عمرة القضاء1
كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من
تاريخ يوم التوقيع مكة، ثم يغادورها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة وكان
عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلا سلاح الراكب: السيف في القرب، ليس غير.
والان مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة، وآن الاوان ليستفيد
المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية، وان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى
عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رؤوسهم، ورجّحوا الحياة في
الغربة، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.
يتوجه مثل هؤلاء مرة اُخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام ولقاء الاحباب والأقرباء
وتفقّد المنازل والبيوت التي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.
ولهذا عندما أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بان يستعد من حُرمَ من العمرة في
العام الماضي للعمرة، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين، واغرورقت دموع الفرح في
عيونهم، فخرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم
عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.
وكان بين الخارجين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جمع كثير من شخصيات
المهاجرين والانصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.
وساق رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها2،
وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام
يقصدون مكة.
ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من
المشركين إلى حقيقة الاسلام ومعنويته الرائعة.
ولو قلنا: ان هذا السفر كان - في حقيقته - سفراً تبليغياً، وان المشتركين فيه كانوا
- في حقيقة الامر - طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافاً، فان آثار هذا السفر
المعنوي ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم الدُ أعداء الاسلام
أمثال "خالد بن الوليد" بطل معركة اُحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في
الاسلام، وأسلموا بعد قليل.
وحيث ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يكن آمناً من غدر قريش فقد كان يحتمل
أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكة، ويسفكوا دماء جماعة منهم وهم لا يحملون
معهم إلا سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحاً للمسلمين - حسب المعاهدة - أن يأخذوا معهم
سلاحاً غير ذلك.
من هنا عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تحسباً لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل
من المسلمين بالتسلح الكامل، وأمّر عليهم "محمَّد بن مسلمة" وحملهم على مائة فرس
سريع، وأمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى، والاستقرار في منطقة "مرّ
الظهران" قرب الحرم، ينتظرون ورود رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومن معه.
فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقضية
الفرسان المسلّحين المائتين، واستقرارهم في وادي "مرّالظهران"، وأخبروا سادة قريش
بالأمر.
فبعثت قريش "مكرز بن حفص" الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليكلموه في هذا
الإجراء فأتى مكرز الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّمه اعتراض قريش وانه
تعهّد - قبل ذلك - أن لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر.
فأجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "لا نَدخلُها إلا كذلك ولكن يكونُ هؤلاء
قريبين منا".
وقد أفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكرزاً بهذه العبارة بأن قريشاً لو
استغلّت عدم حمل النبي واصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة
الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.
فعاد "مكرز" واخبر قريشاً بما سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأدركت قريش
حنكة رسول الاسلام وبُعد نظره، وحسن تقديره للامور، ففتحت أبواب مكة في وجه
المسلمين، وخرج رؤوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم الى رؤوس الجبال، وخلّوا مكة،
وقالوا: لاننظر إلى محمَّد ولا إلى اصحابه، ولكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!!3.
النبي يدخل مكة:
دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشحو السيوف
محدقون به يلبّون وهم ألفان، فدوّى صوتهم الموحَّد بالتلبية في أرجاء مكة، وكانت
نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كل سكان مكة، وسحرت قلوبهم
وعطفها نحو المسلمين، وفي نفس الوقت أرعب اتحاد المسلمين، ونظامهم، والتفافهم حول
النبي قلوب المشركين، ولم يقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تلبيته حتى استلم
الركن.
فلما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى البيت وهو على راحلته وابن رواحة
اخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى اليه، استلم الركن
بمحجنه مضطبعاً بثوبه على راحلته انشد عبد اللّه بن رواحة يقول:
خَلُّوا بَني الكفّار عَن سبِيله
إني شهدتُ أنه رسولُه
حقاً وكلُّ الخير في سبيله
نحن قتلناكم على تأويله
كما ضَربناكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيله
ويذهلُ الخليل عن خليله4
وطاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالبيت المعظم على راحلته، وهنا أمر صلّى
اللّه عليه وآله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص، وان يتبعه المسلمون:
"لا إله إلا اللّه وحدَه وحدَه، صدَق وعدَه، ونصرَ عبدَه واعز جنده، وهزم الاحزاب
وحده".
كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين، المسجد، الكعبة، الصفا،
المروة، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين
مديدة مركزاً للوثنية، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين،
وأتباعهم، ممّا كان يُوحي بغلبة "محمَّد" صلّى اللّه عليه وآله على كل أرجاء
الجزيرة العربية حتماً ويقيناً.
ولما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نُسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان
الظهر، فصعد بلال الذي طالما عذِّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأذّن لصلاة الظهر.
ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عُدت
فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمَّد، ذنباً لا يُغتفر، وجريمة لا ينجو صاحبها من
العذاب، يردد ويردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلاً فصلاً في خشوع
وروحانية بالغة.
لقد أزعج أذان بلال المشركين واعداء التوحيد، حتى قال "صفوان بن اُميّة": الحمدُ
للّه الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن اُسيد: الحمدُ لله الذي أمات أبي
ولم يشهد هذا اليوم، ولَم يسمَع هذا العبد الحبشيَّ يقولُ ما يقول.
واما "سهيل بن عمرو" فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.
إنهم لم ينزعجوا من صوت "بلال" بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدَّ ما
يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة، وجعلتهم بعانون بسبب ذلك من عذاب روحي
شديد.
ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأن
قريشاً تحدثت بينها أن محمَّداً وأصحابه في عسرة وجهد وشدة، وان الذين هاجروا معه
الى المدينة مرضى، وأنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فهرول
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى، وتبعه
المسلمين وقد قال لهم قبل ذلك: "رحم اللّه امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة"5.
وذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف
المهجر. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على امرين:
أولاً: جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم
الحج.
ثانياً: ان النبي صلّى اللّه عليه وآله كان
حذراً جداً فكان يبطل كل خطط العدو أولاً بأول.
يقول صاحب زاد المعاد: أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم
(أي يبطل كيدهم) بكل ما استطاع6.
ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن، ثم قصّر من
شعره، ثم خرج من إحرامه، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.
ثم أمر صلّى اللّه عليه وآله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من
مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون
فيقضوا مناسكهم، ففعلوا.
إنتهت أعمال العمرة ونسكها، وذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة
أعوام، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق، واستضافوا جماعة من الأنصار
في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديراً لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة،
فأسكنوهم واكرموهم في منازلهم وخدموهم سنيناً عديدة.
النبي يغادر مكة:
تركت أحوالُ المسلمين وأوضاع الاسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثراً بليغاً
وعجيباً في نفوس سكان مكة المشركين، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة
في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى وكاد ذلك أن "يفعل" فعلته، ويحدث إنقلاباً
روحياً في تلك البيئة.
ولما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي وأصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة
ويضعف تمسكهم بوثنيتهم، ويوجد علاقات المحبة بينهم وبين المسلمين، لهذا بعثوا أحدهم
وهو حويطب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله - بعد انقضاء المدّة المقرّرة
للاقامة في مكة في المعاهدة - ليطلب منه مغادرة مكة قائلاً: انه قد انقضى اجلك
فاخرج عنا.
فانزعج بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله من مقالة مبعوث قريش هذا، ولكن النبي
لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو
والمسلمون مكة فوراً.
ولقد تأثرت "ميمونة" اُختُ اُمّ الفضل زوجة العباس، بما شهدت من مشاعر المسلمين
وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن طريق عمّها العباس أنها
ترغب في الزواج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فوافق رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله7 وتزوجها، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.
ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي
والمعنوي الذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتى أن النبي صلّى اللّه عليه وآله
لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم، ويصنع لهم طعاماً
يحضرونه، أبوا امهاله خوفاً من تعاظم تأثيره في النفوس، وقالوا له: لا حاجة لنا في
طعامك فاخرج عنا8.
فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار ولم
يبق بمكة إلى وقت الظهر، وخلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته "ميمونة" حين يمسي، فأقام
أبو رافع حتي أمسى، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين، ولاموا
"ميمونة" على فعلها، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها، فقد رغبت في الزوج برسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله بدافع الرغبة في خلقِه وسموّ أخلاقه.
وهكذا تحقق رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة
بأنه دخل البيت، وحلق رأسه، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدث عن
تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمناً عن فتح قريب، - هو فتح مكة - الذي تحقق في السنة
الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾9.
1- العمرة أعمال خاصة
ومناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي
يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة وقد توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى مكة
في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسميت هذه
العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلاً عن العمرة التي منع النبيّ والمسلمون عنها في
عام الحديبية.
2- البَدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بُدن وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلاً
فيُعلم أنها هديُ.
3- امتاع الاسماع: ج 1 ص 337و 338.
4- زاد المعاد: ج 2 ص 152.
5- تاريخ الطبري: ج 2 ص 309 وراجع نظيره في زاد المعاد: ج 2 ص 152.
6- زاد المعاد: ج 2 ص 152. ولنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة
وسياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.
7- حياة محمد: ص 401.
8- السيرة النبوية: ج 2 ص 372، تاريخ الخميس: ج 2ص 62 - 65.
9- الفتح: 27.