سيرة سيد المرسلين> ما قبل البعثة الشريفة

فَترةُ الطفُولة في حياة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله
إن صفحات التاريخ تشهد بأن حياة رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من بداية طفولته وأوان صباه وإلى يوم بعثه بالرسالة كانت مشحونة بسلسلة من الحوادث العجيبة التي تعَدُّ بأجمعها من كراماته صلّى اللّه عليه وآله وتدل على أن حياة النبيّ لم تكن حياة عادية.

وينقسم المؤلفون في تفسير هذه الحوادث إلى طائفتين:
1- الماديُّون، وجماعة من المستشرقين: فان العلماء الماديين الذين يحصرون الوجود في نطاق المادة، ويعتبرون جميع الظواهر ظواهر مادية، وينحتون لكل واحدة منها علة طبيعية، لا يهتمون بهذه الحوادث ولا يُعيرونها أية أهمية، لامتناع واستحالة وقوع أمثال هذه الظواهر حسب النظرة المادية، ولهذا فكل ما يصادفونه في ثنايا التاريخ من هذا الباب يعتبرونه من ولائد الخيال، وممّا نسجته اوهامُ التابعين لذلك الدين، او الطريقة.

وقد تبعهم في هذا الموقف جماعة من المستشرقين فرغم انهم يعتبرون انفسهم- حسب الظاهر- في عداد الموحِّدين، والمؤمنين باللّه، وبما بعد الطبيعة من عوالم الغيب، إلا أنهم- لضعف إيمانهم وبسبب غرورهم العلمي، وغلبة النزعة المادية على أفكارهم وأذهانهم- اتبعوا- لدى تحليلهم لهذه الحوادث- المنهج الماديّ، فنحن نقرأ في كتاباتهم مراراً وتكراراً زعمهم بان النبوة ما هي إلا نبوغٌ بشريٌّ، وأن النبيّ مجرد نابغة اجتماعية استطاع تغيير مسار الحياة البشرية بافكاره النيِّرة !!

ولاشك أن مثل هذا التصوّر ينبع من طريقة التفكير المادي الذي يعتبر جميع الأديان من ولائد الفكر البشري وافرازات الذهن الانساني، في حين ان علماء العقيدة اثبتوا في: مباحث "النبوَّة العامة" انَّ النبوة عطية الهية، وموهبة ربّانية هي في الحقيقة منشأ جميع الالهامات والارتباطات المعنوية، ومصدر لمناهج الانبياء وبرامجهم، ليست أبداً وليدة نبوغهم الإنساني، ولا نسيجة فكرهم البشري، وليس لها مصدر إلا الإلهام من الغيب، ولكن عندما ينظر المستشرقُ المسيحي الى هذه القضايا من زاوية الفكر المادي ويريد تفسير جميع هذه الظواهر بالاُسس العلمية التي كشف عنها التجربةُ ينتقد مثل هذه الحوادث ذات الطابع الاعجازي، وربما انكرها من الاساس.

2- المؤمنون باللّه: الذين يعتقدون بأن العالم المادي بجميع خصوصياته وخواصه يخضع لتدبير عالم آخر، وأن ذلك العالم ( أي عالم التجرد وما وراء الطبيعة) هو المنظِّم لهذه الطبيعة، وهو المدبِّر لهذا الكون المادي.

وبعبارة اُخرى إن عالم المادة ليس عالماً مسيّباً، مستقلاً عن غيره، وان جميع الانظمة والقوانين الطبيعية والعلمية مسبّبةٌ عن تأثيرات موجودات عليا، وبخاصة ناشئةٌ عن إرادة اللّه الخالقِ، الذي اعطى للمادة وجودها، وأوجد القوانين والعلاقات الصحيحة بين أجزائها، وبنى بقاءها على سلسلة من النواميس الطبيعية.

إنّ هذا الفريق من الناس مع احترامهم للقوانين العلمية، واذعانهم الصادق بما قاله العلماء في صعيد العلاقات، والروابط القائمة بين القوانين ممّا أثبته العلم واكّده، يعتقدون بأن مثل هذه القوانين الطبيعية ليست اُموراً لا تقبل التغيير، والتبدل.

فهم يعتقدون بأن العالم الاعلى يمكنه- إذا أراد- أن يُغيّر تلك القوانين لغايات خاصة، وليس في مقدوره ذلك فقط، بل فعل ذلك في جملة من الموارد لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى: إنّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل، بل إنّ علتها غير طبيعيّة، وافتقاد العلة الطبيعية (وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة) ليس دليلاً على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة، إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون: إنّ جميع خوارق العادة، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة التي تتصف بصفة الاعجاز، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية، تتحقق من هذه الزاوية.

إنّ هذا الفريق من الناس لا يسمحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة، والكرامات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والاحاديث، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة، أو يشكّوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد، أو الاستبعاد:

1- لقد نقلَ المؤرخون عن "حليمة السعدية" قولها بأنها لمّا تكفّلت إرضاع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر، وأخذت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فوضعته في حجرها، ووضعت ثديها في فمه، فترك النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ثديها، ومال إلى ثديها الأيمن، فاخذت "حليمة" ثديها الأيمن من يد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنّ ثديها الأيمن كان جهاماً (أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به)، وخافت "حليمة" أن النبي صلّى اللّه عليه وآله اذا مصّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ- بعده- الأيسر. ولكن النبيّ أصرّ على أخذ الثدي الأيمن، فلمّا مصّ صلّى اللّه عليه وآله الأيمن امتلأ فانفتح حتى ملأ شدقيه فادهش الجميع ذلك1.

2- وتقول "حليمة" أيضاً: إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتى أثرينا، وكثرت مواشينا، وأموالنا2.

إنّ من المسلم أنّ حكم الماديين، او من يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي اذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية، نجدهم يبادرون الى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال، ومن ولائد الاوهام، واما اذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا: إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى أمثال هذه المعاجز.

ونحن نقول: لا نقاش في أن النبي صلّى اللّه عليه وآله غني عن هذه المعاجز إلا أن عدم الحاجة شيء، والحكم بصحة هذه الاُمور او بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الذي يردّ النظام الطبيعي، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه (الذرة) الى اكبر موجوداته (المجرة) يجري تحت تدبيره، ونظارته، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول "مريم" اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول:

﴿...أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا3.

إنه وان كان الفرق بين "مريم" و"حليمة" شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة، والمنزلة، إلا أن منزلة "مريم" عليها السّلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريم عليها السّلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن "زكريا" كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، فاذا سألها: مِن أين لكِ هذا قالت: هو مِن عِند اللّه ؟4.

وعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات، أو نستبعدها.

خمسَةُ أعوام في الصحراء:
أمضى وليدُ "عبد المطلب" في قبيلة "بني سعد" مدة خمسة أعوام، بلغ فيها أشده.

وخلال هذه المدة اخذته "حليمة" إلى اُمّه مرتين أو ثلاثاً، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه، ولهذا السبب أتت به صلّى اللّه عليه وآله "حليمة" الى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد أصبح مبعث خير ورخاء، وبركة في منطقتها، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في "مكة" إلى ان تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب5.

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى الحبشة الى الحجاز، فوقع نظرهم على محمّد صلّى اللّه عليه وآله في "بني سعد"، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الذي سيأتي بعد عيسى المسيح عليه السّلام، ولهذا عزموا على أخذه غيلة الى بلادهم لما عرفوا ان له شأناً عظيماً، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره6.

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ذُكِرت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم التي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ7.

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح، ومن غير إبهام، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر8.


1- بحار الأنوار: ج 15 ص 345 و346.
2- المناقب لابن شهراشوب: ج 1 ص 24.
3- مريم: 24 و25.
4- (... وكفّلها زكريّا كُلّما دخل عليها زكريّا المِحرابَ وجد عِندها رزقاً قال يا مريمُ أنّى لكِ هذا قالت هُو مِن عِند اللّه). (آل عمران: 37).
5- بحار الأنوار: ج 15 ص 401.
6- السيرة النبوية: ج 1 ص 167.
7- الصف: 6.
8- (الذين يتَّبِعون الرسول النبيَّ الاُميّ الّذي يجِدونَهُ مكتوباً عِندهُم في التوراة والإنجيل). (الأعراف: 157).