غزوة
الاحزاب1
لقد قاد رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات، كما
وبعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو
التي كانت محتملة من جانب العدو.
واليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة
1- غزوة دُومة الجندل2
بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً وأنهم يظلمون
من مرّ بهم من المسافرين والتجار، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فخرج رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذ
بعنصر الاستتار والسرية على عادته.
ولما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من دومة الجندل وعرف به تلك الجماعة
تفرقوا من فورهم فلم يجد صلّى اللّه عليه وآله بها أحداً، فأقام بها أيّاماً وبثّ
السرايا والدورّيات وفرّقها حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا اليه، ولم يصادفوا من تلك
الجماعة أحداً.
ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع
الثاني، من دون ان يقاتل3.
2 - غزوة الخندق (الأحزاب)
أجلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة
كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم، واضطرّت بنو
النضير إلى أن تذهب الى "خيبر" وتسكن هناك، أو تسير الى الشام.
وقد كان إجراء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله هذا متطابقاً مع ما جاء في الميثاق
المعقود بينه وبين يهود يثرب.
وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام، فقدموا
مكة، وحرّضوا قريشاً على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واليك مفصل هذه
الغزوة:
عبّأ المشركون العربُ، واليهودُ قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.
فقد شكّلوا إتحاداً نظامياً قوياً وحاصروا المدينة مدة شهر واحد، وبما أن أحزاباً
مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب، وربما سمّيت بمعركة
"الخندق" لأن المسلمين احتفروا خندقاً حول المدينة عظيماً، دفاعاً عنها، ومنعاً
للكفار عن اجتياحها.
ولقد كان زعماء بني النضير وبني وائل - كما أسلفنا - هم المحرّكون الأصليّون لهذه
الحرب، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.
فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين، والتي اضطرّوا على
أثرها الى مغادرة المدينة، فسكن بعضهم خيبر، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية
ودقيقة لاستئصال شأفة الاسلام، والقضاء عليه. وانها لخُطّة عجيبة حقاً، فقد جعلوا
المسلمين يواجهون طوائف متعددة وأحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلاً!!
كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب
العديدة، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة، وهيّأوا كل ما يحتاجون اليه من حاجات ومعدات!!
وكانت الخطة كالتالي: قدم جماعة من سادة بني النضير مثل "سلام بن أبي الحقيق" و"حيي
بن أخطب" في نفر من بني النضير على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله وقالوا: إنا سنكونُ معكم عليه حتى نستأصله، فلقد جئنا لنحالفكم على عداوة
محمَّد وقتاله.
وقال حيي بن أخطب: إن محمَّداً قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا
وأموالنا، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض، واجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى
نسير اليهم، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين
محمَّد عهد وميثاق وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمَّد ويكونون معنا
عليهم، فتأتونه انتم من فوق وهم من أسفل.
فأثرّت كلماتُ اليهود وما قاله "حييُّ بن اخطب" في نفوس المشركين الحانقين على رسول
اللّه، واصحابه، واستحسنوا خطتهم، وابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله وقتاله. ولكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم
قائلين: يا معشر اليهود انكم أهلُ الكتاب الأوّل، والعلم، أخبرونا عما اصبحنا نحن
فيه ومحمَّد، افديننا خير ام دين محمَّد؟
ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة (التي كانت ولا تزال تعد نفسها حامل لواء
التوحيد، الوحيد في العالم) اُولئك المشركين الجهلة الذين
وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة، وطلبوا منهم حل مشكلتهم؟! "أجل لقد قال
اليهود بوقاحة كبيرة: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق، إنكم لتعظّمون هذا
البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البُدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فانتم
أولى بالحق منه!!!4.
ولقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة وصمة عار اُخرى الى سجلّهم الاسود، وزادوا
تاريخهم المشؤوم سواداً، وسوءاً.
ولقد كانت هذه الغلطة فظيعة، وقبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها،
في ما بعد.
فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه: (تاريخ اليهود في بلاد العرب) حول هذا
الموقف المشين جداً قائلاً: "كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ
الفاحش، والا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي
ولو أدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز
لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين، هذا فضلاً عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام
انما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة"5.
وفي الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسَّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح
مقاصدهم، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون - بكل جدّ - أن عليهم - لتحقيق أهدافهم -
التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة، وهذا هو مقولة "الغاية تبرر
الوسيلة" التي طرحها ميكافيلي، وبالتالي فان "الاخلاق" في منظور هذه الجماعة هو ما
يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم ليس إلا.
إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول:﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُواْ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ
وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾6.
ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء، أثراً عجيباً في نفوس المشركين وعبدة
الاوثان، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية وهو تأليف جيش من قبائل متعددة
لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعداً للتوجه الى المدينة، لتحقيق ذلك الغرض
المشؤوم.
فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب (اليهود) من مكة بقلوب مملوءة سروراً، وغبطة،
وساروا الى نجد، ليتصلوا بقبيلة غطفان - وكانت من اعدى اعداء الاسلام - فاستجلبوا
موافقة قبائل غطفان: بني فزاز، وبني مرّة، وبني اشجع، شريطة أن يعطوهم تمر خيبر،
لمدة سنة، بعد الانتصار على المسلمين، ولكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى
ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حُلفاءها من بني سليم وراسلت غطفان
حلفاءها من بني اسد، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب، فاستجابت لهم تلك القبائل،
وتحركت جميع هذه الفئات والاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط
الجزيرة، نحو المدينة في يوم معين وهي تبغي اجتياح مركز الاسلام، واستئصال شأفته!!7.
استخبارات المسلمين ترفع تقريراً للقيادة
منذ أن سكن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه
النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة، لتقصّي الأخبار، ومراقبة الأوضاع،
وإخبار النبي صلّى اللّه عليه وآله بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولاً بأول.
فقدم أحدهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بخروج تلك القوة
الكبيرة ومسيرها إلى المدينة، وبهدفها، وتاريخ خروجها، ووصولها إلى مشارف
يثرب.
فدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أصحابه فوراً وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم في
الامر، ليستفيدوا من تجارب "اُحُد"، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن، والقيام
بالدّفاع من داخل القلاع والحصون، ولكن هذا العمل لم يكن كافياً لأن جيش العدوّ كان
كثيفاً وكبيراً جداً وكان من المحتمل بقوَّة أن تقوم عناصره الكثيرة، الكبيرة في
عددها بهدم الحصون والقلاع، والقضاء على المسلمين، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع
العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلاً.
فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفاً بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة: يا رسول
اللّه إنّا اذا كُنّا بأرض فارس، وتخوّفنا الخيل، خندقنا حولنا، فهل لك يا رسول
اللّه أن تخندق؟8
وفي رواية اُخرى أنه قال: يا رسول اللّه نحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً، فلا
يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من
عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة9،
(أي محدودة).
فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعاً، وكان لهذا التكتيك أثر جوهري وبارز جداً في حفظ
الاسلام وصيانة المسلمين.
ومن الجدير بالذكر أن النبي صلّى اللّه عليه وآله خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانياً
ولكي يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من
ناحية "اُحد" الى "راتحِ" وكان سائر المدينة مشبكاً بالبنيان والنخيل لا يتمكن
العدو منها، وعلّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على
الأرض.
ولكي يتم هذا الامربنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة، وثلاثين خطوة جماعة من
المهاجرين والانصار يحفرونه، فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله نفسه وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وعليّ عليه السّلام ينقل
التراب من الحفرة حتى عرق رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعيي10
وهو يقول:"لا عيش إلا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرة".
وقد كشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام
واسلوبه، وفي ذلك تنشيط الامة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة واخلاق القائد،
وأفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ، وعلى إمام الاُمة أن يشارك الناس
في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبداً الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته
العملية في الأعمال، ولهذا لما نظر الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يحفر
نشطوا واجتهدوا في الحفر، ونقلوا التراب، ولما كان اليوم الثاني بكروا في العمل،
وكان ذلك النشاط العظيم عاملاً في أن يندفع يهود بني قريظة أيضاً إلى مساعدتهم
فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب11.
وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية، ومع ذلك كان
أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدُّونهم بالطعام وغيره12.
وربما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها،
فأخبروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك فأخذ معولاً فكسرها وأزالها.
أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها - وقد كان المسلمون يومئذ
ثلاثة آلاف حسب المشهور، وكان كل عشرة يحفرون (40) ذراعاً - هو (12000) ذراعاً أي
ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر، وأما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان
الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار
وعمقه خمسة أمتار أيضاً.
القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان
عندما قسَّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المهاجرين والانصار جماعات جماعات،
وأوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد
كل أن يضمّه الى صفّه، فقال المهاجرون: سلمان منا وقالت الأنصار: سلمان منا ونحن
أحق به!!
فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان
يومذاك:"سلمانُ منّا أهل البيت"13.
ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقي الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى
فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا
يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق، وربما كانوا يذهبون إلى
منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
أما المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار، واذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى
منازلهم أحياناً، أو جدَّ لهم عذر استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأذن
لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في
سورة النور في الآيات 62 و63 اذ يقول تعالى:﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
مقاتلو العرب واليهود يحاصرون المدينة
وتتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة "اُحد" وعلى مقربة من الخندق الذي كان قد
تمّ انجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومن لف لفَّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود
الاسلام عند جبل "اُحد"، ولكنهم لم يلقوا أحداً منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى
وصلوا الى الخندق، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من
الخطر، فوجئوا به وقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير
الفارسي الذي معه.
العدد الدقيق لقوات الطرفين
كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع
وهي تخطف بلمعانها الابصار!
وكان عدد المشاركين في هذا الجيش من قريش وحدها - على رواية المقريزي في الامتاع -
(4 آلاف) مقاتل، معهم (300) فرس و(1500) بعير.
وقد التحق بهم بنو سليم - وهم من حلفاء قريش - في (700) رجل في مر الظهران وكان من
قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل ومن قبائل اُخرى. مثل اشجع وبني مرة كل واحد منهما
(400) مقاتل، والباقي وهم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل، وعلى هذا الاساس
لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة
آلاف، وقد استقروا جميعاً في مكان آخر.
وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع
مرتفع، مشرف على الخندق وخارجه، إشرافاً كاملاً بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات
العدوّ ونشاطاته منه.
وقد وكل النبي صلّى اللّه عليه وآله جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور
على الخندق ومراقبة تحركات العدوّ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراساً
قوياً طبيعياً، وغير طبيعي، اذ أن سائر المدينة كان مشبكاً بالبنيان والنخيل كما
أسلفنا.
لقد حاصر الكفار "المدينة" ما يقرب من شهر واحد، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين، ولم
يستطع أن يعبر منهم الخندق الا أفراد معدودون، فمن كان يفكر في العبور رماه
المسلمون بالحجارة، فولّى هارباً!!
وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي
ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها14.
خطر البرد، وتناقص الغذاء والعلف
صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد اُصيبت في تلك السنة بقلة الغيث،
ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.
كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة، ولم يكن أحد منهم يتصور أن
عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد، بل كان المشركون - جميعاً - يرون - بادئ
الاُمر - أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع، على جنود الاسلام، ويجتاحون المدينة،
ويستأصلون المسلمين!!
ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية (اليهود) هذه المشكلة بعد أيام،
فقد عرفوا بأن مضّي الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على
مقاومة القر، وقلة العلف وتناقص الطعام، ومن هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني
قريظة داخل المدينة، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة، وبذلك يمهِّدوا السبيل
لجيش العرب لِغزو المدنية، واجتياحها من الخارج!!
حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة:
كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في
سلام وأمن، وكانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبي صلّى اللّه عليه وآله،
احتراماً كاملاً.
فرأى "حُييُّ بن أخطب" أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة
لصالح المعتدين العرب وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله به. ليشعل بذلك حرباً بين المسلمين ويهود بني قريظة
ويشغل المسلمين بفتنة داخلية، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين
خلف الخندق.
وانطلاقاً من هذه الفكرة أتى "حييُّ" الى حصن بني قريظة ودق عليهم الباب وعرّف
نفسه، فأمر رئيس بني قريظة "كعب بن الاسد" بان لا يفتحوا له الباب ولكنه أصر، وقال:
ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك (أي خبزك) الذي في التنور تخاف أن اُشاركك فيها
فافتح فانَّك آمِن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له
باب الحصن، ففتحوا له، فدخل مثير الحرب المشؤوم "حييّ" وقال لكعب: يا كعب لقد جئتك
بعزّ الدهر، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها
وسادتها، وهذه سليم وغيرهم، ولا يفلت محمَّد وأصحابهُ من هذا الجمع أبداً وقد
تعاقدوا وتعاهدوا الا يرجعوا حتى يستأصلوا محمَّداً ومن معه، فانقض العهد بينك وبين
محمّد، ولا تردّ رأيي.
فأجابه كعب قائلاً: لقد جئتني - واللّه - بذلّ الدهر، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه
شيء، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي، والصبيان والنساء، اني
لم أر مِن محمَّد إلا صدقاً ووفاء فارجع عنّي، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.
ولكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعباً ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل
الجامح الذي يستصعب عليه، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وهيّا لذلك، فقال: أنا أخشى أن لا يقتل محمّد وتنصرف قريش إلى بلادها، فماذا نفعلُ
حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنهُ ليصيبه ما أصابه ان لم يُقتل محمّد صلّى اللّه
عليه وآله.
فقال كعب: دعني اُشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم، وخبرهم الخبر، وحيي
حاضر، وقال لهم كعب: ما ترون؟ فقالوا: أنت سيدنا، والمطاع فينا، وصاحب عهدنا وعقدنا
فان نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك، وإن خرجت خرجنا معك.
فقال "الزبير بن باط" وكان شيخاً كبيراً مجرّباً قد ذهب بصره: قد قرأت في التوراة
التي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّاً في آخر الزمان، يكون مخرجُه بمكة، ومهاجرُه
في هذه البحيرة... يبلغ سلطانه منقطع الخفِّ والحافر فان كان هذا (أي محمَّد) هو
فلا يهولنّه هؤلاء ولاجمعهم، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.
فقال أخطب من فوره: ليس هذا ذاك، ذلك النبيُّ من بني إسرائيل، وهذا من العرب من ولد
اسماعيل، ولا يكون بنو اسرائيل أتباعاً لولد اسماعيل أبداً، لأنَّ اللّه فضّلهم على
الناس جميعاً وجعل فيهم النبوة والملك، وليس مع محمَّد آية، وإنّما جمعهم جمعاً
وسحرهم!!
ولم يزل يقنّع بهم، ويقلِّبهم عن رأيهم، ويلحُّ عليهم حتى أجابوه، ورضوا بأن ينقضوا
العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فقال: أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمَّد، فأخرجوه، فأخذه ومزقه،
وقال: قد وقع الأمر، فتجهَّزوا وتهيّأوا للقتال، وبذلك جعلهم أمام الامر
الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرَّ منه!!15
النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد
بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن طريق جواسيسه الاذكياء نقضُ بني قريظة
للعهد، في مثل ذلك الظرف الحساس، فغمه غماً شديداً. فأمر مِن فوره "سعد بن معاذ"
و"سعد بن عبادة" - وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين، كما أنهما
كانا رئيسي الأوس والخزرج - بأن يحصلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث، وأسبابه
وملابساته، وأنه اذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلاً أن يخبّراه وحده فقط ولا
يخبرا أحداً به ويقولا: عضل والقارة لكيلا لا يفتَّ ذلك أعضاد المسلمين ولا يضعف من
معنوياتهم، وأما إذا لم تكن هناك خيانة، فيكذّبا الأمر بصراحة.
فذهب الرجلان، واقتربا إلى حِصن بني قريظة، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن، فشتم
سعداً وشتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق
فأجابه سعد - بالهام غيبي -: إنّما أنت ثعلب في جحر، لتولَّيَنَّ قريش، وليحاصرنَّك
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولَيُنزلنك على الصغار والذلّ وليضربنَّ عنقك.
ثم رجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقالا له: عضل والقارة. فكبّر رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله قائلاً برفيع صوته: "اللّه أكبر أبشروا يا معشر
المسلمين بالفتح"16.
وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وعمق سياسته، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين، ولا يتملكهم الخوف إذا
سمعوا بنقض بني قريظة للعهد، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى
المعنويات العالية، والاحساس بروح النصر.
تجاوزات بني قريظة الاولية
كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدأوا عملهم الخياني بالاغارة على
المدينة، وإرعاب النساء والاطفال الموجودين في البيوت والمنازل، وقد نفذت مراحل من
هذه الخطة تدريجاً!!
فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم ونساؤهم
بصورة مشبوهة!!
تقول "صفية بنت عبد المطلب" عمة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: كنت في فارع، حصن
حسان بن ثابت وكان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء والصبيان، فمرّ بنا رجل من
يهود. فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول صلّى اللّه
عليه وآله، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
والمسلمون في نحور عدوّهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، فقلت
لحسان: إن هذا اليهوديّ كما ترى يُطيف بالحصن، وإنّي واللّه ما آمنه أن يدل علينا
من وراءه مِن يهود، وقد شُغل عنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأصحابه، فانزل
إليه فاقتله، قال: يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب
هذا، فلما قال لي ذلك احتجزت17 (أي شددت
وسطي) ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت
منه رجعت الى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه، إلا
أنه رجل فقال حسان: مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد
المطلب!!18.
ولما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما
بينه وبينهم من العهد وانهم طلبوا من قريش الف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على
المدينة عبر حصن اليهود، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق، فعظم
بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق، بعث النبي
صلّى اللّه عليه وآله مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة
ويظهرون التكبير تحفظاً على الجواري من بني قريظة19.
الإيمانُ في مواجهة الكفر
لقد خاض المشركون حروباً عديدة ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبل معركة
الأحزاب، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة،
ولم يكن من عموم الجزيرة العربية، ومن عموم القبائل، أي الاسلام لم يواجه في تلك
الحروب والوقائع عدواناً شاملاً من سكان الجزيرة.
وحيث أن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة
الاسلامية الفتيّة، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق إتحاد عسكري عريض،
يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم، من هنا
عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحركوا في
جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف
المشؤوم. ولولا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.
1- ذكر ابن هشام في سيرته أن
هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، وحيث أن غزوة الأحزاب انتهت
في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة، وطالت محاصرة المدينة شهراً واحداً لذلك يجب
أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريباً.
2- المغازي: ج 1 ص 402، السيرة النبوية: ج 3 ص 213 ودومة الجندل منطقة بين دمشق
والمدينة (الطبقات الكبرى: ج 2 ص 44).
3- امتاع الاسماع: ج 1 ص 193 و194.
4- بحار الأنوار: ج 20 ص 217.
5- حياة محمَّد: ص 329.
6- النساء: 51 و52.
7- المغازي: ج 2 ص 443.
8- المغازي: ج 2 ص 445، تاريخ الطبري: ج 2 ص 234.
9- بحار الأنوار: ج 20 ص 218.
10- وجاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 489 انه (ص) كان ينقل التراب حتى اغبرَّ بطنه.
11- السيرة الحلبية: ج 1 ص 311.
12- السيرة الحلبية: ج 1 ص 312.
13- المغازي: ج 2 ص 446، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 122.
14- السيرة النبوية: ج 2 ص 225 - 228.
15- المغازي: ج 2 ص 456، بحار الأنوار: ج 20 ص 222 و223.
16- المغازي: ج 2 ص 459.
17- وفي رواية: اعتجرت.
18- السيرة النبوية: ج 2 ص 228.
19- السيرة الحلبية: ج 1 ص 315.
|