سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الخامسة للهجرة

سقوط آخر أَوكار الفساد والمؤامرة
 

اليهود يتشاورون حول الموقف قوات الاسلام تحاصر بني قريظة


أقدم رسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة الاُولى من هجرته الى المدينة، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها، بغية إنهاء جميع أشكال الإختلاف، والتنازع، والصراع الداخليّ.

وقد تعهَّد الأوسيّون والخزرجيُّون، عامة واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها، وقد مرّ النصُ الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق1.

هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى عقد رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بينه وبين يهود المدينة ميثاقاً آخر ينصُّ على أن مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أي ضرر وأذى برسول اللّه وأصحابه، ولا تمدَّ أعداءهم بالخيل والسلاح، وأنها لو فعلت شيئاً من ذلك يكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحقُ في أن يقتلهم، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

إلا أنَّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين والصور، وتجاهلت بنوده، ومواده!

فقد قتل "بنو قينقاع" مُسلماً، وخطّطت "بنو النضير" لاغتيال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الاسلامية.

وتعاونت "بنو قريظة" مع جيش المشركين لضرب المسلمين، وطعنهم من الخلف، والآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسولُ اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة
لم يكن الصبح قد أسفر بعد عندما غادرت آخر مجموعة من جنود "الأحزاب" أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة للغاية.

كما أن آثار التعب والارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين، ومع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وآله بأن يعالج قضيّة "بني قريظة" بصورة نهائية، فَأذَّن مؤذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالمسلمين صلاة الظهر، ثم نادى منادي النبي صلّى اللّه عليه وآله في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا ببني قريظة!

ثم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله قدّم "عليَ بن أبي طالب" برايته2، وخرج معه جنودُ الإسلام الشجعان، فحاصروا حصون "بني قريظة"، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون، والتحصّن في داخلها، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالوا فيه مقالة قبيحة فرجع علي عليه السَّلام بالمسلمين فالتقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه واله أذاهم وشتمهم وحاول أن يثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلاً: لاعليك أن تدنو من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بسبب ذلك قال: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من حصونهم قال لهم:"هل أخزاكم اللّهُ وأَنزل عليكم نقمته"؟

وقد كانت ردةُ فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الشديدة غير متوقعة لليهود، ومن هنا قالوا: يا أبا القاسم ما كنتَ جهولاً.. وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم3.

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بحيث رجع من غير اختيار، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهود يتشاورون حول الموقف
تشاور يهود بنو قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف، وقد شارك فيه "حُيي بن أخطب" مثير معركة الأحزاب، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب- في معركة الاحزاب- أوزارها وولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيمُ بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف:

1- أن يؤمنوا برسول اللّه، ويصدقوه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل، وأنه الذي يجدونه في كتابهم، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

2- أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمَّد وأصحابه يقاتلونهم، فإذا هلكوا، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلاً يُخشى عليه، وإن انتصروا تزوجوا من جديد، ووجدوا أبناء.

3- ان الليلة هي ليلة السبت، وانه عسى أن يكون محمَّد وأصحابه قد منوهم فيها، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمَّد وأَصحابه على حين غفلة.

ولكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره، وقالوا: ان نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم، وقالوا: لا نقاتلُ ليلة السبت محمداً وأصحابه نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يُحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ4.

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة (ونعني اليهود)، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة، لجوجة، لأنهم إذا كانوا حقاً يعرفون صدق نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- كما قال زعيمهم- لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد والعتوّ، واللجاج.

واما الاقتراح الثاني ومادار حوله من كلام فيشهد- بجلاء- على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية، لاتعرف للرحمة والحنان معنى، لان قتل الاطفال والنساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافاً إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء، بل لأن الحياة لاتعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. ولم يقل أيُ واحد منهم: وماذا جنى الاطفال والنساء حتى نقتلهم ونذبحهم، ولو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- تمكن منهم- لم يقتلهم، فكيف نعمد نحن (الآباء الرحماء) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنسفك دماءهم من غير جرم ولا جناية؟

وأما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيداً مدى علم رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله بفنون القتال، والدفاع وكانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه، وخاصة في مواجهة أعداء خونة، اخوان غدر ومكر، أمثال اليهود الناقضين للعهود، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة وتقييم معركة "الاحزاب" تثبت ندرة وجود الاذكياء والفطنين بين هذه الجماعة، والا لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أي واحد من طرفي الصراع (الاسلام والشرك).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل، ويبقوا متفرجين لما يدور بين محمَّد، وجيش المشركين، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنهم خُدعوا بتسويلات "حيي بن أخطب" ووسوساته وانحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة، وهي أن يتخلوا- في النهاية- عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم، والرضوخ لخطة "نعيم بن مسعود"، وإخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار، وعاد الى بلاده، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذً في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئاً من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- فور قطع العلاقات مع قريش- عن ندامتهم على 286.

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلّى اللّه عليه وآله ويعتذروا إليه ممّا بدر لينجوا من الخطر- في صورة انتصار المسلمين على الكفار- ولكن الشقاء أصابهم عندما قطعوا العلاقات مع جيش قريش، ولم يلتحقوا بالمسلمين، ولم يعتذروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

على أنه لم يكن في مقدور النبي صلّى اللّه عليه وآله أن يترك بني قريظة- بعد هزيمة جيش العرب- على حالهم، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد، أن يفكر العرب في مناسبة اُخرى في تسيير جيش ضخم ومنظم آخر لاجتياح المدينة، ويتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون- في الحقيقة- العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

خيانةُ أبي لبابة
لقد طلب يهودُ بني قريظة بعد محاصرة النبي صلّى اللّه عليه وآله لهم، أن يبعث إليهم "أبا لبابة" الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف، وقد كان أبو لبابة حليفاً لليهود قبل دخول الاسلام إلى المدينة، فأرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمَّد؟

قال: نعم- و أشار بيده إلى حلقه- يريد أنه سوف يقتلهم ولن يحقن دماءهم، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد، إلا أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين، ومصالح الاسلام العليا، وأفشى سرّاً كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه، ولهذا ندم على فعله ندماً شديداً، فخرج من حصن بني قريظة وهو يرتجف ويقول: إنّي خنت اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله، وانطلق على وجهه، ولم يأت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين وهم ينتظرون رجوعه اليهم- وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّه عليّ ما صنعت!!

ويقول المفسرون: فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ5.

فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خبر أبي لبابة، وكان قد استبطأه قال: أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.

وبقي أبو لبابة مرتبطاً بالاسطوانة، وكانت ابنتُه أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة، وتحلّ رباطه، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحرُ من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي- على رسول اللّه وهو في بيت اُم سلمة، والآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى:﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ6.

فلما نظرت ام سلمة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو مستبشر يضحك قال صلّى اللّه عليه وآله لها:"لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه".

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال: لا واللّه حتى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللّه صلّى عليه وآله خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه7.

ولا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة، فقد سلبه بكاء رجالهم ونسائهم، وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس، فكشف سرّاً من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه، ولكنّ قوة الايمان باللّه والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كل شيء الى درجة أنها دفعت بابي لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب، ويعمد- لجبران تلك الخيانة- الى ما فعل من الانابة، والاستغفار، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اُخرى قط.

إلى أيّ مدى ذهب الطابورُ الخامس في مشاغبته؟
خرج "شأسُ بن قيس" اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نيابة عن بني قريظة، فطلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع بني النضير، فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال: "لا، إلا أن تنزلوا على حكمي".

فقال شأس: لك الأموالُ والسلاح وتحقن دماءنا، فأبى النبي صلّى اللّه عليه وآله ورفض هذا الاقتراح أيضاً.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا رفض رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة- بعد خروجها من قبضة المسلمين- على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير، وتعرّض المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جداً، وتسبب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على اقتراحات مندوب بني قريظة، وعاد شأس إِلى الحصن، واخبر قومه بمقالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ورفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي- وكان حليفاً لهم- في حقهم.

ولهذا عمدوا الى فتح باب الحصن، ودخل علي عليه السَّلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن وجرّدوا بني قريظة من السلاح، وحبسوهم في منازل "بني النجار" ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

وحيث أن يهود بني قينقاع قد اُسروا على أيدي جنود الاسلام، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة "عبد اللّه بن اُبي"، وانصرف النبي صلّى اللّه عليه وآله عن إهراق دمهم فيما مضى، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصرّوا عليه اصراراً شديداً بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المدينة، وذلك منافسة للخزرج، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قاوم هذا الطلب، وقال لهم:"أَلا ترضَون يا معشرَ الأوس أن يحكم فيهم رجلُ منكم"؟
قالوا: بلى.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فذاك إِلى "سعد بن معاذ" فهو يحكم فيهم.
والطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضاً بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه واله- كما يروي ابن هشام8 والشيخ المفيد9-: يا محمَّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى "رفيدة" من سهم أصابه في معركة الخندق، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعود سعداً بين الحين والآخر، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس، وحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من ادم وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلما طلع سعد على رسول اللّه والناس حوله صلّى اللّه عليه وآله جلوس، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"قوموا إلى سيّدكم".

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراماً لسعد، وحيّاه كل واحد منهم، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وقد طلب منه رجالُ قومه مراراً أن يحسن الحكم في حُلفائهم: يهود بني قريظة، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين: يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

ولكن سعداً حكم في ذلك المجلس- رغم كل ذلك الالحاح، والضغط- بأن يُقتل رجال اليهود، وتقسَّم أموالهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم10.

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه
ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال، وانتهى الى تمزق المجتمع وسقوطه، وانهيار كل شيء، لارتباط كل شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع، أو أضرت به أشدَّ و أبلغ إضرار.

إن عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن، وأوضاع رجالهم التي كانت نثير الاشفاق وهم في الحبس، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يُحسن الحكم والرأي في بني قريظة، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية (أي عامة المسلمين) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقلّ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلا أن منطق العقل، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعداً إلى ناحية اُخرى، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، وتصادر أموالهم، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية
1- أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلّى اللّه عليه وآله قبل مدّة بأنهم لو تامروا ضدّ الإسلام والمسلمين، وناصروا أعداء التوحيد، وأثاروا الفتن والقلاقل، وألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم11.

وقد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكماً مخالفاً للعدالة، ولم يرتكب ظلماً.

2- إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة، فترة من الزمن، وهاجمت منازل المسلمين، ولولا مراقبة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفظائع والفجائع، ولو اتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق وأطفالهم.

3- من المحتمل جداً أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبَّة كان مطّلعاً على قوانين اليهود الجزائية في هذا المجال، فإن التوراة تنصُ بما يلي: "حين تقربُ من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكلُ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك. وان لم تُسالِمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. واذا دفعها الربُ إلهُك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، واما النساء والأطفال والبهائهم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك"12.

ولعلّ سعداً فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلا ما يقتضيه العدل والانصاف.

4- والذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن "سعد بن معاذ" رأى باُم عينيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين،واكتفى- من عقابهم- باخراجهم من المدينة، واجلائهم عنها ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة، وأخذ يتباكى- دجلاً وخداعاً- على قتلى بدر، ويذرف عليهم دموع التماسيح، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام وأصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، وكانت واقعة "اُحُد" التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرةأبناء الاسلام، ورجاله.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله واكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة، ولكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضد الاسلام، والمسلمين، وكوّنوا اتحاداً نظامياً بينها، وألفوا منها جيشاً قوياً ساروا به الى عاصمة الاسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الاحزاب) التي لولا حنكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وخطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاُولى، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع، وسيثير ويؤلب قوى العرب ضد الاسلام، ويعرّض مركز الاسلام، ومحوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اُخرى.

وعلى هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة وأيقن بأن هذه الزمرة لو اتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطاراً كبرى.

ومن المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات و الاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة و التخفيف في عقابهم أمراً في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فان رئيس أي قوم، أو جماعة أحوج ما يكون إلى تأييد قومه وجماعته وكسب رضاهم ودعمهم، ولا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم، ولكن سعداً (رئيس الأوس) أدرك أن جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل، والمنطق، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الَّذي يشهد بدقة نظر سعد، وصواب رأيه، وصحة تشخيصه وتقديره للأمر أنه عندما اُتي بيحيى بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل اللّه يُخذل. أي لولا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس لا بأس بأمر اللّه، ملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل.

ثم إنه قُتِل في هذه الواقعة من النساء إمرأة واحدة لأنها ألقت برحىً من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين، فقتلت قصاصاً.

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه "الزبير بن باط" شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس، فلم يُقتل، واُخلي سبيل زوجته وأولاده، واُعيدت إليه أمواله، وأسلم أربعة من بني قريظة، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، واخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

وقد اُعطي للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد، وسلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أموال "الخُمس" إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد، والخيل، وغيرها من أدوات الحرب13.

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26- 27 من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه:﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.

وقد استشهد "سعد بن معاذ" الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه14.


1- راجع صفحة 21 من هذا الجزء.
2- زاد المعاد: ج 2 ص 73، وامتاع الاسماع: ج 1 ص 243.
3- السيرة النبوية: ج 2 ص 234، تاريخ الطبري: ج 2 ص 245و 246.
4- السيرة النبوية: ج 2 ص 236.
5- الأنفال، 27.
6- التوبة: 102.
7- السيرة النبوية: ج 2 ص 237 و238.
8- السيرة النبوية: ج 2 ص 240.
9- الارشاد: ص 50 وايضاً راجع زاد المعاد: ج 2 ص 73، امتاع الاسماع: ج1 ص 246.
10- السيرة النبوية: ج 2 ص 240، المغازي: ج 2 ص 510، زاد المعاد: ج 2 ص 73 و74.
11- ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الأسد رئيس بني قريظة.
12- التوراة: سفر التثنية الفصل العشرون 10- 14.
13- تاريخ الطبري: ج 2 ص 250، السيرة النبوية: ج 2 ص 241، زاد المعاد: ج 2 ص 74.
14- السيرة النبوية: ج 2 ص 250- 254.