سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة التاسعة للهجرة

وَفد ثقيف في المدينة

وفدُ ثَقِيف وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف
  شروط وَفدِ ثقيف

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنودُ الاسلام المجاهدون الى المدينة بأبدان متعبة من وعثاء السفر، وبُعد الطريق، ولم يلق جنود الاسلام كيداً ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي اية مواجهة كما ولم يواجهوا عدواً طوال ذلك الطريق، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذَّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملاً لغواً وعبثاً، وذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة، ولم يمض وقت كبير إلا واتضحت نتائجها، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء وعناداً للاسلام، وخضعت لسلطان المسلمين، بايفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة، وإظهار الطاعة والاسلام عن طريقها، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم - عادة - بالنتائج المرئية الحاضرة، فمثلاً إذا واجه جنودُ الاسلام خلال الرحلة عدوّاً، وقاتلوه وقضوا عليه، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة: لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة !!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحاً باهراً.

ومن حسن الاتفاق أن غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلّى اللّه عليه وآله وهو اجتذابُ الاقوام العربية الى الاسلام - خدمة كبرى -، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين (الذين غَلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت وحكموا حتى اليمن وما حولها في آخر حُروبهم، واستعادوا منهم صليبهم واعادوه إلى بيت المقدس) اُرعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى، وانصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفَع هذا النبأ اشدَّ القبائل عناداً، والتي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام والخضوع له، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة، وتفكِّر في التعاون والتعايش مع المسلمين، ولكي تسلَم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم (إيران والروم) انضوت تحت لواء الاسلام، واعلنت عن إنتمائها إليه. واليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف:
كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية، ولقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا1.

هذا وكان "عروة بن مسعود الثقفي" وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك، فقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبل أن يدخل المدينة، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من مخاطر هذا العمل لأنه صلّى اللّه عليه وآله كان يعرف أنَّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم.

وقال له: انهم قاتلوك.
فقال عروة: يا رسول اللّه أنا أحبُّ إليهم من أبكارهم، (أو من أبصارهم)، وكان فيهم كذلك محبَّباً مُطاعاً.

ولقد كان قومُ عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعدُ ما أدركه عروة من عظمة الاسلام، وكان فيهم نخوة وكِبر يمنعانهم من الخضوع للحق. ولهذا قرّرت أن ترشق بالنبال والسهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام... وهكذا رشقوا بالنبال "عروة" في الوقت الذي كان يدعوهم الى الاسلام، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: كرامة اكرمني اللّه بها، وشهادة ساقها اللّه إليَّ2.

وفدُ ثَقِيف:
ندم رجالُ ثقيف - بعد مقتل عروة - على فعلهم هذا بشدة وعرفوا بأن الحياة لم تعُد ممكنة وميُسَّرة لهم في قلب الحجاز الذي رُفِعَت على جميع مناطقه ألوية التوحيد وخاصّة بَعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحتَ رحمة المسلمين، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوباً من قِبَلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمنَ شروط معيَّنة، واتفقُوا على إيفاد "عبد ياليل" إلى المدينة وابلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة وقال: لستُ فاعلاً ذلك حتى تُرسلوا مَعي رجالاً، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم، وكان يخشى أن يصنَعوا به ما صنَعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعاً بالقدوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والتفاوض معه.

توجه هذا الوفدُ السداسيّ إلى المدينة، ونَزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولاً لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأخبره المغيرة عن ركب ثقيف، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبي صلّى اللّه عليه وآله قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأخبره بقدومهم عليه وأنهم جاؤوا ليعتنقوا الاسلام بشروط، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باكرامهم، وضربَ لهم قبة في ناحية مسجده، وكلّف خالد بن سعيد بالقيام بشؤون ضيافتهم.

ثم حضر وفدُ ثقيف عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومع أن المغيرة كان قد علَّمهم كيف يُحيّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّراً منهم وغروراً ثم أخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله برأي ثقيف وأضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة، سوفَ يُعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وقد ثقيف مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عدة أيّام، وكان "خالد بن سعيد" هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه المفاوضات.

شروط وَفدِ ثقيف:
قبِل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كثيراً من شروط ثقيف حتى انه ضمن لاهل الطائف - ضمن ذلك العهد - أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيين من أراض، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة، ووقحة الى درجة أن النبي صلّى اللّه عليه وآله غضب بسببها، ولا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط:

قال وفد ثقيف: ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله، وأن يعبُدوا "اللات" وهو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. فلما رأوا غضب النبي واباءَه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوا شهراً واحداً، فأبى عليهم أن يدعها ولا يوماً.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلّى اللّه عليه وآله الذي كان نشرُ التوحيد، وهَدم بيوت الاصنام، وتحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلباً مخجلاً جداً، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاماً لا يضر بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عندما عرف وفدُ ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادَروا إلى التعلل والاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك ارضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم، حيث أنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام، فاذا أبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليهم ذلك فليبعث معهم شخصاً من غير قبيلتهم ليهدمَها، فوافق النبي صلّى اللّه عليه وآله على هذا الشرط، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله كان يريد محو وازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الصلاة. فلقد كانوا يتصوَّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يمكنُه التصرّف في الأحكام الالهية كما يفعل قادة أهل الكتاب، حسب زعمهم، حيث كانوا يكلِّفون جماعة بهذه الاحكام، بينما يُعفون جماعة اُخرى منها، وذلك غفلة منهم عن أنّه صلّى اللّه عليه وآله يتبع الوحي الإلهيّ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترَسَّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعدُ، وأنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ، وإلا فلا داعي ولا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض، فيقبلوا شيئاً ويرفضوا شيئاً آخر.

إن الاسلام، والايمان باللّه إن هو إلا نوع من التسليم الباطني الروحيّ، والخضوع القلبي الذي يقبل المرءُ في ظلّه جميعَ التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة، وفي مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقاً إلى روح إنسان ومخيّلتهِ. ولأجل هذا قال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جوابهم: "لا خير في دِين لا صلاة فيه"3.

إن المسلم الذي لا يسجد ولا يركع للّه تعالى في اليوم والليلة ولا مرة واحدة، ولا يذكر ربَّه لا يكون مُسلماً بالمعنى الصحيح. هذا وعندما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتَّفق عليها، وقَّع عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وحينئذ أذِنَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم، واختار منهم أحدثهم سناً وهو "عثمان بن أبي العاص" الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلَّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمَّره عليهم، وجعله نائباً دينياً، وسياسياً عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه - فيما أوصاه - بأن يصلّي بالناس جماعة مراعياً أضعفهم قائلاً له: "يا عُثمان تجاوز4 في الصَّلاة وأقدُر الناس بأضعفِهم فانَّ فيهمُ الكبير والصغير والضعيفَ وذا الحاجة".

ثم كلَّف رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله "أبا سفيان بن حرب"، و"المغيرة بن شعبة" بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهَدم الاصنام فيها، أجَل إن أبا سفيان الذي كان وحتى يوم أمس من حفظَة الأصنام وهو الذي أراق في سبيلها أنهراً مِن الدّماء، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها، ويحوّلها الى تلٍّ من الحطب، ويبيع ما يتعلق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضى بأموالها ديون "عروة" و"الأسود" حسب اوامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله5.


1- المغازي: ج 2 ص 922 - 938.
2- السيرة النبوية: ج 2 ص 537 و538.
3- السيرة الحلبية: ج 3 ص 317.
4- تجاوَز: أي خفف الصلاة وأسرع بها.
5- السيرة النبوية: ج 2 ص 537 - 543، السيرة الحلبية: ج 3 ص 216 - 218، ولقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب "اُسد الغابة": ج 1 ص 216 وج 3 ص 406 أيضاً.