سيرة سيد المرسلين> ما قبل البعثة الشريفة

فترة الشَباب في حياة النبيّ الاكرم

حُروبُ الفِجار رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة
حِلفُ الفُضُول

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان، لا يرهبون أحداً، ولا يخافون شيئاً، يمتلكون قوة روحية كبرى، ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون، وضعاف النفوس قيادة المجتمع، والخروج به من المآزق والمشاكل، وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا او ذاك ؟!

إن لعظمة القائد الروحية، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره، فعندما اختار الإمام اميرُ المؤمنين عليه السّلام أحد اصحابه المخلصين لولاية "مصر" كتب إلى أهل "مصر" المظلومين الذين ذاقوا الأمرّين على أيدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد، الروحية وقدرته النفسية الفائقة، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد: "أما بعدُ فقد بعثتُ اليكم عبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع، أشدّ على الفُجار من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيفٌ مِن سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظبَّة، ولا نابي الضريبة"1.

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة:
لقد كانت آثار الشجاعة، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، وقبيلة هوازن من جهة اُخرى، وتدعى "حرب الفجار"، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النبل.

فها هو "ابن هشام" ينقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال: "كُنتُ اُنبّلُ على أعمامِي"2.

إن مشاركته صلّى اللّه عليه وآله في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلّى اللّه عليه وآله وقدرته الروحية الكبرى، وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في حق النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله: "كُنّا اذا احمرّ البأسُ إتّقينا برسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فلم يكُن أحدٌ مِنّا أقرب إلى العدوِّ مِنهُ"3.

وسوف نشير - وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار والمشركين - إلى نظام العسكرية الاسلامية، وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم التي تمّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلّى اللّه عليه وآله، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار:
إنّ الحديث بتفصيل عن هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة خارج عن إطار هذه الدراسة، بيد أننا - مع ذلك - نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب التي شارك في إحداها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال والاغارة، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، واضطراب اُمورهم، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام (هي شهر رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم) ليتسنى لهم - في هذه المدة - أن يقيموا أسواقهم، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء4.

ولهذا كانت أسواق "عكاظ" و"مجنّة" و"ذو المجاز" تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً الى جنب، يتبايعون، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف او وجلٍ.

ولكنّ هذه الحرمة قد هُتكت أربع مرات في تاريخ العرب، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب "الفجار"، وفي ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال:

الفِجارُ الأوّل:
ووقعت الحربُ فيها بين قبيلتي "كنانة" و"هوازن" وجاء في سبب نشوب هذه الحرب أن رجلاً يدعى "بدر بن معشر" كان قد أعدّ لنفسه مكاناً في سوق "عكاظ" يحضر فيه، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول: أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلُ من قبيلة اُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان، ولكنهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ5.

الفِجارُ الثّاني:
وكان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من "بني عامر" وهي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: إسفري لننظر إلى وجهك، فلم تفعل، فقام غلامٌ منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناسُ، واشتجروا حتى كاد ان يكون قتالٌ، ثم اصطلحوا، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالِث:
وسببه أن رجلاً من "كنانة" كان عليه دَينٌ لرجل من "بني عامر"، وكان الكناني يماطل، فوقع شجارٌ بين الرجلين، واستعدى كل واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناسُ، وتحاوروا حتى كاد يكونُ بينهم القتالُ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابع:
وهي الحرب التي - قيل أنه - شارك فيها النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله.

ولقد ادّعى البعض أنه صلّى اللّه عليه وآله كان يومذاك في الخامسة عشرة، او الرابعة عشرة من عمره. وقال بعضٌ: انه كان في العشرين من عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة6.

وقيل في سببه: أن "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة كان يبعث الى سوق "عكاظ" في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يُجيرها له حتى تباع هناك، ويشتري بثمنها من أقمشة "الطائف" الجميلة المزركشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها "عروة الرجال الهوازني" في تلك السنة، ولكن "البراض بن قيس الكناني" انزعج لمبادرة "عروة" الى ذلك، فشكاه عند "النعمان بن المنذر" ولم يجد اعتراضه وشكواه، فحسد على "عروة" حسداً شديداً، فتربّص به حتى غدر به في أثناء الطريق، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانة، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن، وأسرعوا في الخروج من "عكاظ" وتوجهوا نحو الحرم (والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشاً وحليفتها فوراً، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، ولما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت "قريش" وحليفتُها فرصة الليل، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن، وقد شارك النبي - صلّى اللّه عليه وآله في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الذي مرّ بيانه.

وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات، حتى ان وُضعَت نهاية لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن7.

وقد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية، وحيث أن حرب "الفجار" استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلّى اللّه عليه وآله فيها وجهٌ وجيهٌ وهو الدفاع، خاصة انه لما سئل صلّى اللّه عليه وآله عن مشهده يومئذ فقال: "ما سرّني أنّي أشهدهُ، إنّهُم تعدّوا على قومي عرضوا (اي قريش) عليهم (اي على هوازن) أن يدفعُوا إليهم البرّاض صاحِبُهم (اي الذي قتل عروة) فأبُوا"8.

ويحتمل أن تكون مشاركته صلّى اللّه عليه وآله في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة أربعة اعوام، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُستبعد مشاركة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في بعض أيام تلك الحرب.

حِلفُ الفُضُول:
لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف "الفُضُول"، وكان هذا الحُلف يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين، وكان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل، واسماؤهم - كما نقلها المؤرخ المعروف "عماد الدين ابن كثير" - هي عبارة عن: "فضل بن فضالة"، و"فضل بن الحارث"، و"فضل بن وداعة"9، وحيث أن الحلف الذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف "وهو الدفاع عن حقوق المظلومين" مع حلف "الفضول" لذلك سمّي هذا الاتفاق وهذا الحلف بحلف "الفُضول" أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من "زبيد" في مكة في شهر ذي القعدة، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه "العاص بن وائل"، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً، وطلب منهم أن ينصروه على العاص، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:
يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه         بِبطن مكة نائي الدار والنفَر
ومُحرمٌ أشعثٌ لم يقض عُمرتَه    يا للرِّجال وبين الحجر والحجَر
إن الحرام لِمن تمّت كرامتُه       ولا حرام لِثوب الفاجر القذر


فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، وهيّجت غيرتهم، فقام "الزُبير بن عبد المطّلب" وعزم على نصرته، وأيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار "عبد اللّه بن جدعان" وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مشوا إلى "العاص بن وائل" فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها اليه.

وقد أنشد الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعراً فقال:
إن الفضُول تعاقدُوا وتحالفوا      ألا يقيِم ببطن مكّة ظالمُ
أمرٌ عليهِ تعاقدُوا وتواثقُوا       فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ


وقال أيضاً:
حلفت لنعقدن حِلفاً عليهم       وإن كُنّا جميعاً أهل دار
نسمّيه "الفُضُول" إذا عقدنا    يعُزُّ به الغريبُ لِذي الجوار
ويعلمُ من حوالي البيتِ أنّا     اباة الضيم نمنعُ كُلَّ عار
10

وقد شارك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، في هذا الحلف الذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم، وقد نُقِلت عنه صلّى اللّه عليه وآله عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل حديثين منها في هذا المقام.

قال صلّى اللّه عليه وآله: "لقد شهدتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ".

كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف: "ما أحبُّ أنّ لي بِه حمُر النِعم".

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة "الوليد بن عتبة" الأموي11 على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه السّلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه السّلام، ويبدو أن "الوليد" تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الإمامُ السبط الذي لم يرضخ لحيف قط، ولم يسكت على ظلم أبداً: "أحلِفُ باللّه لتنصِفنّي مِن حقّي، أو لآخُذنّ سيفي ثمّ لأقُومنّ في مسجد رسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثمّ لأدعُونّ بِحلفِ الفضُول"12.

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم "عبد اللّه بن الزبير"، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلاً: وأنا أحلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذنّ سيفي ثُمَّ لأقُومنَّ معه حتى يُنصف مِن حقّهِ أو نمُوت جميعاً.

وبلغت كلمة الحسين السبط عليه السّلام هذه إلى رجال آخرين كالمسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري" و"عبد الرحمان بن عثمان" فقالا مثل ما قال "ابن الزبير"، فلما بلغ ذلك "الوليد بن عتبة" أنصف الحسين عليه السّلام من حقه حتى رضي13.


1- نهج البلاغة: قسم الرسائل، الرقم 38.
2- السيرة النبوية: ج 1 ص 186، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة "انبل" مشدّدة "اُنبِّل": "اذا ناولته النبل يرمي" راجع مادّة نبل.
3- نهج البلاغة: فصل في غريب كلامه الرقم 9.
4- يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة: (إنّ عِدّة الشّهور عِند اللّه اثنا عشر شهراً في كِتابِ اللّه يوم خلق السّماواتِ والأرض مِنها أربعةٌ حرُم) أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة "إبراهيم الخليل" عليه السّلام.
5- ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت، وستعرف هذا في الابحاث القادمة.
6- التاريخ الكامل: ج 1 ص 358 و359، السيرة النبوية: ج 1 ص 184 الهامش، تاريخ الخميس: ج 1 ص 259.
7- سيرة ابن هشام: ج 1 ص 184 - 187، الأغاني: ج 22 ص 56 - 75.
8- الأغاني: ج 22 ص 73.
9- البداية والنهاية: ج 1 ص 290.
10- البداية والنهاية: ج 1 ص 290.
11- من قبل عمّه معاوية.
12- السيرة الحلبية: ج 1 ص 132.
13- البداية والنهاية: ج 2 ص 293.