدْعُوكُمْ إلى: ﴿ألاّ تشركوا بِه شَيئاً وَ بِالوالِدَينِ إحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِنْ إمْلاق نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وإيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبوا الفواحِشَ ما ظَهرَ منها وما بطَنَ وَ لا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ذلِكمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعلكُمْ تَعْقِلُونَ،وَ لا تَقرَبُوا مالَ اليتيم إلاّ بِالَّتي هي أَحسنُ حَتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَ أوْفُوا الكيلَ وَ الْميزان بِالقِسْطِ لانُكَلِّفُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها وإذا قلتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذاقربى وَ بِعَهْدِ اللّه أوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُون َ27 .

فلما سمع "أسعد" هذا قال له: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنك رسولُ اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت واُمي...28 .

إن الامعان في مفاد هاتين الآيتين يغنينا عن دراسة شاملة وواسعة لاوضاع العرب الجاهلية لأن هاتين الآيتين تكشفان عن الأمراض الاخلاقية الّتي كانت تكتنف حياة العرب الجاهلية. ولهذا تلا رسول اللّه الآيات الّتي تشير إلى هذه الادواء والامراض ليلفت نظر "أسعد" إلى أهداف رسالته الكبرى .

العقيدة والدين في الجزيرة العربية
عند ما رفع "إبراهيم الخليل" لواء التوحيد في البيئة الحجازية، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه "اسماعيل"، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم، الاّ انه من غير المعلوم إلى اىّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع، ويؤلف صفوفاً متراصة، وجبهة عريضة قوية من الموحدين، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان "بنومليح" من خزاعة يعبدون الجن وكانت "حمير" تعبد الشمس، و "كنانة" تعبد القمر، و "تميم" الدبران، و "لخم" و "جذام" المشتري، و"طي" سُهيلا، و "قيس" الشِعرى، و "أسد" عطارداً .

أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة ـ ثلا ثمائة وستين صنماً، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها .

وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة بعد "إبراهيم الخليل" ـ عليه السلام ـ على يد "عمر بن لحي"، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة، وأنها بالتالي آلهة وأرباب .

وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة .

أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً .

وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافىّ لقدْره، وإذا ارتحل تركه .

وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، ويمكن أن تكون هذه هي "الأنصاب" الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة، وأما "الأصنام" فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان .

لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم، وجلائل شؤونهم، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي الأمر والنهي وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها إفْعَلْ وعلى بعضها الآخر لا تَفْعَلْ فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك .

وخلاصة القول، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس 360 صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة، وقصّة ابراهيم .

وكان من جملة تلك الأصنام: "اللات" و "العُزّى" و "مناة" الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش .

وكانت "اللات" تعتبر اُمُّ الالهة، وكان موضعها بالقرب من "الطائف" وكانت من الحجر الابيض، و أما "مناة" فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين "مكة" و "المدينة".

ولقد اصطحب "ابوسفيان" معه يوم "اُحد": "اللات" و "العزّى".

ويروى انه مرض ذات يوم "أبو أُحيحة" وهو رجل من بني اُمية، مرضه الّذي مات فيه، فدخل عليه ابولهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال: لاولكنى اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب: واللّه ما عُبدَت حياتك اي لا جلك ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة: الآن علمتُ ان لي خليفة29 .

ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها "هُبَل"، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، والشمس، والقمر، والحجر، والخشب، والتراب، والتمر، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، والهيكل، والاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد .

لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها، وتقبر جسده على مقربة من المذبح .

هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُصُب المؤلَّهة، والتماثيل المعبودة، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء والعدّ، إذ قال:

أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب                 أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ

عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً          كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها              ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ

ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً              لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ

ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي               لِيَغْفِرَ ذَنبِىّ الربُّ الغفُورُ
30

وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة، تناقضاتٌ، وصراعاتٌ، وحروب ومناحرات، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالة .


1 - حضارة العرب: 78 ـ 100 .
2 - مروج الذهب: ج 2، ص 161 و 162.
3 - حضارة العرب: ص 93 .
4 - آل عمران: 103 .
5 - القصص: 46 .
6 - السجده: 3 .
7 - آل عمران: 103 .
8 - نعم يُستَفاد من آية واحدة أنّه كان هناك اتجاهٌ نادرٌ بين العرب في الجاهلية ينسب الظواهر الطبيعية إلى الطبيعة والدهر يقول اللّه تعالى: "وَ قالوا ما هي إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحيا وَ ما يُهلِكُنا إلاّ الدَهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مَنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ" الجاثية: 24 .
9 - الأنعام: 100 .
10 - النجم: 19 و 20 .
11 - سبأ: 7 و 8 .
12 - المائدة: 103 .
13 - راجع مجمع البيان: ج 3، ص 252 و 253 في تفسير الآية .
14 - الأعراف: 157 و راجع المحبر: ص 330 ـ 332 .
15 - البقرة: 219 .
16 - راجع للوقوف على ذلك سورة النساء: 15 و 16. وسورة النور: 2 و 3 وغيرها. وراجع المحبر: ص 340 .
17 - التكوير: 8 و 9 .
18 - الإسراء: 31 .
19 - بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3، ص 45 و 46 .
20 - الصافّات: 149 ـ 154 .
21 - المائدة: 3 .
22 - راجع للوقوف على تفصيل هذه الطريقة بلوغ الارب: ج 3، ص 62 و 63، والمحبر: ص 332 و 335 .
23 - التوبة: 37 .
24 - البقرة: 278 و 279 .
25 - البقرة: 275 .
26 - البقرة: 275 .
27 - الأنعام: 151 و 152 .
28 - بحارالأنوار: ج 19، ص 8 و 9، اعلام الورى: ص 35 ـ 40 .
29 - الأصنام للكلبي: ص 23 .
30 - بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 2، ص 249 و جاء البصير .