1- القُرآن كتاب الهداية والتربية
إنّ الكتاب الّذي جاء به نبي الإسلام سنداً لنبوته، يؤدّي مهمّتين:
1ـ يثبت أنّه مبعوث من جانبه سبحانه، وفي هذا يتساوى مع معاجز المتقدمين عليه من الأنبياء.
2ـ يهدي الناس إلى أُصول المعارف والعقائد، يتكفّل بتربية البشر وسوقهم إلى الفضائل الأخلاقية، وهذه مزية تختص بمعجزته الخالدة، ولا توجد في معجزة أخرى. فإن ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز كانقلاب العصا إلى الثعبان، وإحياء الموتى، لا يؤدّي سوى مهمة واحدة وهي إثبات أنّ الجائي بها مبعوث من جانب الله سبحانه. وأمّا المعجزة الخالدة، فهي تهدي مضافاً إلى ذلك إلى المعارف العليا، وكرائم الأخلاق، والفرائض والمنهيات. فهي بمفردها: برهان نبوته، وهادي أُمته إلى ما يجب عليهم الإعتقاد به أو العمل به.
وبعبارة أخرى: إنّ معاجز الكليم والمسيح معاجز جسمانية، لا تثبت إلاّ صلتهما بالله سبحانه، وأمّا القرآن الكريم فهو معجزة معنوية، تصقل العقول والأرواح، وتُرْشد إلى طريق الخير والصلاح. والنبي الأكرم قام ـ بفضل هذه المعجزة ـ بصنع أُمة، بلغت من الفضل والكمال كل مَبْلغ بعدما كانت غارقة في الجهل والأُمّية.
2- استقلالها في إثبات الرسالة
إنّ لهذا الكتاب مزية ثانية تفتقدها سائر المعاجز، حتى المعجزات الأخرى للنبي الأكرم، وهي أنّ سائر المعاجز لا تثبت شيئاً إلاّ أن يكون معها مدّعي النبوة فيدّعي ويُسأل البينة، فيأتي بالمعجز، ويتحدّى به إلى آخر ما ذكرنا من شروط المعجز.
وأمّا القرآن الكريم، فإنّه بنفسه يقوم بكل هذه الأُمور، فيطرح بنفسه الدعوى، ويتساءل هو عن برهانها، ثم يثبتها بنفسه، ويتحدّى الناس على الإتيان بمثله، ويعجزهم ويدينهم. وهذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر المعاجز.
3- التحدّي بأبسط الأشياء وأوفرها
قد تعرفت في مباحث الإعجاز من النبوة العامة على الفروق الواضحة بين المعجزة وغيرها، وقلنا إنّه ربما يصل العلم والصنعة إلى الغاية الّتي وصلت إليها معاجز الأنبياء، ومع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية ولا تدخل في إطار الإعجاز.
مثلاً: إنّ سليمان بن داود، أول من فتح أبواب الفضاء على عُيون المجتمع الإنساني، فهو كان رائد الفضاء الأول بفضل الريح المسخرة له، يقول سبحانه: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْري بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَاب﴾(ص:36).
ولم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال الإنسان إلى الفضاء إلاّ بعد آلاف السنين، حتى تمكنت أخيراً من إنزاله على سطح القمر، والركب بعد مستمر، ومع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة، لوجود الميز الجوهري بين العَمَلين، وإن اتحدا في النتيجة. وذلك أنّ سليمان بَدَأَ عمله بأبسط الأشياء، وأكثرها شياعاً، وهو الجلوس على بساط، يحركه الريح، تجري بأمره حيث شاء كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْر﴾(سبأ:12).
وأمّا ما قامت به الحضارة الصناعية من إرسال الرّواد إلى الفضاء، فهو صنعة بحتة، لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات وأخفاها. فالسفينة الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد، والّتي هبطت على سطح القمر، اشترك في صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين وخبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب، حتى علماء النفس وغيرهم ممن خدموا هذه السفينة والصواريخ الحاملة لها. فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقاً وتعقيداً، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة، لا صلة لها بأمر سماوي.
ونفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس وفي متناولهم، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفاً وألفاظاً تشكل لغة العرب ومفردات كلامهم وجملهم. فلو كان هذا القرآن مصنوعَ نفسِ مَنْ جاء به، فهو وسائر الناس في هذه الحلبة سواء، لأنّ موادّه في متناول الناس واختيارهم، فليقم خُبَراُؤهم وعلماؤهم وبُلَغاؤهم وفصحاؤهم بصنع كتاب، أو عشر سُوَر، أو سورة واحدة مثله..
ومع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة وهي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر والطب من الإعجاز ، ولكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربياً صميماً عارفاً بأساليب الكلام، فإنّ ذلك كاف في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها، ولأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن ويدعو كلَّ الناس إلى المقابلة والمنازلة، وقلّما يّتفق أن يسمع إنسان كلامه ولا يتأثر منه، وإن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّاً في فطرته وعمق ضميره، بأساليب شيطانية، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المُغيرة، وعتبة بن ربيعة ومجمل سيرة رؤساء قريش.
هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة، ولها مزايا أخرى.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص240-242