سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة التاسعة للهجرة

غَزوَةُ تَبُوك

المتخلِّفُون عن القتال تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب
جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك اكتشافُ شَبكَة جاسُوسيَّة في المدينة
علم رسول اللّه بالمغيّبات قصة مالك بن قيس
بعث خالد إلى دَومة الجندل جيش الإسلام في أرض تبوك
المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي تقييم إجمالي لغزوة تبوك
  قصة مسجد الضّرار


كانت القلعةُ القويّة، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق "حجر" و"الشام" تسمّى تبوكاً.

وكانت سوريةُ آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية، التي كانت عاصمتُها القسطنطنية.

وكان جميعُ سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السَّلام وكان اكثر زعمائها ولاة منصوبين من قِبَل حاكم الشام الذي كان يمثّلُ هو بدوره إمبراطور الروم، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الإسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكسُ بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم، وكان ذلك يُرعبُ الأعداء، ويدفعُهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفعَ سقوطُ حكومة "مكة" الوثنية، واعتناقُ زعماء الحجاز الكبار للدين الإسلامي، وبطولات جنود الإسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم، بإمبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعاً كبيرة، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الإسلام المطَّرد، وكانت مخاوفه تزدادُ يوماً بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الإسلامية العسكرية، وانتشار نفوذه السياسيّ.

كانت الرومُ- آنذاك- المنافسة الوحيدة، والقوية لإيران، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية، وكانت مغترَّة أشدّ الغرور بنفسها، لما أصابتهُ من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران، وما ألحقتهُ من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّفُ من أربعين ألف فارس وراجل، وكان مجهّزاً بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر، وقد استقرَّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام، والتحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة "لخم" "عاملة" "غسان" "جذام"، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة "البلقاء".

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبي صلّى اللّه عليه وآله عن طريق القوافل التجارية التي تعملُ على طريق الحجاز- الشام فلم يرَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بُدّاً من أن يردَّ على هؤلاء المعتدين، بجيش عظيم، ويحافظ بذلك على الدين الَّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اُريقت من أصحابه، وبفضل تضحياته هو صلّى اللّه عليه وآله وهو الآن على أبواب أن يعمَّ العالم نورُه وهُداه، من ضريات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبرُ المقلق أهل المدينة، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، والناس في زمان عسرة، وشدة من الحرّ، وجدب من البلاد، وقد طابت الثمار، والناسُ يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرَهُون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية، وروح الحفاظ على الأهداف المقدَّسة، والجهاد في سبيل اللّه مقدّم- عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين- على كل تلك الامور.

تعبئةُ المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعرفُ على نحو الإجمال مدى وحجم استعدادات العدوّ، وطاقاته، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئناً إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة- مضافاً إلى الخلفية المعنوية القوية وهي الايمان باللّه والقتال ابتغاء لمرضاته- إلى قوة عسكرية كبيرة جداً ولهذا بعث رجالاً إلى مكة، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه، ويحثُّون أهل الغنى والثروة، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

وأخيراً أعلن ثلاثون ألفاً من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند "ثنية الوداع" وتهيَّأَ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة، وكان الجيش الإسلامي يتألف من عشرة آلاف فارس، وعشرين الف راجل.

وقد أمر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن تتخذَ كلُّ قبيلة راية لنفسها.

المتخلِّفُون عن القتال
كانت غزوةُ "تبوك" خير محَكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوَة اُعلِنت في وقت كان الناسُ يستعدُّون فيه للحصاد من جهة، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اُخرى، فكشف تخلّفُ البعض- بالأعذار والحجج المختلفة- القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعضُ عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية
1- عندما قال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله للجدّ بن قيس،- وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة-:"أبا وهب هل لكَ العامَ تخرجُ معن"؟

فقال: يا رسولَ اللّه أوَتأذنُ لي، ولا تفتِنّي1 فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد اشدُّ عَجباً بالنساء مني، واني لأخشى إن رأيتُ بنات بني الأصفر (الروم) لا أصبرُ عليهنَّ.

فاعرضَ عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، وقد نزل فيه قول اللّه تعإلى:"وَمِنهُم مَن يَقُولُ إئذَن لي ولا تَفتِنّي ألا في الفِتنَةِ سَقطُوا وان جَهنمَ لمحيطة بالكافِرين"2.

2- المنافقون:
إن جماعة ممن تظاهروا الإسلام والإيمان وهم منه خلو، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في غزوة تبوك، وربما تحجَّجوا بشدة الحرّ فقالوا: يغزوُ محمَّد بني الأصفر مع جَهدِ الحال والحرّ، والبلد البعيد، إلى ما قِبَل له به، يحسب محمَّد أنَ قتال بني الاصفر اللعب، فنزل فيهم قول اللّه تعإلى:"وَقالُوا لا تَنفِرُوا في الحرِّ قُل نارُ جَهَنّم أشدُّ حَرّاً لَو كانُوا يَفقَهُونَ فَليضحكُوا قَليلاً وَليبكُوا كَثيراً جَزاء بما كانُوا يكِسبُونَ"3.

وقد كان بعضُ المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة، وكانُوا يقولونَ في هذا الصدد: تحسَبُون قتال بني الأصفر كقِتال غيرهم، واللّه لكأنّا بكم غداً مقرَّنين في الحبال؟!4.

اكتشافُ شَبكَة جاسُوسيَّة في المدينة
كانَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما أسلَفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماماً كبيراً، وكان اكثر انتصاراته تعُودُ إلى حُسن إستخدامه لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته، وعلى هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن ناساً من المنافقين يجتمعونَ في بيتِ "سويلم" اليهودي، ويخطِّطُون لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الغزوة، فبعث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله "طلحة بن عبيد اللّه" في نفر من أصحابه لإرهاب اُولئك المتآمرين حتى يكفُّوا عن التآمر، وأمره بأن يُحرِّق عليهم بيت "سويلم". ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بَغتة، وهم يخطِّطون، ويُدبّرون مؤامرة، واُحرق البيت، ففرُّوا وسط ألسنة اللهَب، وأعمدة الدخان، وافلَتُوا، وانكسرَت رجلُ أحدهم حين الفرار.

وقد كانَ هذا الاجراء مُفيداً في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رؤوسهم وهو "الضَّحّاك بن خليفة":

كادَت وبَيتِ اللّه نارُ محمَّد             يشيطُ بها الضحّاك وابنُ أبيرق

وظَلتُ وقد طبَّقتُ كِبسَ سوَيلم        أنوءُ على رجلي كسيرا ومرفَقي

سلام عَليكُم لا أعودُ لِمثلِها           أخافُ وَمَن تشمل به النارُ يحرقُ5.


3- البكّاؤون:
لقد أتى رجال من المسلمين رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى هذه الغزوة، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"لا أجدُ ما أحمِلُكُم عليه".

فتولّوا وأعيُنُهم تفيضُ من الدمع حُزناً، ألا يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رجال نافقوا، وتركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضاً من كان يبكي بكاء مُرّاً لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عُرفوا

في التاريخ الاسالمي بالبكائين، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعإلى:"وَلا عَلى الّذينَ إذا ما أتوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لا أجدُ ما اَحمِلُكُم علَيهِ تَولَّوا وَأعيُنُهم تفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَناً ألا يَجدُوا ما يُنفقُونَ"6.

4- المتخلفون:
ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن الخروج، وتخلَّفوا لا عَن شكّ وارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، وقد كانوا أهل صِدق لا يُتَّهمون في إسلامهم، إنّما تخلَّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلّى اللّه عليه وآله بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف وهم (المخلَّفون) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوةُ تبوك، فوبَّخهمُ اللّه تعإلى وعاقبهم على تخلّفِهم ليكونَ في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستتعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

5- المجاهدون الصادقون:
الذين لَبّوا نداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ، ورغبة عظيمة في الجهاد.عدمُ مشاركة "عليّ" في غزوة تَبُوك:

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام أنه شارك في جميع المعارك، ولازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جميع غزواته،- وكان هو حاملُ لوائه في تلك المعارك والغزوات- ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يدرك جيّداً أن بعض المنافقين والمتربّصين، والمتحينين الفرصَ من رجال قريش سيستغِلّون فرصةَ غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الإسلامية) فيثيرون فيها فتنة، ويجهزون على الحكومة الإسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، وأن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكاناً نائياً، وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام (المدينة)!!

ولقد كانت "تبوك" أبعد نقطة خرج اليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جميع غزواته، فكان يحدس- بقوة- أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه، ويجمعوا من يرون رأيهم ويذهبُ مذهبَهم من شتى أنحاء الحجاز، ويتحدوا لضرب الدولة الإسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا- رغم أنه استخلف "محمَّد بن مَسلَمة" على المدينة- قال للامام "علي بن أبي طالب":"أنتَ خليفَتني في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.يا علي إنّ المدينة لا تَصلُحُ إلا بي وبكَ".

ولقد أزعج بقاءُ عليّ عليه السَّلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربَّصون الإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرصة، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبىّ صلّى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودُوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السَّلام في المدينة، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به، ولهذا أرجفوا به، وبثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا: ما خلّف رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله عَليّاً إلا استثقالاً له، وتخفّفاً منه، أو: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دعاهُ إلى الخروج لتبوك، ولكن علياً امتنعَ من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، وبُعد الطريق وإيثاراً للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة، وتكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السَّلام سلاحه، وخرج حتى أتى رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو نازل بالجرف (وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة) فقال:"يا نبيَ اللّه، زَعَمَ المنافقون أنَّكَ إنّما خَلَّفتَنِي أنَّكَ استثقَلتَنِي وَتخفَّفتَ منّي".

فقالَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله حينئذٍ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام وخلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بلا فصل:"كَذِبُوا، وَلكنّني خلَّفتُك لما تَركتُ ورائي فاخلُفنِي في أهلِي وَ أهلِكَ أفَلا تَرضى يا عَليّ أن تكُونَ مِنّي بِمنزلةِ هارونَ مِن مُوسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"7.

فرجع عليّ عليه السَّلام إلى المدينة المنورة، ومضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على سفره8.

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك

لقد دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذا خرج لتأديب قوم يكيدون الإسلام، ويمنعون من تقدمه وانتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها، أو إيجاد فتن فيها، على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده واُمراء جيشه، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطناً، حتى لا يعرف به العدو فيتهيّأ لمواجهته، وبذلك يتسنى له صلّى اللّه عليه وآله أن يباغت العدوّ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه9 غير أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عدَل عن هذه السيرة في قضيّة غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهَّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بَيّن للناس- منذ أعلن التعبئة العامة- الوجهة التي يقصُدُها، وكان السرُّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفَر وصعوبتَهُ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدة اللازمة.

هذا مضافاً إلى أن رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان مضطرّاً- لتقوية الجيش الإسلامي- إلى أن يستعينَ بقبائل "تميم" و"عطفان" و"طيّ" التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

وقد عَمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل، وساداتها كما كتب إلى "عتّاب بن اُسيد" أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل، وفتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس10.

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينجسم مع الكتمان والسريّة، لأنه كان لابدَّ أن يخبر صلّى اللّه عليه وآله رؤساء القبائل في هذا الموضوع، ويذكر لهم أهميّته، ليحملُوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبي صلّى اللّه عليه وآله يستعرضُ جيشَهُ
ولما حانَ موعد تحرك الجيشُ استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جيشَه في معسكر المدينة العظيم، المؤلَّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام، والذين فضّلوا المشقة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال، والتجارة، وكسب المال واكتناز الثروة، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيماناً ويقيناً.

لقد كان هذا المشهد جميلاً ورائعاً جداً، وكان له أثر قوي في نفس المتفرحين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خطبة مهمة، لتقوية معنويات المجاهدين، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله قال:"أيُّها الناس! أما بعدُ، فإنَ أصدقَ الحديث كتابُ اللّه وأوثق العُرى كَلِمة التقوى وَخير المِلَل ملةُ إبراهيم عليه السَّلام وخير السنن سننُ محمَّد وأشرف الحديث ذكرُ اللّه وأحسنَ القصَص هذا القُرآن وخير الاُمور عواقبها وَشرّ الاُمور محدَثاتُها وأحسن الهدى هَديُ الأنبياء وأشرفَ القَتل قتل الشهداء".

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الإسلامية الهامة فرغبَ الناسُ في الجهاد لما سمِعوا هذا مِن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله11 ثم أصدر رسولُ اللّه أوامره للجنود بالتوجه إلى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

قصة مالك بن قيس
رجع مالك بن قيس "ابو خيثمة" بعد أن سارَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أياماً إلى أهله في يوم حار، فوجد المدينة فارغة، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش، وبرّدتا له ماءً، وهيأتا له طعاماً، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، وفكَّر في ما فيه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه من الحال، وقد انطلَقُوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال: رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الشمس والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف.

ثم قال: لا أدخلُ عريش واحدة منكُنا حتى ألحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زاداً، ففعلتا ثم قدَّم بعيره فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد لقيَ في أثناء الطريق أبا خيثمة "عميرُ بن وهيب الجمحي" وهو يطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله12.

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يُوفَّق- في بداية الامر- لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلا أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير، ولم يكن مثل اُولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها، وابتعدوا عنها، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا "عبد اللّه بن اُبي" رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين، ولكنه لخبث سريرته، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريم صلّى اللّه عيه وآله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الإسلامي، وعاد إلى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب، وحيث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان على عِلم بنفاقه، وخُبث سريرته وكان يدرك جيداً أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة، لذلك لم يهتم صلّى اللّه عليه وآله بانفصاله عن الجيش الإسلامي ورجوعه إلى المدينة.

مصاعبُ الطريق
لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش "العُسرة" ولكن ايمانهم العميق باللّه، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهَّل لهم تلك المصاعب، وهوّن عليهم تلك المشاق، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعندما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وجهه بثوبه، واستحثّ راحلته ومرَّ على بيوتهم، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه:"لا تَدخُلُوا بُيوتَ الَّذينَ ظَلَمُوا إلا وَأنتُم باكونَ خوفاً أن يُصِيبكُم مثلَ ما أصابَهُم".

وهو بذلك يحثُّ أصحابه على التدبر في أحوال من مضى مِن الاقوام والشعوب، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا إليه بسبب عُتوّهم وعنادهم، وتمرّدهم على الحق، فان ظلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع، والأطلال الصامتة خيرُ عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئاً، وأن لا يتوضأوا به للصلاة، وأن لا يحاسَ به حيس، ولا يطبَخَ به طعام، وأن العجينَ الذي عُجِنَ به، أو الحيس الذي فُعِلَ به يُعلَف الإبل، وأن الطبيخ الذي طُبَخَ به يُلقى، ولا يأكُلُوا منه شيئاً13.

ففعل الناس ما أمَرهُم به رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم انَ الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضُه وصلوا إلى البئر التي كانت تشرب منها ناقةُ صالح النبي عليه السَّلام، فنزلُوا عليها بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

تعلميات احتياطيّة
ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يعرفُ بالرياح الشديدة والساقّة والعواصف القوية التي كانت تهبُّ في تلك الأَرض بين الحين والآخر، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدر صلّى اللّه عليه وآله إلى أصحابه تعليمات إحتياطية مشدَّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجاربُ والاحداثُ فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جداً، لأن شخصين من بني ساعدة من الَّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تجاهَلا هذه التعلميات فخرجا منفردين من خبائهما ليلاً، فاختنق أحدهما لشدة الرياح، بينما احتملت الريحُ الرجل الآخر، وضربت به الجبَل، ولما علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك انزعجَ بشدّة وقال:"ألم أنهكُم أن يَخرجَ منكم أحد إلا وَمعهُ صاحبُه"14.

هذا وقد استعمل رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله على حرس العسكر "عباد بن بشر" فكانَ يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطَعُ رقابهم، حتى حملَ ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشُقوا كراشها، ويبشربُوا ماءها، بينما صبر آخرون، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد، وقلوب ملتهبة عطشاً.

ولقد أعان اللّه تعإلى الذي كان قد وَعَد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء، مرة اُخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول اللّه بالمغيّبات
لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يطلعَ على الغيب ممّا يخفى على الناس، ويخبر به كما يصرح القرآنُ الكريم بذلك، إلا أنَّ هذا العلم لا ريب محدود، ويحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعإلى:﴿عالِمُ الغَيبِ فلا يُظهِرُ عَلى غَيبهِ أحَداً إلا مَنِ ارتضى مِن رَسُولٍ15.

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في بعض الاحايين، أبسط الاُمور، كأن يفقد مفتاحاً، أو يضيّع مالاً ولا يعرف بمكانه ومصيره، بينما يقدر صلّى اللّه عليه وآله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضاً فيثير حيرة الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه، فان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علمَ وأخبر، وإلا كان صلّى اللّه عليه وآله كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لابد أن ننظر إلى القصة التالية
لما كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، وقال: أليس محمَّد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟.

فقال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يكشفُ النقاب ببيانه الرائع:"إن رجُلاً قال: هذا محمَّد يخبرُكُم أنه نبيّ ويزعَم أنه يخبركم بأمر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني واللّه ما أعلمُ إلا ما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها وهي في هذا الوادي في شِعب كذا وكذا وقد حبَستها شجرة بزمامها فانطلِقُوا حتى تأتوني به".

فذهب بعضُ الصحابة من فورهم، وجاؤوا بها16.

إخباره بمغيَّب آخر
لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذ أبطأ به بعيره، فانتظرهُ المسلمون ريثما يقوم بعيرُه، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير، وأخذ متاعه فحملَهُ على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ماشياً، ونزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، وفجأة لاح من بعيد رجل، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال: يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"رَحمَ اللّه أبا ذر يَمشي وحدَه وَيموتُ وحدَه وَيُبعَثُ وحدَه"17.

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة، فقد توفي أبو ذر في صحراء "الربذة"، وعنده ابنتُه بعيداً عن الناس في حالة مأساوية18.

لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاماً، فقد نُفِيَ هذا الصحابيُ المجاهدُ الصادق إلى الشام ثم إلى الربذة لا لشيء إلا لأنّه جهر بالحق، وطالب بالعدل، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئاً فشيئاً حتى غدا طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها: ما يُبكيك؟

فقالت: أبكي أنه لا يَد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعينني على دفنِكَ، أو لَيسَ عندي ثوب يسعُك كَفناً)!

فارتسمت على شفتَي أبي ذر ابتسامة مُرّة وقال: لا تبكي عليَّ، فاني سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: ليموتُنَّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهدهُ عِصابه من المؤمنين (ثم قال:) فكلُّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق، فانك سوف ترين ما أقولُ لك فاني واللّه ما كَذُبتُ ولا كُذِبتُ.

قال هذا وفاضت روحه المباركة19.

ولقد صَدَق ابو ذر، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات كبرى مثل "عبد اللّه بن مسعود" و"حجر بن عدي" و"مالك الاشتر" تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى "عبد اللّه" مِن بعيد مشهداً عجيباً... مشهدَ جسد بلا روح على قارعة الطريق، وعند ذلك الجسد إمرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف "عبد اللّه" زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة، وما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناهُ بالدموع، ووقف عند جثمان أبي ذر، وتذكَّر نبوءة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله في غزوة تبوك وقال: "رحم اللّه أبا ذر يمشي وحدَه، ويموتُ وحدَه، ويبعث وحده".

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراهُ الثرى، وبعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال:

اللَّهم إنَّ هذا صاحبُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عَبَدك في العابدين، وجاهَدَ فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّل لكنَّه رأى غريباً منكراً فغيّره بلساه وقلبه، حتى جُفيَ وُنفيَ وحُرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً20.

وقد اشار السبكي في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية

وعاش أبو ذر كما قلتَ وحدَه      ومات وحيداً في بلاد بعيدة

جيش الإسلام في أرض تبوك
حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، ولكن دون أن يرى أثراً عن جيش الروم، وكأن جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجاً منها عن كثب في معركة "مؤتة" رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين، ويثبتوا بذلك عَمليّاً نبأ اجتماعهم ضدَّ المسلمين، ويتظاهروا بأنه لم تراودهُم فكرة الهجوم على المسلمين قط، وأن هذا النبأ لم يكن إلا شائعة لا أكثر، فيثبتوا مِن هذا الطريق حيادَهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية21.

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله قادة جيشه الكبار، وتبعاً للاصل الإسلامي "وشاورهُم في الأمر" تحادثَ معهم حولَ التقدُّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنَّ على الجيش الإسلامي الذي تحمَّلَ مشاق كثيرة في هذه السَفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطَه، وقواه، هذا مُضافاً إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد إجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحاً من الزمن تكفي للمسلمين فعلاً حتى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

ولقد أضاف كبار المشيرين- حفاظاً على مكانة الرسول القائد، وإشعاراً بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد- قائلين: إن كنتَ اُمِرتَ بالسَير فسِر22.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"لو اُمرتُ بهِ ما استشَرتُكُم فِيهِ".

وهكذا احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله آراء مشاوريه ورضي بالعودة إلى المدينة23.

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم، وكانوا جميعاً نضارى، ولهذا كانَ من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله معاهدة عدم اعتداء، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع، فأجرى صلّى اللّه عليه وآله اتصالات مباشرة مع اُولئك الحُكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيداً من الأمن للمسلمين.

لقد اتصلَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله شخصياً بزعماء "أيلة" و "أذرح" و"الجرباء"، وتمَّ عقدُ معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و"أيلة" مدينة ساحلية تقعُ على ساحل البحر الأحمر، ولا تبعدُ عن الشام كثيراً، وكان زعيم تلك المنطقة هو "يوحنا بن رُؤبة"، فهو يومَ اُتي به إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فرساً أبيض، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فاحترمه النبي واكرمهُ، وصالحه، وكساه بُرداً يمنياً.

وقد قبلَ "يوحن" هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنوياً وعلى أن يحسنَ إلى مَن يمرُّ على أيلة من المسلمين وكتب لهُ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كتابَ أمان وقَّعهُ الطرفان، واليك نص الكتاب المذكور:

"بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنة من اللّه ومحمَّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسُفُنِهم وسياراتهم في البّر والبحر، لهم ذمةُ اللّه وذمةُ محمَّد رسول اللّه ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، ومن أحدث حدثاً، فانه لا يحولُ مالُه دون نفسه، وأنّه طَيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلُّ أن يُمنَعُوا ماء يردونه ولا طريقاً يُريدونه من بَرٍّ وبَحر.

هذا الكتاب يكشفُ عن قاعدة مهمّة في السياسة الإسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالِم المسلمين وفَّر الاسلام له كلَ أمن وسلام24.

ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله صالَحَ بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام "أذرح" و"جرباء" التي كانت تتمتع بأهمية استراتيجية، وبذلك ضمنَ أمن المنطقة الإسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دَومة الجندل
على طريق تبوك كانت تقعُ منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضمُّ حصناً منيعاً، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخاً، تسمى "دومة الجندل"25 وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى "اكيدر بن عبد الملك".

وحيث أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يخشى هجوماً آخر من الروم، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرِّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلّى اللّه عليه وآله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد إلى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه إلى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها، وكمنوا قريباً منه.

وفي تلك الليلة خرج "اكيدر" وأخوه "حسان" من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيلُ خالد وأسروا "اكيدر" بعد قيل من القتال والمواجهة، وقُتل اخوه "حسان"ولجأ البقية إلى الحصن، واعتصموا به، فصالح خالد "اكيدر" على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلُها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فخلب منظرُ الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طُلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقالَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو لا يكثرت بتلك الثياب:"فَوَ الَّذي بنفسي لَمناديلُ الجنة أحسنُ مِن هذ".

لقد حضر "اكيدر" عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وامتنع عن قبول الاسلام إلا أنّه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين، وصالحه النبي صلّى اللّه عليه وآله على ذلك وكتب له كتاباً، ثم أهدى له صلّى اللّه عليه وآله هدية واستعمل على حرسه "عباد بن بشر" ليوصلَه إلى دومة الجندل سالماً26.

تقييم إجمالي لغزوة تبوك
إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وإن لم يلقَ في هذا السَفَر الشاق كيداً ولم يواجه العدوّ، ولم يقاتل إلا أنَّ هذه السَفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي:

أولاً: صعود مكانة وسمعة الجيش الإسلامي، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز، وحُكّام المناطق الحدودية السورية، وعرف الصديقُ والعدوُّ أن المقدرة العسكرية الإسلامية بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن إنتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عُجنَت جبلَّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة، والتآمر ضدِّ الاسلام ردحاً من الزمن، وأن لا تفكَّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفودُ القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعاً على رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله بعد رجوعه من تبوك إلى المدينة، وتظهر لرسول اللّه صلّى اللّه عيه وآله طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العامُ بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

ثانياً:
ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ الاسلام والمسلمين.

ثالثاً:
مهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بهذا السفر الطريق لفتح الشام، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

رابعاً:
تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطُون لاغتيال النبي
أقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مدة بضع عشرة يوماً في تبوك27 وبعد أن بعث خالداً إلى "دومة الجندل" توجه بالمسلمين إلى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقاً ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أثناء الطريق وقبل أن يصلَ إلى المدينة، وذلك بتنفير ناقة النبي صلّى اللّه عليه وآله في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعندما وصل الجيشُ الإسلامي إلى بداية تلك المنطقة (العقبة) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"من شاء مِنكُم أن يأخذَ بطنَ الواقدي فَإنَّه أوسعُ لَكُم".

فأخذَ الناس بطن الوادي، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أخذَ طريق العقبة فيما يسوق "حذيفة بن اليمان" ناقة النبي، ويقودُها "عمار بن ياسر" فبينما هم يسيرون إذ التفت رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى خَلفِه، فرأى في ضوء ليلة مقمرة فرساناً متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته، وهم يتخافتون، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلاً: إضرب وجوه رواحِلهم.

فأرعبهم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بصياحه بهم إرعاباً شديداً، وعرفوا بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله علمَ بمكرهم ومؤامرتهم، فأسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقولُ حذيفة: فعرفتُهُم برواحلهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقلتُ: يا رسول اللّه ألا تبعث إليهم لتقتُلَهم؟ فاجابَهُ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في لحن ملؤه الحنان والعاطفة:"إن اللّه أَمرني أن اُعرض عنهم، واكرهُ أن يقول الناسُ أنّه دَعا اُناساً مِن قومهِ وأَصحابه إلي دينهُ فاستجابوا له فقاتل بِهِم حَتى ظَهَرَ عَلى عدوِّه ثمِّ أقبلَ عليهم فَقتَلَهُم وَلكِن دَعهُم ياحذيفة فانَّ اللّه لَهُم باِلمرصاد"28.

وقد أنزل اللّه سبحانه إثر سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة التي قال تعإلى فيها: ﴿وَلئِن سأَلتهم ليقولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ29.

النية تقومُ مقام العمل
ليس ثمة مشهد أعظمَ جلالاً من مشهد جيش فاتح يعودُ إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمر ألذَّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ، التي تحفظ أمجاده، وتضمن بقاء كيانه، وسلامته، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخلَ الجيشُ الإسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوَى المسافة بين "تبوك" و"المدينة"، وكانت تغمر جنودَ الاسلام فرحة كبيرة، وتظهرُ على كلماتهم وأعمالهم إماراتُ الاعتزاز لما أحرزوه مِن غلبة على العدوّ، ومن أداء لحق الجندية، وكان السببُ واضحاً لأنَّهم أرعَبوا دولة قوّية سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين اليها، وهم طَوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية، وأخضعوهم للدولة الإسلامية.

لا شكّ أنَّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش، وكان طبيعياً أن يفتخر أفرادُ هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجِدَ غروراً لدَى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم، وأتراحهم لهذا إلتفتَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهُم على مشارف المدينة وقد توقَّفُوا خارج المدينة بعض الوقت:"إنَّ بالمدينة لأَقواماً ما سِرتُم سيراً ولا قطعتُم وادياً إلا كانُوا معكُم".

قالوا يا رسول اللّه: وهم بالمدينة؟
قال: "نعم، حبسَهُمُ العُذرُ"30.

أجل أنهم كانوا يتشوَّقون إلى الجهاد هذا الواجب الإسلامي الكبير، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبيَ الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار- في الحقيقة- إلى واحد من البرامج الإسلامية التربوية، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقومُ مقام العمل الصالح الطيب، وأن الذين يُحرَمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك، واشتاقُوا إليه قلبياً.

إذا كان الاسلام يهتمُّ باصلاح الظاهر، فانه يهتمُّ أكثر باصلاح القلب والفكر، باصلاح الباطن والسريرة، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات، وأعمالنا كلُّها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبيُ الاكرمُ بقوله هذا من غُلَواء المجاهدين وغرورهم، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوانُ إلا أنّه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقِّنهم درساً لن ينسَوه، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلِّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ
يوم اُعلِنَ في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم: "هلال بن اُمية"، و"كعب بن مالك" و"مرارة بن الربيع" فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا اليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذَر أحدُهم، بأن الوقت هو وقتُ إدراك الثمر، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار، وتهمُّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معاً يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ المادّية العابرة بالحياة الانسانية الشريفة، التي تتحققُ تحت لواء الإستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي، بل ربما رجَّحوا الاُولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلّى اللّه عليه وآله- بعد العودة- أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلَّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أيضاً، فإنهم انشغلوا بالتجارة، وجمع المال حتى فُوجئوا بعودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المُظفَّرة إلى المدينة فبادروا عند ذلك لملافاة ما بدَر منهم من تخلُّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرُون.

إلا أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم، وعندما تحدث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قال هو:"لا تُكلمنَّ أحداً مِن هؤلاء الثلاثة".

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصاً، إلا أن اكثرهُم حيث كانوا من المنافقين، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدُوّ لهذا تركَّز ثقلُ هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهُم سبقَ منه أن اشترك في غزوة بدر مثل "مرارة" و"هلال"، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحكيمة التي كانت جزءاً لا ينفك من دينه أثراً عجيباً، فقد تعطَّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين، وكسُدَت بضائعُهم، ولم يشترها أحد، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين إتباعاً لأوامر النبي صلّى اللّه عليه وآله، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها، وضغطت عليهم نفسياً بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.﴿حتى إذا ضاقَت عليهمُ الأرضُ بما رحُبت وضاقَت عليهِم أنفُسهم"31.

ولكنَّ هؤلاء الثلاثة المعرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الإسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بِهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي، وأن يظهروا ندمهم على فِعلهمُ القبيح بالتوبة إلى اللّه، والانابة اليه، وقبل اللّه تعإلى توبتهم، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادَر النبيُ صلّى اللّه عليه وآله من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم32.

قصة مسجد الضّرار
كانت "المدينة" و"نجران" تُعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن "ابا عامر" والد "حنظلة غسيل الملائكة" المستشهد في غزوة اُحد، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي، فانسلك في صفوف الرُّهبان، فلمّا ظهر نجم الإسلام من اُفق المدينة بعد هجرة النبي اليها، واحتوى الدين الجديد الأديان الاُخرى انزعج "أبو عامر" من هذه الظاهرة بشدة، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرفَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بخططهم التخريبية، وأراد اعتقاله، فخرج "أبو عامر" من المدينة إلى مكة، ومن مكّة إلى الطائف، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام، واخذ يقود من هناك شبكة تجسُّسيّة لحزب المنافقين.

وقد كتب إلى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجداً في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم- تحت غطاء أداء الفرائض- التحدث حول الاُمور المتعلقة الإسلام والمسلمين، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان "ابو عامر" على غرار أعداء السلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو سيلة اُخرى.

لقد كان "ابو عامر" يعلم أن النبي صلّى اللّه عليه وآله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقاً إلا إذا كان لذلك صبغة دينية، وكان تحت عنوان مسجد.

عندما كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتجهّز إلى "تبوك" أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلّى اللّه عليه وآله في الليلة المطيرة والليلة الشاتية، فأوكل النبي صلّى اللّه عليه وآله أمر النظر في طلبهم إلى ما بعد العودة من تبوك33.

غير أن حزب النفاق بادروا إلى اختيار نقطة من الأرض في قباء، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبي صلّى اللّه عليه وآله من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليُسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم، وفي هذه الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بحقيقة هذا الأمر، وسمّاه في آيات نزلَ بها على النبي بمسجد الضرار، ووصفه بأنه مركز بنُي لايجاد الفُرقة بين المسلمين، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى:﴿والَّذينَ اتَّخذُوا مسجِداً ضِراراً وكُفراً وتفريقاً بين المُؤمنينَ وإرصاداً لِمَن حاربَ اللّه ورسُولَهُ مِن قبلُ وليحلفُنَّ إن أردنا إلا الحُسنى واللّه يشهدُ إنَّهُم لكاذبُونَ لا تقُم فيه أبداً لمسجد اُسِّس على التَّقوى مِن أوَّل يوم أحقُّ أن تقُوم فيهِ فيهِ رجال يُحبُّون أن يتطهَّروا واللّه يُحبُّ المطَّهرينَ34.

فأمر النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله فوراً بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأَرض فحرِّق وهُدِّمَ وسُوِّيَ بالأرض وتحوَّل مكانُه إلى مزبلة فيما بعد35.

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النِّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث، وهلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أُبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الإسلامية التي شارك فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذ لم يشارك صلّى اللّه عليه وآله بعدها في أي قتال.


1- أي أخشى الافتتانُ ببنات الروم فلا تفتنّي بهنَّ يا رسول اللّه.
2- التوبة: 49.
3- امتاع الاسماع: ج 1 ص 450.
4- التوبة: 81 و 82.
5- السيرة النبوية: ج 2 ص 517.
6- التوبة: .
7- امتاع الاسماع: ج 1 ص 449 و 450.
8- السيرة النبوية: ج 2 ص 520، بحار الأنوار: ج 21 ص 207 و 208، وللوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنين عليه السَّلام راجع كتب العقائد والكلام.
9- المغازي: ج 3 ص 990.
10- بحار الأنوار: ج 21 ص 244.
11- المغازي: ج 2 ص 1016 بحار الأنوار: ج 21 ص 210- 212.
12- السيرة النبوية: ج 1 ص 520 وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها إلى عبد اللّه بن خيثمة.
13- السيرة النبوية: ج 2 ص 521 و 522، السيرة الحلبية: ج 3 ص 134 و 135.
14- السيرة الحلبية: ج 3 ص 134، السيرة النبوية: ج 2 ص 522.
15- الجن: 26 و 27.
16- السيرة النبوية: ج 2 ص 523، امتاع الاسماع: ج 1 ص 456.
17- السيرة النبوية: ج 2 ص 525.
18- المغاري: ج 3 ص 1000 و 1001.
19- اسد الغابة: ج 1 ص 302، الطبقات الكبرى: ج 4 ص 223، حلية الاولياء: ج 1 ص 302.
20- ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عندما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة إلى تلك المنطقة كما أنه صرح البعضُ أن زوجة أبي ذر وابنه حَملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلا القافلة على محل جثمانه الطاهر، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى: ج 4 ص 34- 232، والدرجات الرفيعة: ص 53.
21- يكتب الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1014 و 1015 أقام رسول اللّه بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول: إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمَع الناسَ، فخطَبَ فيهم خطبة بليغة ضمَّنها مواعظَ وتعاليمَ عظيمة كثيرة ثم ادرجَ نصَّ الخطبة.
22- المغازي: ج 3 ص 1019.
23- السيرة الحلبية: ج 3 ص 142.
24- السيرة النبوية: ج 2 ص 526، السيرة الحلبية: ج 3 ص 141، بحار الأنوار: ج 21 ص 160.
25- يقول الواقدي في المغازي: ج 3 ص 1025 تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.
26- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 166، بحار الأنوار: ج 21 ص 246.
27- السيرة النبوية: ج 2 ص 527 وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوماً (ج 2 ص 168).
28- المغازي: ج 3 ص 1042- 1045، مجمع البيان: ج 3 ص 46 بحار الأنوار: ج 21 ص 247، الدرجات الرفيعة: ص 298 و 299 وامتاع الاسماع: ج1 ص 477.
29- راجع مجمع البيان: ج 3 ص 46.
30- السيرة الحلبية: ج 3 ص 163، بحار الأنوار: ج 20 ص 219.
31- التوبة: 118، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وانابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.
32- السيرة الحلبية: ج 3 ص 165، بحار الأنوار: ج 10 ص 119 وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درساً كبيراً ومفيداً في مقابل الأقليات الصغيرة، وهو لا يحتاج إلا إلى الإخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي: (ج 3 ص 1049- 1056) قصة هؤلاء المخلفين بصورة أكثر تفصيلاً ممّا ذكرناه هذا.
33- المغازي: ج 3 ص 1046.
34- التوبة: 107 و108.
35- السيرة النبوية: ج 2 ص 530، بحار الأنوار: ج 20 ص 253.