سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الثامنة للهجرة

معركة حنين

تحصيل المعلومات العسكرية جيش قليل النظير
استقامة النبي ومن ثبتَ من أصحابه تجهيزات المسلمين
لقطتان من الخلق النبوي العظيم غنائمُ الحرب


كانت طريقةُ رسول للّه صلّى اللّه عليه وآله عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شؤونها السياسية والدينية مادام هو ما فيها، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفراداً صالحين للقيام بتلك الاُمور، وشغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإن الاسلام دين متكامل، ونظام سياسي، إجتماعي، أخلاقي، ومعنوي يستمد قوانينهُ من منبع الوحي الطاهر، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين ومدرَّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام واُصوله الصحيحة، وتنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هذا عند فتح مكة، فانه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن قرر مغادرة مكة والمسير إلى قبيلتي "هوازن" و"ثقيف" عيَّن "معاذ بن جبل" ليعلِّمَ الناس القرآن، وأحكام الاسلام، و"عتابَ بن اُسيد" الذي كان رجلاً مؤهَّلاً، لادارة الامور، والصلاة بالناس جماعة، ثم غادر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوماً متوجهاً إلى أرض هوازن1.

جيش قليل النظير:
كان الجيش الذي سار به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى هوازن يبلغ (12) ألفاً من الجنود المسلحين: عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة، وشاركوا في فتح مكة، وألفان من رجال و شباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح، وقد أوكل النبي صلّى اللّه عليه وآله قيادتهم إلى أبي سفيان2.

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير، ونادر المثيل في تلك العصور، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سبباً في هزيمته في مبدأ الأمر، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة، وغفلوا عن خطط العدو ونواياهُ فكان ذلك داعياً إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين: لو لَقينا بني شيبان ما بالينا، لن نُغلَبَ اليومَ من قِلة3. ولكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد وضخامة الجيش، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريمُ إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾4.

تحصيل المعلومات العسكرية:
بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن وثقيف، وجرت اتصالات مكثفة بينها، وكان حلقة الاتصال، والمدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عُرف بالفروسية والشجاعة يدعى "مالك بن عوف النصري". وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شاباً متهوراً في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا اليه عما قريب، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة. فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والاطفال والاموال وراء ظهورهم وعندما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال: اردتُ من جعل كل رجل أهله وماله وولده ونساءه خلفه حتى يقاتل عنهم5.

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم. وقد خالف شيخ مجرب حنَّكته الحروب منهم يدعى "دريد بن الصمة" هذه الخطة عندما سمع رغاء البعير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وجادل فيها مالكاً، واعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس: يا قوم إن هذا فاضحُكُم في عورتكم، وممكِّن منكم عدوّكم، وهل يردُ المنهزم شيء ؟

ولكن مالكاً لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماماً وقال: - وهو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة -: أنك قد كبرت، وكبر علمك، وحدث بعدك من هو أبصرُ بالحرب منك. ولقد اثبت المستقبلُ صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنَّك فان إشراك النساء والاطفال والانعام في الحرب، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة، فيما بعد.

ثم إنَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث "عبد اللّه بن حدرد الأسلمي"، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم وخططهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق الرجل اليهم ثم عاد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأَخبارهم.

وكان "مالك بن عوف" قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين، ويأتوه بأخبارهم، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائدُ العدوّ أن يجبُر ضعف جنوده وقتلتهم باستخدام الخدع العسكرية، والتوسل باُسلوب المباغتة ليفرق - بهجوم مفاجئ - صفوف المسلمين، ويهدم نظامهم وانسجامهم، ويصيبهم بالهرج والمرج، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة، فلا تتمكن من ضبط الاُمور، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ولتحقيق هذا الهدف هبط "مالك بن عوف" بجيشه في واد ينحدر الى منطقة "حنين"، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والاحجار، وفي شغاف الجبال، وكل ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجالُ هوازن وثقيف من مكامنهم، وكمائنهم، ورموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو، بالحجارة والنبل، ثم يخرج اليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف !!

تجهيزات المسلمين:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عارفاً بقوة العدوّ وعناده فدعى "صفوان بن اُمية" قبل مغادرة مكة، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة، ولبس رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسُه درعين كما لبسَ المغفر والبيضة، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتى دَنوا جميعاً من الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة "بني سليم" بقيادة "خالد بن الوليد" في وادي "حنين"، وبينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجالُ هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد، وأخذوا يرشقونهم بالاحجار والنبال، فالقت أصواتُ الاحجار والنبال فزعاً شديداً في قلوب المسلمين الذين مُطروا بالسهام والنبال والاحجار من جانب، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضرباً وقتلاً.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين، فقد أوحشتها، وأصابت المسلمين بالفوضى، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون إختيار، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوُّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهذا الحادث، وسروا به سروراً عظيماً حتى قال أبو سفيان شامتاً: لا ينتهي هزيمتُهم دون البحر، وقال آخر: ألا بطَلَ السحرُ اليوم، وقال ثالث: لا يجتبرها محمَّد وأصحابه، وعزم رابع على اغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدسة6.

استقامة النبي ومن ثبتَ من أصحابه:
لقد ازعج فرارُ المسلمين الذي كان نابعاً - في الدرجة الاولى من الفزع والفوضى التي أصابتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأدرك صلّى اللّه عليه وآله بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيَّر وجهُ التاريخ ولتبدّل مسار البشرية، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد. من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته: "يا أنصار اللّه وانصار رسوله أنا عبدُ اللّه ورسولُه".

قال هذا واندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله "مالك" وجنودُه مسرحاً لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم، ومشى معه من لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالب عليه السَّلام والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وأبي سفيان بن الحارث الذين لم يغفلوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله منذ بدء القتال لحظة واحدة، وامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عمَّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم، ولا يلوون على شيء: "يا معشَر الانصار، يا معشر السَمُرة"7.

ويقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان، فكان هذا النداء تذكيراً بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بان ينصروه حتى الموت. فبلغت صرخاتُ العباس مسامع المسلمين فثارت حميتُهم، وأخذوا يثوبون الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهم يقولون: لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءاتُ العباس المتلاحقة التي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهي نادمة على فرارها ندماً شديداً، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لغسل ما لحق بهم من عار الفرار، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار والرسول القائد صلّى اللّه عليه وآله يقول تشجيعاً لهم، وتقوية لمعنوياتهم:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".

وقد تسبَّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة، تاركين وراءهم اموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتو بهم الى ساحة المعركة، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك - كما أسلفنا، وفروا بعد أن قُتِلَ منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة، وقلاع الطائف.

غنائمُ الحرب:
لقد بلغت خسائرُ المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو. كما وأن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف رأس غنم، وأربعة آلاف اُوقية8 من الفضة.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمر بأن يؤخذ الاسرى والغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة (وهي ماء بين الطائف ومكة) وكلّف أشخاصاً معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصة، كما أمر بأن تُحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان، ريثما يرى فيها رأيه، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس ونخلة والطائف9.

لقطتان من الخلق النبوي العظيم:
وينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية، وعمق الرحمة الاسلامية:

1 - بعد أن أعاد النبيُ المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكّروا على هوازن وهزموهم هزيمة قبيحة، قالت ام سُليم بنت ملحان للنبي صلّى اللّه عليه وآله: يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك !! لا تعفُ عنهم اذا أمكنك اللّه منهم، تقتلهم كما تقتُل هؤلاء المشركين! فقال صلّى اللّه عليه وآله: يا اُم سُليم! قد كفى اللّه، عافية اللّه أوسعُ10. وهكذا نجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2 - حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذُرية، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: ما بالُ أقوام ذهب بهم القتلُ حتى بلغ الذرية! ألا لا تُقتلُ الذرية. فقال اُسيد بن الحضير: يا رسول اللّه أليس إنما هم أولاد المشركين! فقال: أوَليس خيارُكم أولادُ المشركين ؟! كلُ نسمة تولَدُ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانُها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها11.


1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 137، والمغازي: ج 3 ص 889.
2- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 139، المغازي: ج 3 ص 889.
3- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 150، المغازي: ج 3 ص 889.
4- التوبة: 25.
5- المغازي: ج 3 ص 897.
6- المغازي: ج 3 ص 909 - 910، السيرة النبوية: ج 2 ص 443، امتاع الاسماع: ج 1 ص 411 و412.
7- ولقد ذكر المغازي في ج 3 ص 902 جانباً من بطولات علي عليه السَّلام وتضحياته في هذه الموقعة.
8- الرطل 2564 غراماً والاوقية 12 / 1 من الرطل فعلى هذا تكون الاُوقية 213 غراماً، وأربعة آلاف اُوقية تساوى 852 كيلو غراماً.
9- كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.
10و11 امتاع الاسماع: ج 1 ص 409.