لا شك أنّ الكليم موسى، تحدّى بمعجزات خاصة، يعبر عنها القرآن الكريم بتسع آيات بينات، في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَات بَيِّنَات فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(الإسراء: 101).
وقوله: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء فِي تِسْعِ آيَات إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾(النمل:12).
كما أنّ المسيح تحدّى بمعجزات خاصة، تباين من حيث الماهية معجزات الكليم، ويحكي ذلك القرآن بقوله: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين﴾(آل عمران:49)1.
فعند ذلك يطرح السؤال نفسه: لماذا اختُص الكليم بهذه المعاجز، والمسيح بتلك الخوارق، وجاء نبي الإسلام بمعجزة الكلام؟.
والإجابة عن ذلك بوجهين
الوجه الأول: أَصْدَقُ المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر
إذا كان المعجز عبارة عما يخرق نواميس الطبيعة، فلا شك أنّ معرفة ذلك يختصّ بعلماء الصنعة الّتي يشابهها ذلك المعجز، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف بخصوصياتها، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء أسرع تصديقاً بالمعجز من غيرهم، وأمّا الجاهل فباب الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلاً بمبادئ الصنعة، وما دام يحتمل أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة.
ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يُخصَّ كلُّ نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، والّتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنّه أسرع للتصديق، وأقوم للحجة. فكان من الحكمة أن يُخَصَّ موسى ـ عليه السَّلام ـ بالعصا، واليد البيضاء، لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق برهانه لعلمهم بأنّ ما أتى به موسى، خارج عن حدود السحر، فتيقّنوا من كونه معجزة إلهية.
وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين، إذ كانتا مستعمرتين للرومان، فشاءَت الحكمة الإلهية، أن تجعل برهان المسيح شيئاً يشبه الطب، فقام بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، لُيْعلِم أهل زمانه أنّ ما أتى به خارج عن قُدرة البشر.
وأمّا نبيّ الإسلام، فقد ادّعى النبوة بين العرب، وكان الفن الرائج بينهم هو الشعر والخطابة، فقد برعوا في البلاغة، وامتازوا بالفصاحة، وبلغوا الذَّروة في فنون الأدب. وكانوا يعقدون النوادي ويقيمون الأسواق لإلقاء الخطابة والشعر، وكان المرء يُقَدَّر على حسب ما يحسنه من إلقاء الخطب الرنّانة والأشعار البليغة.
وقد بلغ تقديرهم للأدب والشعر إلى حدّ عمدوا إلى قصائد سبع، من خيرة أشعارهم، فعلّقوها على جدار الكعبة، بعد ما كتبوها بماء الذهب، فكان يقال هذه مُذَهّبة امريء القيس إذا كانت أجود شعر.
كما بلغ اهتمام رجال العرب ونسائهم بالخطابة والشعر إلى أنّهم كانوا يحتفلون كل عام في موسم الحج إحتفالات كبيرة لإلقاء الخطب والأشعار. وكان النابغة الذبياني هو الحَكَم في تمييز الراجح من المرجوح، فيأتي سوق عكاظ وتضرب له فيه قُبّة حمراء من الأَدم، فيأتيه الشعراء، فيعرض كلّ أبياته الّتي صاغها طيلة السنة المتقدمة2.
وفي هذه الأجواء، كانت المناسبة تقتضي أن تكون معجزة المدّعي مشابهة للفن الرائج في ذلك الظرف، فلذلك جاء بمعجزة البيان وبلاغة الكلام، حتى يعرف كلُّ عربي أو الأخصائي منهم أن قُرآنه بعذوبته وحلاوته، وسمو معانيه وعمقها، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه، خارج عن إطار الكلام الرائج بين فصحاء العرب وبُلغائهم أولاً، وخارج عن طاقتهم ومقدرتهم ثانياً. وسيوافيك تصديق أكابرهم وفحولهم المعاصرين للنبي الأعظم، بكون كلامه خارجاً عن طوق البشر ومقدرته، كما سيوافيك تحليله بوجه علمي ملموس.
وهناك كلام لأحد أئمة الشيعة " قيِّمٌ جِدّاً" نأتي به:
روى الكليني عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السَكّيت3، لأبي الحسن4: "لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السَّلام بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمداً صلّى الله عليه وعلى جميع الأنبياء بالكلام والخطب؟".
فقال أبو الحسن عليه السَّلام : "إنّ الله لما بعث موسى عليه السَّلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم.
وإنّ الله بعث عيسى عليه السَّلام في وقت قد ظهرت فيه الزِّمانات5، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم.
وإنّ بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال: الشعر فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم".
قال فقال إبن السكِّيت: "تالله ما رأيْتُ مثلك قَطً"6.
الوجه الثاني: الدين الخالد رهن المعجز الخالد
وهناك وجه ثان لاختصاص النبي بهذه المعجزة وهو الفرق الواضح بين دعوته، ودعوة سائر الأنبياء، فإنّ دعوتهم وشريعتهم كانت محدودة زماناً ومكاناً، أو من حيث الزمان فقط. ولأجل ذلك كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر ينسخ بشريعته شرائع مَنْ قَبْلَه. ومِثْل تلك الدَّعَوات يكفي في إثباتها وجود معاجز تنقلها الأجيال المعاصرة للأنبياء إلى الأجيال التالية لهم بصورة الأمر المتواتر، ومثل هذه المعاجز لا تكفي للدعوة الخالدة، لأنّ الإيمان بالعاجز والإذعان بصحتها من خلال نقلها بالتواتر يزول بمضي الزمان، إلى حدّ تصبح معه أموراً ظنية، غير قابلة لاتمام الحجّة، للأجيال المتلاحقة.
فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الدين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة، حتى تتم الحجة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم الساعة، وهذا لا يمكن إلاّ بأن يكون للإعجاز وجودٌ خالدٌ وثابتٌ عبر القرون، وليس ذلك إلاّ أن يكون مثل القرآن.
وهذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم معجزة سوى القرآن، فإنّ ذلك باطل كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني، بل يعني أنّه صلى الله عليه وآله وسلم اختُص بهذه المعجزة دون غيره، وأنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه.
وبعبارة أخرى: إنّ لدعوته سمة الشمول وسمة الخاتمية، أمّا الشمول، فَبَعْثُه إلى البشر كلِّهم، وأمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين وأنّ كتابه خاتم الكتب وشريعته خاتمة الشرائع، فمثل هذه الدعوة الّتي تَعُمُّ جميع الأجيال والأمكنة، لا تتم إلاّ باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور وتعاقب الأجيال أوّلاً، وفي جميع الأمكنة ثانياً، حتى يتمّ الإحتجاج على المتحرّي، في جميع الأمكنة والأزمنة. وقد عرفت أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز، ثوب الظنّ والشك، إلى أن تصبح في أعين الناس، خصوصاً الذين هم في منأى عن الأجواء الدينية، كالأساطير الّتي تقرء في الكتب. فعند ذلك لا يتمكن المسلم المحتج من إقامة الحجة على مخالفه ومعانده، بل لا تتم الحجة في حدّ نفسها على المخالف. فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة بالحق، في جميع الأمكنة والأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجة على البشر إلى قيام الساعة ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل﴾ِ(النساء:165)، بل تكون ﴿للهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(الأنعام:149). على الناس في كل مكان وزمان.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص235-239
1- ولاحظ سورة المائدة الآية 110.
2- عراء النصرانية، ج 2، ص 640، ط بيروت.
3- أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي، أحد أئمة اللغة والأدب، وكان حامل لواء علم العربية، وله تصانيف منها: كتاب تهذيب الألفاظ، وكتاب إصلاح المنطق، قتله المتوكل في خامس شهر رجب عام 244 هـ، بحجة أنّه قال إنّ قنبراً ـ خادم علي ـ خير منه ومن ابنيه. فقال المتوكل للأتراك، سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 376.
4- الإمام الهادي أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الرضا، المدفون بسامراء، الشهيد بيد المعتزبالله عام 252 هـ.
5- الزِّمانات: الآفات الواردة على بعض الأعضاء فتمنعها من الحركة كالفالج واللَّقوة.
6- الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، الحديث 20، ص 24 ـ 25.