زوجات النبي

 

الألقاب والمعاني

وضعت الشريعة نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة الأمومة، بمعنى: إن كل امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمل لقب أم المؤمنين فيقال: أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين أم سلمة وأم المؤمنين حفصة وأم المؤمنين صفية وأم المؤمنين مارية...
إلخ. قال تعالى: ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم(ْ 1.

قال صاحب الميزان: فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم، إنه أولى بهم منهم. ومعنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه وبين ما هو أولى منه، فالمحصل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة، فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شئ من ذلك، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه، ففيما إذا توجه شئ من المخاطر إلى نفس النبي، فليقه المؤمن بنفسه ويفده نفسه وليكن النبي أحب إليه من نفسه، وأكرم عنده من نفسه، ولو دعته نفسه إلى شئ. والنبي إلى خلافة، أو أرادت نفسه منه شيئاً وأراد النبي خلافه، كان المتعين استجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطاعته وتقديمه على نفسه 2.

وقال ابن كثير: في الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم:والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله ووالده والناس أجمعين 3، وروى البخاري عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم. لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: فإنه الآن يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر 4.

وقال صاحب الميزان: وقوله تعالى وأزواجه أمهاتهم جعل تشريعي. أي: أنهن منهم. بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتنزيل إنما هو في بعض آثار الأمومة، لا في جميع الآثار كالتوارث بينهن وبين المؤمنين والنظر في وجوههن كالأمهات وحرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات لهم.وكصيرورة آبائهن وأمهاتهن أجداداً وجدات. وإخوتهن وأخواتهن أخوالا وخالات للمؤمنين 5.
وقال ابن كثير في تفسير الآية:" وأزواجه أمهاتهم أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام. ولكن لا تجوز الخلوة بهن. ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع" 6.

وعلى خلفية ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين ووجوب تعظيم أمهات المؤمنين وحرمة نكاحهم بعد النبي صلى الله عليه وآله. حذر تعالى من التعدي بإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن حرمة نكاح أزواجه. قال تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً 7.

قال صاحب الميزان: والمعنى: أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما أمرتم به في نسائه وفي غير ذلك. وليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيماً، وفي الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده. وقوله تعالى إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليماً معناه ظاهر. وهو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أو يذكر نكاح أزواجه من بعده 8:
وقال ابن كثير في تفسيره: عن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده. قال رجل لسفيان: أهي عائشة؟ قال: قد ذكروا ذلك. وكذا قال مقاتل بن حيان. وعبد الرحمن بن زيد. وذكر بسنده عن السدي: إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك 9.

نظرات في دوائر الترغيب والترهيب
كان تعدد الزوجات سنة جارية في غالب الأمم القديمة. وذكرت التوراة الحاضرة أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء. ولما كان الدين الخاتم الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم دين يعتني بتهذيب الأخلاق وتنظيم جميع نواحي الحياة الإنسانية. وإيجاد حلول للأرامل واليتامى والمساكين. ولما كان من مقاصد الشريعة تكثير نسل المسلمين وعمارة الأرض بين مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد، فإن الإسلام أمر بالازدواج فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح. وشرع الإسلام الازدواج بواحدة وأنفذ التكثير إلى أربع، والإسلام لم يشرع تعدد الزوجات على نحو الواجب والفرض على كل رجل مسلم. بمعنى أنه لم يأمر بأن على كل مسلم أن يتزوج بأربع زوجات، وإنما قيد التعدد بوثوق الرجل إنه سيقسط بينهن ويعدل. قال تعالى: ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً(...  10 قال في الميزان: قوله تعالى:) فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة(ً أي: فأنكحوا واحدة لا أزيد. وقد علقه الله تعالى على الخوف.

وقال تعالى: )وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُم(ْ 11 .قال في الميزان: الآية: بيان الحكم العدل بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً والعدل هو الوسط بين الافراط والتفريط. ومن الصعب المستصعب تشخيصه. وخاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن. فإن الحب القلبي مما لا يتطرق إليه الاختيار دائماً، فبين تعالى إن العدل بين النساء بحقيقة معناه، وهو اتخاذ الوسط حقيقة. مما لا يستطاع للإنسان ولو حرص عليه. وإنما يجب على الرجل أن لا يميل كل الميل إلى أحد الطرفين. وخاصة طرف التفريط. فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، ولا أرملة فتزوج أو تذهب لشأنها فالجواب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوي بينهن عملاً بإيتائهن حقوقهن من غير تطرف، والمندوب عليه أن يحسن إليهن. ولا يظهر الكراهة لمعاشرتهن ولا يسئ إليهن خلقاً. وكذلك كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 12.

ولما كانت الشريعة قد أنفذت التعدد إلى أربع. بمعنى أن الأمة وقفت في تعدد الزوجات عند أربع. وانتقال الرجل من واحدة إلى أكثر مقيد بالعدل والقسط بين النساء، فإن إزدواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من أربع نسوة فيه دلائل على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

لأنه ازدواجه بين العدل في جميع نواحي الحياة الزوجية وما يتفرع منها، وكما هو معروف أن التشريع لا بد له أن يحيط بجميع نواحي الحياة لتقوم به حجة الله على عباده. لهذا كان إزدواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من أربع من خصوصياته لأنه صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الله الذي صانه الله من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه.

وبالجملة: كان في إزدواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من أربع بيان للقسط وللعدل وعلى خلفيته شقت الدعوة طريقها في عهد البعثة وسط القبائل. وعلى هذه الخلفية التقى التشريع والحركة في خطوة واحدة.

ولما كان التشريع الذي وراء إزدواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه بيان لإقامة المجتمع الصالح الذي تعتبر الأسرة نواته الأولى، ولأن هذا التشريع في حقيقته حجة على العباد ليتميز منهم الصالح والطالح، وعلى هذه الخلفية يكون الثواب والعقاب يوم القيامة، فإن الدين أمر زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر ونهاهن بنواهي. وبين أن زوجية الأنبياء والرسل من حيث هي زوجية. ليس لها كرامة عند الله، وإنما الكرامة المقارنة لزوجية الأنبياء والرسل. هي المقارنة للإيمان وللإحسان والتقوى. ولقد أخبر القرآن الكريم بسيرة امرأة نوح وامرأة لوط. وبين أنهما لم يلتزما بخط النبوة والدعوة، ونتيجة لذلك لم ينفعهما زوجيتهما للنبيين الكريمين شيئاً فهلكتا في ضمن الهالكين من غير أدنى تمييز وكرامة. وبالجملة: فالدعوة لم تستثني أحداً من التكاليف الشرعية. فكما أن حجة التكاليف تحيط بالأمة فهي أيضاً تحيط بأزواج النبي صلى الله عليه وآله لأنهن ضمن نسيج الأمة.

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه جل وعلا. وبين عليه الصلاة والسلام طريق الأمن والأمان فيما يستقبل الناس من فتن، والباحث المتعمق في أحاديث الأخبار بالغيب لا يسعه إلا أن يقر أن هذه الأحاديث حجة لله على عباده حتى قيام الساعة. وأن هذه الحجة المستمرة من دلائل النبوة الخاتمة. وكما حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة مما يستقبلها من مهلكات الفتن، حذر أمهات المؤمنين من الفتن وبين لهن أسباب النجاة منها، وأخبر أن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون بعد أن أقيمت عليهم الحجة في أنفسهم وعلى امتداد المسيرة في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن الأحاديث التي حذر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة13 قال صاحب تحفة الأحوازي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوحى إليه ما سيقع بعده من الفتن. وقوله من يوقظ صواحب الحجرات يعني: أزواجه. وإنما خصهم بالإيقاظ لأنهن الحاضرات. وأشار إلى موجب استيقاظ أزواجه. أن لا ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدون على كونهن أزواج النبي وقال الحافظ:واختلف في المراد بقوله كاسية وعارية، على أوجه: أحدهما كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى. عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا ثانيهما كاسية من نعم الله. عارية من الشكل الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله.وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك 14.

وبعد أن أحكمت الدعوة حجتها في هذا الباب، قامت بتنظيم حركة الأمة نحو بيت النبوة. ومن ذلك إنها حذرت من الإفتراء. وبينت أن الإفتراء يكون عظيماً إذا كان متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الإفتراء العظيم الطعن في نزاهة بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لأن ذلك يؤدي إلى فضحه بين الناس. وعلى هذه الخلفية تلتبس الأمور وتكون سبباً لقلب الدين من رأس.

وأخبرت الدعوة الخاتمة.إن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ والفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم وينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم، وأمرت الدعوة المؤمنين بها أن يقفوا صفاً واحداً كنفس واحدة متلبسة بالإيمان ولوازمه وآثاره، وأن لا يظنوا بأنفسهم إلا خيراً. فأمام هذا التكاتف وحده يسقط أصحاب البهتان العظيم. لأنهم أصحاب الخبر الذي لا علم لمخبره. وأصحاب الدعوى التي لا بينة لمدعيها عليها. ولو كانوا صادقين فيما يقولون ويرمون به بيت النبوة.
لأقاموا على ما يقولون الشهادة. وهي في الزنا بأربعة شهداء. فإن لم يأتوا بالشهداء. فهم محكومون شرعاً بالكذب. لأن الدعوى من غير بينة كذب وإفك.
وتنظيم الحركة نحو بيت النبوة في هذا الباب. كان فيه تحصين للدعوة ورفع من أمامها الكثير من المعوقات. وفي حركة أخرى. قامت الدعوة بتحريم زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده. فبينت أن زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وراء ذلك حكمة ومن وراء الحكمة هدفاً، من ذلك إن نكاحهن غير النبي بعد الوحي والتشريع لازم أن الازدواج سيكون من رجال لا علاقة لهم بالوحي والتشريع. وربما يجد البعض في حركة هذا الازدواج - وهي حركة في مجملها غير معصومة - ما تشتهيه أنفسهم فيتخذون هذا ذريعة لقلب التشريع في هذا الباب من رأس، فلهذا ولغيره أغلقت الدعوة المنافذ ونظمت الحركة في اتجاه بيت النبوة، وأمرت المؤمنين بها أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة لهم في حركته وسكونه وفي قوله وفعله. لأنه وحده حجة على الناس في هذا الباب وفي غيره.

وهكذا أقامت الدعوة الخاتمة حجتها وبينت أن السعادة الحقيقية إنما هي بالإخلاص لله ولرسوله وحسن الطاعة. وإتماماً للفائدة وإكمالاً للغرض، نقدم بعضا من سيرة أمهات المؤمنين. وسنلقي الضوء على هذه السيرة إذا كان الحدث متعلقاً بحركة الدعوة. بمعنى إذا كان مقدمة جاءت عليها نتيجة أو قامت عليها حجة. وإذا كان عرضي للأحداث سيكون مختصرا. إلا إنه لن يخلو مما يشير إلى معالم الصبر والرحمة والوفاء والزهد والصدقة وحب المساكين، ولن يخلو من المعنى الذي يحمل معالم سنة الامتحان والابتلاء الإلهي التي لا يستثني الله منها أحداً من عباده. فتحت هذه السنة الإلهية. ينظر الله تعالى إلى عباده كيف يعملون.
وعلى العمل يكون الثواب أو العقاب، والله هو التواب الرحيم. وهو الغفور الكريم.


1- الأحزاب : 6.
2-الميزان 276 / 16.
3-تفسير ابن كثير 468 / 3.
4-رواه البخاري ك الإيمان، وأنظر ابن كثير 467 / 3.
5-تفسير الميزان 277 / 16.
6-ابن كثير 468 / 3.
7- الأحزاب : 53.
8-الميزان 337 / 4.
9-تفسير ابن كثير 506 / 3.
10- النساء : 3.
11- النساء : 129.
12-تفسير الميزان 102 / 5.
13-رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي تحفة الأحوازي 440 / 6.
14-تحفة الأحوازي شرح جامع الترمذي 440 / 6.