سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة السادسة للهجرة

تمرّد بني المُصطَلِق

منافق حاول إشعال الموقف غزوة بني المُصطلِق
الزَّواجُ المبارك صراع بين الايمان والعاطفة
  الفاسق يفتضح


لقد بلغَت قوةُ المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حداً ملفتاً للنظر، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية، ومن دون خوف، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي كان يتواجد فيها القبائل المشركة، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

واذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله يقدم على شراء الاسلحة،وبعث السرايا، والمجموعات العسكرية، ولكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية، ومجموعات الارشاد والدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة، والاذى، بل والاغتيال من قِبَل العدو، لذلك كان رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله مضطراً بحكم العقل والفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله تتلخص في إحدى الامور التالية:

1- الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة، مثل معركة "بدر"و"اُحد" و"الخندق".

2- تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالاً أبرياء من المسلمين، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم، وتتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث (بني قينقاع، بني النضير، بني قريظة) وبني لحيان.

3- افشان واحباط المؤامرات، أو محاولات التمرُّد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال والاسلحة غزو المدينة، واكتساح عاصمة الاسلام، واستئصال المسلمين، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المُصطلِق
كان بنو المصطلق من قبائل "خزاعة" المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها، فقرّر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائماً.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو: "بريدة" إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم، فذهب بريدة، ودخل فيهم وتحادث- في هيئة متنكرة- مع رئيسهم وعرف بنيته، ثم عاد إلى المدينة واخبر رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله بما رآه وسمعه، وأن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى "المُريسيع"، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسيب في أن لا يطول القتال بين المسلمين وبين " بني المصطلق" فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال، كما وقتل رجل مسلم خطأ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق1.

هذا وان النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في حوادث هذه الغزوة، مّما سنذكر بعضها عما قريب.

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين والأنصار، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الإتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهوسهم لولا تدبير النبي صلّى اللّه عليه وآله وحكمته، الرشيدة التي أنهت كل شيء، وابقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعودة جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم "جهجاه بن مسعود" وهو من المهاجرين و"سنان بن وبر الجهني" وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني- مستغيثاً بقبيلته على عادة الجاهليين-: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، وكاد أن يتقاتل المسملون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام ومركزه، ويتعرض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصاراً الصريحة.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك قال:"دعوها فإنها منتنة"2.

أي أن هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلا من دعوى الجاهلية، وقد جعل اللّه المؤمنين إخوة وحزباً واحداً، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين، وإلا كانت جاهلية، لا قيمة لها في الإِسلام3.

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف
أجل لقد استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فيكف الفريقان (القبيلتان) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلا أن "عبدَ اللّه بن اُبي" رئيس حزب المنافقين بالمدينة، والذي كان يكنُّ حقداً كبيراً على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعاً في الغنيمة، أظهر- في هذه الحادثة- حقده، وضغينته على الإسلام، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم، لقد نافرونا (أي المهاجرين) وكاثرونا في بلادنا، واللّه ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمّن كَلبك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزَّ منها الأذل (ويقصد بالأذل المهاجرين)!!!

فتركت كلمات "ابن اُبي" أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية، أثرها في نفوسهم، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة، والاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين- أنصاراً ومهاجرين- بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أن فتى غيوراً من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة رد على "ابن اُبي" بكلمات قوية شجاعة اذ قال: أنت واللّه الذليلُ القليلُ المبغضُ في قومك، ومحمَّد في عز من الرحمان، ومودّة من المسلمين، واللّه لا اُحبُّك بعد هذا أبداً.

ثم نهض ومشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره الخبر، فرده رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثلاث مرات حفظاً للظاهر، قائلاً: لعلّك وهمت يا غلام، لعلّك غضبت عليه، لعلّه سفّه عليك.

ولكن زيداً كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من مقالة المنافق الخبيث "عبد اللّه بن اُبي"، و تحريكه للناس ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يُقتَلَ "ابن اُبي" قائلاً: مر به عبّادَ بن بشر فليقتله4.

ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أجاب عمر بقوله:"فكيف يا عُمَر إذا تحدّثَ الناسُ أن محمَّداً يقتُل أصحابه،.."5.

ولقد مشى "عبد اللّه بن اُبي" إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حين بلغه أن "زيد بن الارقم" قد بلَّغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما سمع منه، فحلف باللّه: ما قلتُ ما قال، وقال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعاً عن ابن اُبي: يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلامُ قد اُوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الامر لم ينته إلى هذا، فقد كان هذا نوعاً من الهدوء المؤقت تماماً كالهدوء الذي يسبق العاصفة، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فوراً بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائياً، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلّى اللّه عليه وآله يرتحل فيها عادة.

فجاءة "اُسيد بن حضير"، وقال: يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"أوَما بلغك ما قال صاحبُكم؟ زعم أنه أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعزُّ منها الاذل"؟

فقال اُسيد: فأنت واللّه يا رسول اللّه تخرجُه إن شئت، هو واللّه الذليلُ، وأنت العزيز، إرفق به يا رسول اللّه، فوَاللّه لقد جاء اللّه بكَ وان قومه لينظمُون لَهُ الخِرَز ليتوِّجوهُ، وأنه ليرى أنك قد استلبته مُلكاً.

ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالرحيل فارتحلَ الناسُ، وسار بهمُ النبيُ صلّى اللّه عليه وآله يومَهُم ذاك حتى أمسى، وليلتهم تلك حتى أصبحَ، من دون أن يسمحَ لهم بالنزول والإستراحة، إلا للصلاة، وسار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمسُ وسُلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة، فنزل الناس، ولم يلبثُوا أن وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياماً من شدة التعب، وقد نسوا كل شيء من تلك الذكريات المرّة، وكان هذا هو ما يريده النبي صلّى اللّه عليه وآله، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغِلَهم عن الحديث الذي كان من "عبد اللّه بن اُبي" المنافق المفتِّن6.

صراع بين الايمان والعاطفة
كان عبد اللّه ابن "عبد اللّه بن اُبي" من فتيان الاسلام الشجعان،ومن فرسانه البواسل، وكان- كما تقتضيه تعاليم الإِسلام- يبر بأبيه المنافق أكثر من غيره، ولكنه عندما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وظن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سيقتل أباه جاء الى النبي صلّى اللّه عليه وآله وقال: يا رسول اللّه انه قد بلغني أنك تريد قتل "عبد اللّه بن اُبي"، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلاً فمرني به فانا أحمل اليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري، فيقتله فلا تدعني نفسي انظرُ إلى قاتل عبد اللّه بن اُبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل (رجلاً) مؤمناً بكافر فأدخلَ النار!!

إن حديث هذا الفتى يعكس- في الحقيقة- أعظم تجليات الإيمان وآثاره في النفس، والروح الانسانية.

لماذا لم يطلب من النبي صلّى اللّه عليه وآله أن يعفو عن أبيه؟! لأنه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إنما هو بأمر اللّه تعالى، ولكن ابنَ عبد اللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة والابوة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل اُخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يُقتَلَ رأسُ المنافق "ابن اُبي"، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان، ومقتضى العاطفة.

ولقد اختار عبد اللّه بن عبد اللّه بن اُبي طريقاً ثالثاً في هذا الصراع، يضمن مصالح الإسلام من جهة، ويحافظ على مشاعره من أن تجرَح على أيدي الآخرين من جهة أُخرى، وذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

وهذا العمل وان كان شاقاً مؤلماً إلا أن قوة الايمان باللّه والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدراً كبيراً من الطمأنينة والسكون.

ولكن النبي الرحيم صلّى اللّه عليه وآله قال رداً على سؤال واقتراح عبد اللّه بن عبد اللّه بن اُبي:

"بل نترفق به ونحسن صحبَتهُ ما بقي معن"!!!

وهذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ومبلغ رحمته، أدهش المسلمين جميعاً فتوجهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق "عبد اللّه بن اُبي"، ولحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءاه ذلُ، وهوان ما وراءه هوان، واحتقره الناس حتى انه لم يعد أحدُ يعبأ به، ويقيم له وزناً.

لقد عَلَّم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله المسلمين في هذه الحوادث دروساً مفيدة جدا، وأظهر جانباً من سياسة الاسلام الحكيمة، والرشيدة.

فقد تحطم "عبد اللّه بن اُبي" رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة، ولم يعد له أي دور، بل عاش بقية حياته مهاناً محتقراً بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه، وعفو النبي صلّى اللّه عليه وآله عنه، واغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه إحتقار الناس لابن اُبي ذلك الاحتقار، وسقوط محله في القلوب:

"كَيفَ ترى يا عُمَر، أما واللّه لَو قتلتُه يوم قلت لي: اُقتُله، لاُرعدت له انف، لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلتهُ".

فقال عمر: قد واللّه علمتُ لأمرُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعظم بركة من أمري7.

الزَّواجُ المبارك

كانت "جويرية" بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبابا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر الى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغبَ في بعيرين منها فغيَّبها في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وقال: يا محمَّد أصبتم إبنتي وهذا فداؤها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"فأينَ البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذ"؟!

فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله آمنَ هو ووالده به، وأسلم اُناس آخرون من قومه كانوا معه، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى رسول اللّه ودُفعَت إليه ابنته "جويرية" فأسلمت هي أيضاً.

ثم خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى أبيها، فزوجه اياها، وأصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تزوَّجَ جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا: أصهارُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى وكانوا مائة عائلة، فما عُلِمَ إمرأة اعظم بركة على قومها منها، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني المصطلق.

وهكذا اُطلق جميعُ أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالاً ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة، وعادوا الى قبيلتهم8.

الفاسق يفتضح

كان إسلام بني المصطلق اسلاماً نابعاً من قناعة ورغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسرى إلا حسن المعاملة والإحسان والعفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أرسل إليهم "وليد بن عقبة بن أبي معيط" لجبابة زكاتهم، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول اللّه مسرعاً فأخبره بأن القوم همّوا بقتله، وأنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم، فطلب المسلمون غزوهم، وفي الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالوا: يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعاً فبلغَنا أنه زعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنّا خرَجنا إليه لنقتلهُ وواللّه ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق، اذ يقول تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ9.


1- تاريخ الطبري: ج 2 ص 260، امتاع الاسماع: ج 1 ص 195و 196.
2- السيرة النبوية: ج 1 ص 290 (الهامش).
3- راجع هوامش السيرة النبوية: ج 2 ص 290.
4- تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة وبسالة، بل كان في صف المتقاعدين دائماً. ولكن كلما أسرَ المسلمون أحداً كان هو اول من يقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقتله ونذكر للمثال ما يلي:
أ- هذا المورد الذي طلب فيه من رسول اللّه أن يُقتَل ابن اُبي.
ب- طلبه من النبي بأن يُقتَل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة.
ج- طلبه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبيل فتح مكة، وغير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.
5- امتاع الاسماع: ج 1 ص 202.
6- تاريخ الطبري: ج 2 ص 261 و 262، مجمع البيان: ج1 ص 292- 295.
7- السيرة النبوية: ج 2 ص 292و 293 وفي السيرة الحلبية: ج 2 ص 291: لاُرعدت له اُنوف، وتعني هذه القولة النبوية الشريفة: ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد اللّه بن أبي لدافع عنه اُناس حمية وعصبية، ولكنه اليوم وبعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اُولئك المدافعين بقتله، لقتلوه دون إبطاء.
8- السيرة النبوية: ج 23 ص 295، امتاع الاسماع: ج 1 ص 198و 199.
9- السيرة النبوية: ج 2 ص 296و 297.