سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة الثامنة للهجرة

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

 قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى بانت سعاد
   حُزن قارَن فَرحاً


"بانت سعاد...."

فرغَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف شهر ذي القعدة، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة، وكان موسم الحج على الأبواب، وكانت هذه السنة هي السنة الاُولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب، مسلمين و مشركين، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالاً، وكان من الممكن - وبفضل قيادته الحكيمة - أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقويه وواسعة إلى الاسلام، بينما كانت ثمة مسؤوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وقد مضى على مفارفته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطَّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلّى اللّه عليه وآله أن يكتفي بعُمره، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنه صلّى اللّه عليه وآله رأى أنه لا بدَّ أن يعيّن شخصاً صالحاً لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي (نعني مكة) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها، وحتى تجري الاُمور على النسق الصحيح والمطلوب. من هنا استخلف النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله "عتَّاب بن اسيد " على مكة، وكان عتاب شاباً لبيباً يتسم بالصبر والجلد، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة، وقد قرّر له النبي راتباً قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل (أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ) حطّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سدّاً خيالياً، ومفهوماً باطلاً في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله "عتاباً" على أهل مكة قالوا: إن محمداً لا يزالُ يستخفّ بنا حتى ولّى علينا غلاماً حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة، و نحن مشايخُ ذوو الاسنان فاجابَهم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقوله في كتاب كتبه لعتاب: "لا يحتجُّ مُحتَجّ مِنكُم في مخالِفتِه بصغَر سنِّه، فليسَ الاكبرُ هُوَ الأَفضَلُ بَل الأَفضلُ هَوَ الاكبرُ وَهُوَ الاكبرُ في موالاتنا و موالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جَعلناهُ الأَمير عليكم والرئيسَ عليكم فيمن أطاعَه فمرحباً به ومن خالفَهُ فلاُ يُبعِدُ الله غيره"1.

وبهذا أثبت صلّى اللّه عليه وآله عملياً أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة، والكفاءة، وأَنَّ صِغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبُه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان "عَتّاباً" قام فخطب في الناس فقال: أيّها الناسُ أجاع اللّه كبِدَ من جاع على درهم، فقد رزقني رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله درهماً كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد2. وأحسن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الاختيار أيضاً عندما عيّن " معاذ بن جبل" ليعلّمَ الناس القران ويفقههم في الدين، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لما بعثه للقضاء، الى اليمن سأله صلّى اللّه عليه وآله: بمَ تَقضي إن عَرضَ قضاء فقال: أقضي بما في كتاب اللّه.

قال: فاِن لم يكن في كتابِ اللّه؟
قال: أقضي بما قضى بهِ الرسولُ.
قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسولُ؟
قال: أجتَهِدُ رأيي ولا آلو.
فضرب النبي صلّى اللّه عليه وآله صدره، وقال: "الحمدُ للّه الَّذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه"3.

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى:
كان "زهير بن أبي سلمى" من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي، فهو صاحب احدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظمة حتى قُبيل نزول القرآن الكريم، وكانت تفتخر بها العربُ وتبدأ معلَّقتُه تلك بقوله:
أمِن اُمّ أوفى دِمنة لم تكَلّمَ     بِحَومانةِ الدَرّاج فالمتثلَّم

وقد توفي "زهير" قبل عصر الرسالة، وخلّف ولدين هما: "بجير"، و"كَعْب" وكان الأولُ ممّن آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ونَصَره، وأحبَّه، بينما عادى الثاني (كعب) رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بشدَّة، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قصائده وأشعاره ويؤلّب الناس ضدَّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان "بجير" قد شارك مع النبي صلّى اللّه عليه وآله في فتح مكة، وحصار الطائف، وقد شاهد عن كثب كيف هدّدَ النبي صلّى اللّه عليه وآله بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويؤلّبون الناس ضدَّ الإسلام، وأهدر دماءهم.

فكتبَ بهذا إلى أخيه (كعب) ونصحه في آخر كتابه قائلاً: إن كانَت لك في نفسك حاجة فطِر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فانه لا يقتل أحداً جاءه تائباً.

فاطمأنَّ كعبُ بكلام أخيه، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتهيأ لصلاة الصبح، فصلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأوّل مرّة تم جلس اليه، ووضع يده في يده، وكان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّه إنَ كعب بن زهير قد جاء ليستأمِنَ مِنكَ تائباً مُسلِماً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: نعم.
قال: أنا يا رسول اللّه كعبُ بن زهير4.

ثم أخرج كعب قصيدته اللامّية العصماء التي مدح فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والتي كان قد أنشأها من قبل، وانشدَها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المسجد ليتلافى بها ما سبق أَن بدرَ منه من هجاء وطعن في سيد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله5. وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعرُ المذكور بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المسجد، وقد شرحها علماءُ الإسلام كثيراً، وعدد ابيات هذه اللامية (أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة) 58 بيتاً ومطلعها:
بانَت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ     متيَّم إثرَها لم يغدَ مكبولُ

لقد بدأ كعب قصيدَته هذه - على عادة شعراء العهد الجاهلي (الذين كانوا يبدأون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال) - بذكر سعاد زوجته وابنة عمه، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلّى اللّه عليه وآله فيقول: فارقَتني سعاد فراقاً بعيداً فقلبي اليوم أسقَمه الحبُّ، وأضناه، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد. ثم يمضي في هذا النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال:
نُبِّئتُ أنَّ رسولَ اللّه اَوعدَني     والعَفوُ عند رَسول اللّه مأمولُ
مهلاً هَداك الذي أعطاك ناف     لَة القرآن فيها مواعيظ وتَفصيلُ
لا تأخُذَنّي بأقوال الوُشاة وَلم     اُذنب ولو كَثُرت فيَّ الأَقاويلُ


إلى أن قال:
إن الرسولَ لنور يُستَضاء به     مُهنَّد من سيوف اللّه مَسلولُ6-7

حُزن قارَن فَرحاً:
في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقَد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كُبرى بناته: "زينب"، وقد تزوَّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص، وآمنت بأبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد البعثة من دون تأخير، ولكنَّ زوجها ظلَّ على شركه، وشارك في "بدر" ضدّ الإسلام والمسلمين، وأُسِرَ في تلك المعركة فخلَى رسولُ اللّه سبيله، شريطة أن يبعث بابنته "زينب" إلى المدينة.

وفعل ابنُ العاص ذلك فجهَّزَ زوجتَه "زينب" وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك، فكلَّفوا مَن يُعيدُها إلى مكة، فلحق بها الرجلُ في أثناء الطريق، فضربَ هودجَها برمحه ففزعت زينب ابنةُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واسقطَت حملها من شدّة الفزع، ولكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة، فقد واصلت سيرها حتى قدمَت المدينة وهي عليلة، وقضت بقية عمرها مريضة حتى توفِّيَت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة

ولكنَّ هذا الحزنَ قارنَهُ فرح وسرور فقد رزقَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أواخر نفس ذلك العام ولداً اسماه "ابراهيم" من زوجته "ماريّة القبطية" (وهي الجارية التي أهداها المقوقس حاكمُ مِصر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله).

والجدير بالذكر أنه عندما بشّرت سلمى (المولِّدَة) رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك، أعطاها هدية ثمينة، وعقَّ له في اليوم السابع من ولادته، وحلق شعرَهُ، وتصدّق بوزن شَعره، فضة في سبيل اللّه8.


1- بحار الأنوار: ج 21 ص 122و 123. امتاع الاسماع: ج 1 ص 432و 433.
2- السيرة النبوية: ج 2 ص 500.
3- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 347و 348، ويكتب الجزري في اسد الغابة: (ج 3 ص 358) كان عتاب رجلاً خبيراً صالحاً فاضلاً.
4- روي أنه وثب على كعب - في تلك الحال - رجل من الانصار فقال: يا رسول اللّه دعني وعدوَّ الله أن أضرب عنقه، فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله: دعهُ فانهُ قد جاء تائباً نازعاً (عما كان عليه) السيرة النبوية: ج 2 ص 501.
5- السيرة الحلبية: ج 3 ص 242.
6- السيرة النبوية: ج 2 ص 501 - 514.
7- يقال: إن كعباً عندما فرغ من انشاد قصيدته كساه النبي صلّى اللّه عليه وآله بُردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بُردة رسول اللّه، فقال: ما كنتُ لاُوثر بثوب رسول اللّه أحداً، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم وهي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون والعباسيون (راجع الكامل في التاريخ ج 2 ص 276). وجاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعباً لما قال "ان النبي لسيف يستضاء به" قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله "إن النبي لَنور".
8- تاريخ الخميس: ج 2 ص 131.