سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الثامنة للهجرة

غزوة الطائف

ضغوط اقتصادية ونفسية شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق
اسلام مالك بن عوف حوادث ما بعد الحرب


"الطائف" من مصايف الحجاز ومِنَ المناطق الخصبة، الكثيرة الزرع فيها، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (12) فرسخاً منها، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف، وبساتينها المثمرة، ونخيلها الكثيرة مقصداً بل مركزاً وموطناً لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تُعدُّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة "حنين" ضدّ الاسلام والمسلمين، ثم لجأوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسولُ القائدُ صلّى اللّه عليه وآله بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

ومن هنا كلّف صلّى اللّه عليه وآله أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقاً من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى "أوطاس" فقُتِل القائدُ الأوّل في هذه الواقعة، واستطاع الثاني أن يحرز انتصاراً كبيراً على العدو ويفرق جمعه1.

وأما النبي صلّى اللّه عليه وآله نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى الطائف2، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصري مثير فتنة "حنين" ورأس المؤامرة، فهدمه وسوّاه بالأَرض.

على أن تهديم حصن "مالك" لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأَ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاُخرى، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصناً منيعاً، مرتفع الجدران، قوي البنيان، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصارَه لها، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعدُ حتى عمدَ العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها، فقُتِل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة.

وهنا اقترح "سلمانُ الفارسي" الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب، وكان ذا خبرة بفنون القتال، اقترح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يرمي الحصن بالمنجنيق3، وكان هذا الجهاز الذي كان يُستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام اُمراءُ الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوماً متوالية.

ولكن العدوَّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون، فزاد من رميه واستمر في ذلك، فوقعت بين المسلمين بعضُ الاصابات نتيجة ذلك4.

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق، هذا؟

يرى البعض أن سلمان هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة5.

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصراً في المنجنيق الذي حُصِل عليه من يهود خيبر، لأن النبي صلّى اللّه عليه وآله بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة "دوس" في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفيل فاتحاً مع من تحت خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين، وقد استخُدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخُ جدار الحصن بالمنجنيق
كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام، مضافاً إلى رمي الحصن بالمنجنيق، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى، لأن السهام والاحجار، والنيران كانت تنصبُّ على رؤوس المقاتلين المسلمين كالمطر، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تُصنَعُ من الخشب وتُغطى بجلود البقر، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه، ويقوم الجنودُ بعملية إيجاد ثغرة او نَقب في جدار الحصن، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها، واضطرَّ أفرادها الى الخروج منها، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلاً واحداً ولم ينتج هذه التكتيك القتالي، ولم يتحقق أيُ نجاح في هذا المجال، فانصرف المسلمون عن استخدامه6.

ضغوط اقتصادية ونفسية
إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية، بل للقائد الحكيم أن يستخدم- لاضعاف قوة العدو وكسر صموده- الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربةُ النفسية والاقتصادية اقوى مفعولاً بدرجات أي إن أثرها يفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة، ونخيل وأعناب، وكانت معروفة في الحجاز بخصبها، وكثرة محاصيلها وخيراتها، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيراً في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها، ويُولُون الحفاظ عليها اهتماماً كبيراً، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن، والمعتصمين به، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدوّ بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- وهو النبي الذي عُرف برحمته ورافته- يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت "ثقيف" أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أصدر أوامره بقطع الأعناب، واتلاف المزارع وتحريقها، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت "ثقيف" لذلك وضجّت، واستغاثت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك، فتركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إحتراماً لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين "ثقيف".

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيري معركة حنين والطائف، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنه صلّى اللّه عليه وآله قبِل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا، فأبدى ومرة اُخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدُود في ميدان القتال، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهدهُ من أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفَّ عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتماً.

آخر محاولة لفتح حصن الطائف
كانت قبيلة "ثقيف" جماعة ثريّة، وذات مال كثير، وعبيدٍ واماءٍ كثيرين، ولكي يحصل رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اُخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي: وينادى: أيُ عبد نزل من الحصن وخرَج الينا فهو حر.

ونفعَت هذه الطريقة إلى حدّ ما، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلاً من عبيد ثقيف ورقيقهم، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاماً واحداً، فإنهم قد أَعدُّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيشُ الاسلام يعود الى المدينة
استخدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ، وقد اثبتت التجربةُ أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروفُ الجيش الاسلامي وامكاناته- يومذاك- لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب، والانتظار والتوقف، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك:

أولاً: لأنه قُتِلَ في اثناء هذه المحاصرة (13) مسلماً سبعة منهم من قريش، وأربعة من الانصار، ورجل واحد من قبيلة اُخرى.

هذا مضافاً إلى من استشهد من المسلمين في وادي "حنين" إثر هجوم العدوّ الغادر، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي، والذين لم يذكر التاريخُ مع الأسف أسماءهم، وخصوصياتهم، ولهذا كان قد دبَّ نوع من التعب في نفوس جنود الاسلام لم يكن من الصالح تجاهلُه.

وثانياً: أن شهر شوال قد انتهى، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدوداً عند العرب من الاشهر الحرمُ وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السُنّة، وأكّد حرمة الاشهر الحُرم.

من هنا كان من الضروري- حفاظاً على هذه السُنّة-7 إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهمُ عربُ ثقيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمخالفة السُنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دُنوَّ حلول موسم الحج، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين، بعد أن كانت- قبل ذلك- تُدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سبباً لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام، وبيان حقيقة التوحيد، وكان على النبي صلّى اللّه عليه وآله ان يستغلَ هذه الفرصة العظيمة التي اُتيحت له لأوّل مرة، في مجال الدعوة، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي إهتمامه لقضايا اُخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلّى اللّه عليه وآله حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرانة التي جعلها محلاً لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوماً يستند إلى رواية نقلها ابن هشام، إلا أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوماً ( الطبقات الكبرى ج 2 ص 158).

حوادث ما بعد الحرب
انتهت حوادثُ معركة "حنين" و"الطائف" وعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من دون تحقيق نتيجة قطعية الى "الجعرانة" لتقسيم غنائم معركة "حنين".

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة "حنين" كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم قدم "الجعرّانة" كان هناك ستة آلاف أسير و(24) ألفاً من الإبل واكثر من (40) ألف رأس غنم و(852) كيلو غراماً من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم8 وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسماً كبيراً من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في "الجعرّانة" ثلاثة عشر يوماً، وفي هذه المدة قسَّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى، وتركهم لذويهم، وخطَّط لاخضاع (او بالاحرى إسلام) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة، وأنهى نقاشاً حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

واليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة
1- لقد دأب رسولُ الاسلام صلّى اللّه عليه وآله على احترام حقوق الأفراد، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت، وعلى أن لا يبخس أحداً عمله، فإذا أحسن إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافاً مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقه صلّى اللّه عليه وآله.

فقد رضعَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن، وقد ارضعته إمرأة من هذه القبيلة تُدعى "حليمة السعدية"، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدَّ الاسلام قُسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين، كما وقعت بعضُ أموالهم بأيديهم أيضاً، وقد ندمت على فعلها ندماً شديداً.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نشأ وترعرع فيهم، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى كانوا يعرفون أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليه وآله ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل، فاذا سنَح لهم أن يذكِّروه بذلك لأطلق أسراهم حتماً.

فقدمَ أربعة عشر رجلاً من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعاً "الجعرانة" على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو "زهير بن صرد" والآخر عم للنبي صلّى اللّه عليه وآله من الرضاعة، فقالوا: يا رسولَ اللّه إنّما في هذه الأسرى من يكفُلك من عماتِكَ وخالاتك، وحواضنك، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا، ولقد رايتُك مرضعاً فما رأيتُ مرضعاً خيراً منك، ورأيتُك فطيما فما رأيتُ فطيماً خيراً منك، ورأيتك شاباً فما رأيت شاباً خيراً منك، وقد تكاملَت فيك خلال الخير، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتُك فامنن علينا مَنَّ اللّه عليك.

وقال زهير بن صُرد: يا رسول اللّه إنّما في هذه الحظائر عماتُك وخالاتُك وحواضنُك اللاتي كنَّ يكفُلنَكَ، ولو أننا مَلحنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفَه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهم:"إن أحسنَ الحديث أصدقُه، وعندي من ترون من المسلمين، فابناؤُكم ونساؤُكم أحبُّ اليكُم أَمْ أموالكم"؟

قالوا: يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كُنّا نعدلُ بالأحساب شيئاً، فرُدَّ علينا أبناءنَا ونساءنا.

فقال صلّى اللّه عليه وآله:"أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لَكُم واسأل لكم الناس وإذا صلّيتُ الظهرَ بالناس فقولوا: إنا لنستشفعُ برسول اللّه الى المسلمين، وبالمسلمين الى رسول اللّه فاني سأقول: لكم ما كانَ لي ولبني عبد المطَّلب فهوَ لكم وسأطلبُ لكم إلى الناس".

فلما صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الظهرَ بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقالوا: إنا نستشفع برسول اللّه الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.
وبهذا وهب رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهم نصيبه من الاسرى.
فقال المهاجرون: أمّا ما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.
وقال الانصار: ما كانَ لنا فهو لرسول اللّه.

وهكذا وهب الانصارُ والمهاجرون نصيبَهم من الاسرى تبعاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم يتأخر عن ذلك إلا قليلون مثل "الاقرع بن حابس" و"عيينة بن حصن" فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما، ويطلقا سراح ما عندهم من السبايا، فقام رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال: إن هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين وقد استأنيتُ بهم، فخيّرتُهم بين النساء والأبناء، والأموال، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء، فمن كانت عندَهُ منهنَّ شيء فطابت نفسُه أن يردَّه فليرسل، ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردَّ عليهم، فله بكل انسان ست فرائض (أي سوف أعطيه بدل الواحد ستاً) من أول ما يفيء اللّه به علينا9.

فكان لعمل النبي صلّى اللّه عليه وآله هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع "عيينة" من ردّها إلى ذويها.

وهكذا أثمر عمل صالح غُرست شَتيلته- قبل ستين عاماً- في أرض قبيلة بني سعد على يدي حليمة السعدية، فآتت اُكلَها بعد مدة طويلة، واُطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميل الاسرى والسبايا من هوازن10.

ثم انَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دعا اُخته من الرضاعة "الشيماء"11 وبسط لها رداءه ثم قال: اجلسي عليه، ورحّب بها، ودمعت عيناه، وسألها عن اُمّه وابيه من الرضاعة، فاخبرته بموتهما في الزمان، ثم قال صلّى اللّه عليه وآله لها:"إن أحببت فأقيمي عندنا محبَّبة مكرَّمة وإن أحببت أن اُمتِّعك وترجعي الى قومك فعلت".

فقالت: بل تُمتّعني وتردّني إلى قومي، فمتَّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وردَّها الى قومها، بعد أن أسلمت طوعاً ورغبة، وأعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثلاثة أعبُد وجارية12.

وقد قوّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام، فأسلموا من قلوبهم، وهكذا فقدت "الطائف" آخر حليف من حلفائها.

اسلام مالك بن عوف
في هذه الأثناء اغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الفرصة ليعالجَ مشكلته مع "مالك بن عوف النصري" مثير حرب حنين، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام، وعزله عن حليفه: "ثقيف".

ولهذا سألهم عن مالك ما فعَل؟ فقالوا يا رسولَ اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"أخبروا مالكاً أنّه إن أتاني مُسلِماً ردَدتُ عليه أهلَه ومالَهُ وأعطيتُهُ مائة مِنَ الابل".

فبلّغَ وفدُ هوازن مالكاً كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأمانَهُ المشروط، فقرَّر مالك الذي كان يرى باُمّ عينيه تعاظم أمر الاسلام، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه، أن يخرج من الطائف، ويلتحق بالمسلمين، ولكنه كان يخشى أن تعرف "ثقيف" بنيته فتحبسه في الحصن، ولهذا عمَد الى خطة خاصة للفرار، فقد أمر باعداد راحلته فهُيِّئت له، وأمر بفرسٍ له فأتي به إلى الطائف، فركب فرسه وركَّضهُ حتى أتى راحلتَه حيث أمر بها أن تُحبس فركبها، فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأدركهُ بالجعرانة أو بمكة، فردّ عليه النبي صلّى اللّه عليه وآله أهلَه وماله، وأعطاه مائة من الابل كما وَعدَ من قبل، واسلم فحسُن إسلامه، ثم استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على من أسلم من قومه وقبائل "ثمالة" و"سلمة" و"فهم".

وقد انشد "مالك بن عوف" أبياتاً عندما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الكريمة، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله         في الناس كلّهمُ بمثل محمَّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتُدي       ومتى تَشأ يخبرك عما في غد


وإذاالكتيبة عرّدت أنيابُها             بالسمهريّ وضرب كُلِّ مهنَّد

فكأنَّه ليث على أشباله               وسط الهباءة خادر في مرصد


وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام، وبعد أن أدرك قُبح موقف "ثقيف"13.

3- تقسيم الغنائم

كان أصحابُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب، ولكي يدلّل النبيُ الكريم صلّى اللّه عليه وآله على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال:"أيّها الناس واللّه مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط فإن الغُلولَ (أي الخيانة في بيت المال) يكونُ على أهله عاراً، وناراً، وشناراً يومَ القيامة".

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قسَّم أموال بيت المال بين المسلمين، واما الخُمس الذي هو حقُه الخاص به فقد وزَّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألَّفهم، ويتألفُ بهم قومهُم، فأعطى من هذا المال ل: أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والعلاء بن جارية وصفوان بن اُمية، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رؤوس الشرك ورموز الكفر، لكلِّ واحد منهم مائة بعير14.

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسولُ اللّه صلّى اللّه صلّى اللّه عليه وآله برحمته، ولطفه، وعنايته، وكرمه، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يُصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبُهم، وهم يشكلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم: وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا15.

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، شقّ على بعض المسلمين، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من هذا النوع من البذل والعطاء (وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام بأكثر الغنائم).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائد صلّى اللّه عليه وآله إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم (وهو ذو الخويصرة التميمي) قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بكل وقاحة: يا محمَّد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، لم أركَ عدلت!!

فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من كلامه هذا وقال:"ويحَكَ إذا لم يكُن العدلُ عِندي فعندَ مَن يكونُ"؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يأذن له بقتله، فلم يأذن له النبيُ وقال صلّى اللّه عليه وآله:"دعهُ فانَّه سيكُونُ له شيعة يتعمّقون في الدين (أي يتتبّعون أقصاه) حتى يخرجوا منه كما يخرج السهمُ من الرمية"16.

وقد كان هذا الرجلُ- كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّ عليه السَّلام، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة، غير أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لم يقدم على عقوبته على ما بدَر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع "سعد بن عبادة" شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله لسعد: إجمَع مَن كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الحظيرة، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعليه جلالُ النبوة، وهيبة الرسالة، فحمد اللّه واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:"يا معشَر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدَة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلالاً فهداكُم اللّه وعالة فاغناكم اللّه، وأعداءً فألّف اللّه بين قلُوبكُم"؟

قالوا: بلى اللّه ورسولُه أمَنُّ وافضلُ!
قال:"ألا تجيبوني يا معشر الانصار"؟

قالوا: وماذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسول اللّه المَنُّ والفضلُ؟

قال:"أما واللّه لو شِئتُم قُلتُم فصدقتُم أتيتَنا مكذَّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناكَ وطريداً فآويناكَ وعائلاً فآسيناك!17 وَجَدتُم في أنفسِكُم يا معشرَ الأنصار في شيء مِنَ الدُّنيا تألّفتُ به قوماً ليسلمُوا ووكلتُكُم إلى إسلامِكُم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهبَ الناسُ بالشاة والبعير، وترجعُوا برسول اللّه إلى رحالِكُم؟

والذي نفسُ مُحمَّدٍ بيدهِ لولا الهجرة لكنت إمرءاً من الأنصار، ولو سلكَ الناسُ شِعباً وسلكتِ الأنصارُ شِعباً لسلكتُ شِعبَ الأنصار".


ثم ترحَّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال:"اللّهُم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار".

وقد كانت كلماتُ النبي صلّى اللّه عليه وآله هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأَنصار، فبكوا بعد سماعها بكاء شديداً حتى اخضلّت لحاهُم وابتلَّت بالدّموع وقالوا: رَضينا يا رسولَ اللّه حظّاً وقسماً!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتفرّقوا18.

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبي صلّى اللّه عليه وآله وعن حنكته السياسيّة البالغة، وكيف أنه كان يعالج المشاكل بأساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول اللّه يعتمر
ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خرج من الجعرانة معتمراً، بعد ان قسم الغنائم، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعاً الى المدينة، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة، أو أوائل شهر ذي الحجة.


1- المغازي: ج 3 ص 915 و916.
2- بحار الأنوار: ج 21 ص 163.
3- امتاع الاسماع: ج 1 ص 417.
4- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 158.
5- السيرة النبوية: ج 4 ص 126، وابن هشام يرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هو اول من استخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.
6- المغازي: ج 3 ص 928.
7- ويدلُّ على هذا الأمر أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تَرك مكة متوجهاً الى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدةُ الحصار عشرين يوماً، وصرفت بقيّة الايام (وهي خمسة) في المسير إلى حنين، وفي المعركة.
8- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 152.
9- المغازي: ج 3 ص 949- 953.
10- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 153 و154، السيرة النبوية: ج 2 ص 490، والحادثة التاريخية هذه جسَّدت مضمون قول اللّه تعالى: "مَن عمِلَ صالحاً مِن ذكر أو أنثى وهُو مؤمن، فلنحيينَّهُ حياة طيّبة ولنجزينهم بأحسن ما كانُوا يعملُون" (النحل: 97).
11- هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.
12- البداية والنهاية: ج 2 ص 363 و364، الامتاع: ج 1 ص 413.
13- السيرة النبوية: ج 2 ص 491 وعرّدت أي عوّجت.
14- راجع المحبّر: ص 473، المغازي: ج 3 ص 944- 948، السيرة النبوية: ج 3 ص 493، امتاع الاسماع: ج 1 ص 423.
15- الطبقات الكبرى: ج 3 ص 153.
16- السيرة النبوية: ج 2 ص 496، السيرة الحلبية: ج 3 ص 122، وفي المغازي: ج 3 ص 948 أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قال فيه: "دعه إنّ له أصحاباً يحقِّر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يخرجون على فرقة من المسلمين". وراجع امتاع الاسماع: ج 1 ص 425 وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.
17- إن هذا يفيد ان النبي صلّى اللّه عليه وآله ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هو صلّى اللّه عليه وآله صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.
18- السيرة النبوية: ج 2 ص 498 و499، المغازي: ج 3 ص 957 و958.