سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة السادسة للهجرة

قصة الافك

أبرز النقاط في آيات "الإفك" المنافقون يتهمون شخصاً نقيّ الجيب
الرواية الاخرى في سبب النزول الزوائد في هذه القصة


بقي رئيس حزب النفاق عبد اللّه بن اُبي يواصل تجارته بالجواري، والإِماء ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن، ليجني من هذا الطريق أرباحاً طائلة. حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.
فعندما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعاً، فشكينَ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالت إحداهن: إن سيّدي يكرهني على البغاء.
فنزلَ قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا1 2.
ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي3، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين، والمؤمنات، وبغياً وحسداً.

إن ما يستفاد من الآيات والروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالاً أن إمرأة ذات مكانة المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها، وأما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك ما لا يمكن البت فيه، على وجه القطع واليقين.

حقاً إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة، فان العدوّ المشرك والكافر يعمد دائماً إلى إشفاء غيظه واطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والاوقات.
ولكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان، ويتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه، فان عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتى يصل أحياناً إلى حدّ الإنفجار، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماماً كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبد اللّه بن اُبي.
ولقد ظهرت ذلَّةُ "عبد اللّه بن اُبي" رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق، وقد منعه ابنه من دخول المدينة، ولم يسمح له بدخولها إلا بوساطة من النبي صلّى اللّه عليه وآله، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يكف عنه ولده.

إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله ويذهب غيظه، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاماً من المجتمع الاسلامي.
فعندما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات، وترويجها واشاعتها ليستطيع من خلال ذلك، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع، وكذا بلبلة الرأي العام، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين، وابعاد الناس عنهم.

المنافقون يتهمون شخصاً نقيّ الجيب
يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة "الإفك" أن المنافقين اتهموا شخصاً بريئاً كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا، تحقيقاً لمآربهم الدنيئة، واضراراً بالمجتمع الاسلاميّ، وقد ردّهم وشجب عملهم بشدةّ قل نظيرها، وأبطل خطتهم.

فمن هو- ترى- ذلك البريء؟ ان في ذلك خلافاً بين المفسرين، فالاكثرون على أنها "عائشة" زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ويرى الآخرون أنها "مارية" القبطية اُم إبراهيم وزوجة رسول اللّه أيضاً، لقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من إشكال. وها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو: "عائشة" وتوضيح ما يصح وما لا يصح في هذا المجال:

دراسة القول الأوّل
يري المحدّثون والمفسرون من أهل السنة أن نزول آيات "الإفك" يرتبط بعائشة، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومن هنا لايمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه وآله ثم نستعرض آيات الافك، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلّى اللّه عليه وآله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى "عائشة"4 نفسها، فهي تقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيُّهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فلما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من سفره ذلك وجه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً، فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناسُ وخرجتُ لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار، (أي خرز يمني) فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرَحل ذهبت التمسُه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبتُ إليه، فالتمستُه حتى وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحّلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير ولم يشكُّوا أني فيه، ثم اخذوا رأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما به من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدتُ لرجع إليّ. فواللّه إني لمضطجعة اذ مرّ بي صفوان السلمي (وهو من فرسان الاسلام) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا للّه وإنا اليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأنا متلففة في ثيابي. قال: ما خلّفك يرحمك اللّه. فما كلّمتُه، ثم قرّب البعير فقال: إركبي، واستأخرَ عني فركبتُ، وأخذ براس البعير، فانطلق سريعاً يطلبُ الناس، فواللّه ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلَع الرجلُ يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتعج العسكر (أي شكوا فيّ) وواللّه ما اعلم بشيء من ذلك. حتى نزلت آيات "الافك" تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات "الافك"، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

واليك الآيات التي نَزلَت في هذا المجال:﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ* لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ5.

أبرز النقاط في آيات "الإفك"
يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساساً من المنافقين أي أنه من كيدهم، واليك هذه القرائن


1- يقال: أن المراد من قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هو "عبد اللّه بن اُبي" رئيس المنافقين، وكبيرهم.

2- لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ: "عصبة" وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة، التي يربطها هدف واحد وتحدوها غاية واحدة وتفيد أنهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلا المنافقون.

3- ان "عبد اللّه بن اُبي" بسبب منعه من الدخول إلى المدينة، بقي عند مدخل المدينة، فلمّا شاهَد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اشفاءً لغيظه، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة والبهتان، وقال إن زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله باتت مع اجنبي في تلك الليلة ووالله ما نجا منهما مِن الإثم أحد.

4- إنه تعالى يقول في نفس الآية (أي الحادية عشرة): ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون إتّهام مؤمن طاهر الجيب شراً للمؤمنين بل يكون خيراً لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم، هذا مضافاً إلى أن المسلمين أخذوا من هذه القضية دُرُوساً مفيدة، مذكورة في محلها.

الزوائد في هذه القصة
هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم، ولايتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة اُموراً- نقلها عنه الآخرون في الاغلب- تعاني من شكالين أساسيين هما:

1- منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلّى اللّه عليه وآله

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها:

لما قدِمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيتُ شكوى شديدة (أي مرضت) ولا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديثُ الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وإلى أبويَّ لا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً إلا أنّي قد أنكرت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعض لطفِه بي، وكنت إذا اشتكيتُ رحمني ولطف بي، فَلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرتُ ذلك منهُ، كان إذا دخل عليّ وعندي اُمّي تمرضني قال: كيف تيكُم، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيَّ، فمرضتُ مرة اُخرى فقلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانتقلتُ إلى اُمّي فمرضتني، فقال: لا عليك، فانتقلت إلى امّي، فقلتُ لاُمّي: يغفر اللّه لك تحدِّث الناس بما تحدّثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً، فقالت: أي بنُيّة هوَّني عليك الشأن فواللّه لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلا كثَّرن، وكثر الناس عليها.6

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله شاور (اُسامة بن زيد) في الامر، فأثنى عليَّ خيراً وقاله، ثم قال: يا رسول اللهّ أهلَك ولا نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذبُ والباطلُ!!

وشاور عليّاً فقال: يا رسول اللّه إن النساء لكثير، وانّك لقادرُ على أن تستخلف، وسل الجارية، فانّها ستُصدّقك (إي جارية عائشة) فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بريرة ليسألها، فقالت: واللّه ما أعلمُ إلا خيراً، وما كنتُ اعيب على عائشة شيئاً.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه وآله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة، وشاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجدُ على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبداً أن تغيَّر الشائعات سلوك مسلم عاديٍّ تجاه شخص منهم، وحتى لو تركت تلك الشائعات تأثيراً في نفس المسلم، فليس من الجائز أن تُحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إن القران الكريم يوبّخ في الآية 12 و 14 من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظن إذ يقول تعالى:﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾؟!﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ؟!7.

فاذا صحَّ هذا القِسمُ من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول: ان هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمُّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أيضاً، والحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأن هذا الخطاب والتوبيخ موجَّهان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أو القبول بالقسم الذي لايتنافى منها مع عصمة النبي صلّى اللّه عليه وآله ورفض ما يتنافى معها.

2- سعدُ بن معاذ توفي قبل حادثة "الإفك"
ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها: بعد أن سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بريرة عن أمري، فقالت فيّ خيراً وصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المنبر فحمدّ اللّه وأثنى عليه وقال: "من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي (أي من يؤدبه) ويقولون لرجل، واللّه ما علمت على ذلك الرجل إلا خيراً، وما كان يدخل بيتاً من بيوتي إلا معي ويقولون عليه غير الحق".

فقام "سعدُ بن معاذ" وقال: أنا اُعذرك منه يا رسول اللّه إن يك من الأوس آتك برأسه، وإن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على "سعد بن عبادة" وغضب منه، فقام وقال: كذبتَ لعمر اللّه، لا تقتله ولا تقدر على قتله8.

فقام اسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد بن معاذ- وقال: كذبت واللّه لنقتلنَّه وأنفك راغم. فانك منافقُ تجادلُ عن المنافقين، واللّه لو نعلم ما يهوى رسولُ اللّه من ذلك في رهطي الأدنَين ما رام رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكانه حتى اتيك برأسه، ولكني لا أدري ما يهوى رسولُ اللّه.

ثم تغالظوا، وقام آل الخزرج من جانب، وآل الأوس من جانب آخر، وكادوا أن يشتبكوا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على المنبر، فأشار رسول اللّه إلى الحيّين جميعاً أن اسكتوا، ونزل عن المنبر فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن "سعد بن معاذ" كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثراً بجرح أصابه في معركة "الاحزاب"، وقد وقعت حادثة "الإفك" بعد واقعة بني قريظة، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه (ج 5 ص 113 ) في باب "معركة الاحزاب وبني قريظة"، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟!9.

لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة، وقد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه10 في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال القبلتين منافسة قديمة، وكان "عبد اللّه بن اُبي" خزرجياً، فاعتبر "سعد بن عبادة" كلام "سعد بن معاذ" تعريضاً بالخزرج وحطاً من شأنهم.

من السنة السادسة11.
أجل إنّ ما هو مهمُّ في المقام هو أن نعرف أنَّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

وقد فُسر قوله: "الَّذي تولى كِبرَهُ" أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد اللّه بن اُبي، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسُها أيضاً.

الرواية الاخرى في سبب النزول
وتقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في "مارية القبطيّة" زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ووالدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول: لما مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الذي يُحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً صلوات اللّه عليه وأمره بقتله، فذهب علي صلوات اللّه عليه ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط (أي بستان)، فضرب "عليُ" باب البستان، فأقبل جريح له ليفتح الباب، فلما رأى عليّاً صلوات اللّه عليه، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السَّلام على الحائط ونزل إلى البستان، واتبعه، وولّى جريح مدبراً، فلما خشي أن يرهقهُ (أي يدركه) صعد في نخلة وصعد "عليُ" في أثره، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء، فانصرف عليُّ عليه السَّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله فقال له: يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكونُ كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال: لا بل تثبت.
قال: والذي بعثك بالحق ماله ما للرجال وما له ما للنساء.
فقال: الحمد للّه الذي صرَف عنا السُوء أهل البيت.
وهذه الرواية التي نقلها "المحدث البحراني" في "تفسير البرهان" ج2 ص 126- 127 و "الحويزي" في تفسير "نور الثقلين" ج 3 ص 581- 582 ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان ولذلك.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة، كان من كان المتَّهم في هذه الحادثة.


1- النور: 33.
2- مجمع البيان: ج 4 ص 141، الدر المنثور: ج 5ص 46.
3- اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودُ هنا، وستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض.
4- راجع الدر المنثور: ج 5 ص 24 - 34.
5- النور: 11- 16.
6- صحيح البخاري: ج 6 تفسير سورة النور ص 102 و 103 وكذا الجزء 5 ص 118 السيرة النبوية: ج 2 ص 299.
7- أي لماذا- عندما سمعتم بهذا الافتراء- لم تظنوا بأنفسكم خيراً وقلتم: هذا إفك، ولماذا- عندما سمعتم بهذا الكلام- لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.
8- كان "سعد بن معاذ" رئيس الاوس و "سعد بن عبادة" رئيس الخزرج، وكانت بين هاتين
9- نفس المصدر السابق، والجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته "سعد بن معاذ"، ولكنه روى جدال اُسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية: ج 2 ص 300، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ: ج 2 ص 134، ولكن المغازي ذكر القصة كاملة، واتى باسم سعد بن معاذ راجع: ج 2 ص431.
10- السيرة النبوية: ج 2 ص 250.
11- السيرة النبوية: ج 2 ص 297، ولعله فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه، راجع شروح البخاري منها: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 8 ص 471و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التنافض.