العصمة
سماتهم وخصوصياتهم عليهم السلام ، وهي على قسمين:
1- ما يستفاد من الآية الشريفة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير﴾.
2- ما يستفاد من سائر الآيات.
أمّا الاَوّل، فالآية ـ بعد الاِمعان فيها ـ تدلّ على عصمتهم وطهارتهم من الذنوب،
ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين:
1- ما هو المراد من الرجس؟
2- هل الارادة في الآية المباركة إرادة تكوينية أو تشريعية؟
1- ما هو المراد من الرجس؟
المراد من الرجس: هو القذارة الاَعم من المادية والمعنوية، وقد اتفق على ذلك أئمّة
اللغة.
قال ابن فارس: الرجس: أصل يدل على اختلاط، ومن هذا الباب:
الرجس: القذر لاَنّه لطخ وخلط.1
وقال ابن منظور: الرجس: القذر، وكل قذر رجس، وفي الحديث: أعوذ بك من الرجس النجس.
وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر. قال الزجّاج: الرجس في
اللغة كل ما استقذر من عمل... فبالغ اللّه في ذم أشياء وسمّـاها رجساً، وقال ابن
الكلبي: رجس من عمل الشيطان أي مأثم.2
وقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات: ووصف به الخمر والميسر
والاَنصاب والاَزلام والكافر غير الموَمن باللّه والميتة والدم المسفوح ولحم
الخنزير والاَوثان وقول الزور... إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر
الحكيم.
ونكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالاَنْصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ .3
وقال سبحانه: ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ
خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ .4
وقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ﴾5،
إلى غير ذلك من الآيات.
والمتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة، يصل إلى
أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس، سواءً أكانت مادية، كما وردت
في الآيات، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه.
فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً، فلاَجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة
التي تستنفرها الطباع السليمة، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الاَعمال
القبيحة عرفاً أو شرعاً، ويدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة: ﴿ويطَّهركُم
تَطْهير﴾ ، فليس المراد من هذا التطهير إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا
تقبله النفوس السليمة.
وقد ورد نظير قوله: ﴿ويطهركم تطهير﴾ في حق السيدة مريم "عليها السلام" ، قال
سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِين﴾ .6
نعم: انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة،
وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا، قال سبحانه: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِِّرِينَ﴾ .7
قال العلاّمة الطباطبائي: الرجس ـ بالكسر والسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة،
والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء
كرجاسة الخنزير، قال تعالى: ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ وبحسب باطنه،
أُخرى، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء، قال تعالى:
﴿وأمّا الّذِينَ فِي ُقُلوِبِهمَ َمٌرضَ َفزَاْدُتْهمِ رجساً إلى رِجْسِهِمْ
ومَاتُوا وَهُمْ كافِرون﴾8، وقال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ﴾ .9
وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل
أو العمل السيّء وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حق
الاعتقاد والعمل، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الاِلهية التي هي صورة
علمية نفسانية، تحفظ الاِنسان من رجس باطني الاعتقاد وسيّء العمل.10
المنفي مطلق الرجس
إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الاَفعال القبيحة عرفاً أو شرعاً
والمعاصي صغيرها وكبيرها، فيجب أن يقال: إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس، وذلك
لاَنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه، ونفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة
مراتبها، ولاَجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله: ﴿ليذهب عنكم الرجس﴾ بل أكّده بقوله:
﴿ويطهّركم تطهير﴾ ، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس ـ أعني: الشرك، أو
الاَوسع منه كالمعاصي الكبيرة ـ لما كان لهذه العناية وجه.
والحاصل: انّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة، أو لا رجل في الدار، هو
المفهوم من قوله: ليذهب عنكم الرجس، والتفكيك بين المقامين غير مقبول. هذا هو
الاَمر الاَوّل وإليك الكلام في الاَمر الثاني:
2- هل الاِرادة في الآية تكوينية أم تشريعية؟
إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا
تحتاج إلى بسط في القول، ومجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على
إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود، فهي الاِرادة التكوينية ولا تتخلّف تلك
الاِرادة عن مراده، وربّما يعبّـر عنها بالاَمر التكويني قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ .11
ففي هذا المجال يكون متعلّق الاِرادة تكوّن الشيء وتحقّقه وتجسّده، واللّه سبحانه
لاَجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكويني عن
متعلّقه.
وأمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الاَحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم
المكلّف مختاراً بواجبه، فهي إرادة تشريعية، ففي هذا المجال يكون متعلّق الاِرادة
تحقيقاً هو التشريع والتقنين، وأمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف، ولاَجل ذلك
ربّما تترتب عليه الغاية، وربّما تنفك عنه، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته
سبحانه، لاَنّه ما أراد إلاّ التشريع وقد تحقق، كما انّه ما أراد قيام المكلّف
بواجبه إلاّ مختاراً، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره، هذا هو إجمال
القول في الاِرادتين، وللتفصيل محل آخر.
والقرائن التي ستمر عليك تدل على أنّ الاِرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى
انّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الاَشياء وإبداعها في عالم الوجود، تعلّقت
أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت، وتطهيرهم من كل رجس وقذر، ومن كل عمل يستنفر منه،
وإليك تلك القرائن:
1- انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت، والخصوصية
إنّما تتحقّق لو كانت الاِرادة تكوينية، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون
طائفة، لاَنّ الهدف الاَسمى من بعث الاَنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس
عامة لا لا َُناس معيّنين، ولاَجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء
والغسل بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً
فَاطَّهَّرُوا...﴾ علّله بقوله: ﴿وَلَكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾12 خاطب سبحانه الموَمنين عامة
بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية
التي نحن بصددها، فإنّـها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة "أهل البيت"
وخصّهم بالخطاب وقال: "عنكم أهل البيت" أي لا غيركم.
وبالجملة فتخصيص تعلّق الاِرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية، يمنع من تفسير
الاِرادة بالاِرادة التشريعية التي عمّت الا َُمّة جميعاً.
نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع، بل التشريع في كل
المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.
2- انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالاِرادة،
الاِرادة التكوينية لا التشريعية، لوضوح أنّ تعلّق الاِرادة التشريعية بأهل البيت
لا يحتاج إلى العناية في الآية، وإليك بيان تلك العناية:
- ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر، ولا معنى له إذا كانت الاِرادة تشريعية، لاَنّها
غير محصورة بأُناس مخصوصين.
ب- عيّـن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص، فقال: ﴿أهل البيت﴾ أي أخصّكم أهل
البيت.
ج- قد بيّـن متعلّق إرادته بالتأكيد، وقال بعد قوله: ﴿ليذهب عنكم الرجس ...
ويطهركم﴾ .
د- قد أكّده أيضاً بالاِتيان بمصدره بعد الفعل، وقال: ﴿ويطهّركم تطهير﴾ ليكون
أوفى في التأكيد.
هـ- انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة، ليدل على الاِكبار والاِعجاب، أي تطهيراً عظيماً
معجباً.
و- انّ الآية في مقام المدح والثناء، فلو كانت الاِرادة إرادة تشريعية لما ناسب
الثناء والمدح.
وعلى الجملة: العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الاِرادة هناك غير
الاِرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد، ولاَجل ذلك فإنّ المحقّقين من
المفسرين يفسرون الاِرادة في المقام بالاِرادة التكوينية ويجيبون عن كل سوَال يطرح
عنها.
قال الشيخ الطبرسي: إنّ لفظة ﴿إنّم﴾ محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت،
فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم، وإنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس عنده
سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد، وعلى هذا فلا تخلو الاِرادة في الآية أن تكون هي
الاِرادة المحضة التشريعية، أو الاِرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس؛ ولا
يجوز الوجه الاَوّل، لاَنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الاِرادة المطلقة،
فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولاَنّ هذا القول يقتضي المدح والتعظيم
لهم بغير شك وشبهة ولا مدح في الاِرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته
ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح.13
وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية: إنّ
لفظة ﴿إنّم﴾ محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل إنّما لك
عندي درهم، وإنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار
سوى زيد، إذا تقرر هذا فلا تخلو الاِرادة في الآية أن تكون هي الاِرادة المطلقة أو
الاِرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس، فلا يجوز الوجه الاَوّل، لاَنّ اللّه
تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الاِرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون
سائر الخلق. وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا شبهة ولا مدح في
الاِرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من
جميع القبائح، لاَنّ اللام في الرجس للجنس، ونفي الماهية نفي لكل جزئياتها، وقد
علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته، فثبت
أنّ الآية مختصة بهم، لبطلان تعلّقها بغيرهم. وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية
وما بعدها في الاَزواج، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم واسلوب
البلغاء والفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد، وهو خروج
المتكلم من غرضه الاَوّل إلى غرض آخر ثم عوده إلى غرضه الاَوّل، واتفقت كلمة أهل
البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب
البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك.14
أسئلة وأجوبة
قد تعرفت على مفاد الآية: واتضح لديك انّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدل بوضوح
على أنّ الاِرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت وإذهاب
الرجس عنهم، ويكون وزان الاِرادة فيها وزان الاِرادة الواردة في الآيات التالية
ونظائرها:
1- ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ .15
2- ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ﴾ .16
3- ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .17
وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بد من الاِجابة عليها:
السوَال الاَوّل: هل الاِرادة التشريعيّة تتعلَّق بفعل الغير؟
هل يصح تعريف الاِرادة التشريعية بالاِرادة المتعلّقة بفعل الغير، كتكليفه سبحانه
عباده بالصلاة والزكاة، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي؟ وإذا كانت
الاِرادة التشريعية عبارة عمّـا ذكر، فتكون الاِرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها
بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات والاَرض، وإرادة غيره بالاَكل
والشرب ؟
الجواب: انّ تعريف الاِرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً، لكن تعريف التشريعية
منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً، وذلك لاَنّ الاِرادة لا تتعلّق إلاّ بأمر
اختياري وهو فعل المريد، وأمّا فعل الشخص الآخر، فهو بما انّه خارج عن اختيار
المريد، لا تتعلّق به إرادته، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ
صدوره منه تابع لاِرادة ذلك الغير وليس تابعاً لاِرادة المريد الآخر ؟
وإن شئت قلت: إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر، فلو أراده لقام به.
ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة
الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر، لاَنّ
المفروض انّ الفاعل بعد، فاعل مختار، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله، إرادة الغير
الجدية، لاَنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله، ويوجد
بإرادته وينتفي بانتفائه، مع أنّه ليس كذلك وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر
وينتفي بانتفاء إرادته، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ولاَجل ذلك
كثيراً ما يعصى ويخالف.
وفي الجملة: ليست ماهية الاِرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الاِرادة التكوينية،
بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية، والجميع يتعلّق بفعل نفس
المريد، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار، وهو في التكوينية، عبارة عن
الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة، كالتكوين والتصنيع، سواء كان المريد هو اللّه
سبحانه أم أحد عباده القادرين على الاَفعال الخارجية باقداره، ولكنّه في التشريعية
عبارة عن نفس الطلب والاِنشاء بالاِيماء والاِشارة واللفظ والكتابة، وهو أيضاً فعل
المريد الواقع في اختياره، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد
ومقاصده وأغراضه، وهي تترتب تارة، وتنفك أُخرى، فلو تكونت في نفسه مبادىَ الخوف
والرجال لقام به وإلاّ فلا يقوم به ولا تتحقّق الغاية لكن تتم عليه الحجة.
وعلى ذلك فما اشتهر على الاَلسن من أنّ الاِرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة
الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها.
والذي يوضح ذلك: انّ إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً
بـ "كن" ولا يتحقّق، ولسعة قدرته وعموميتها، قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾18، فلو تعلّقت إرادته بفعل
العباد كالصلاة والصوم لما انفك عنهم ولو تعلّقت على إيمانهم وهدايتهم، لما وجد على
أديم الاَرض عاص ومتمرد، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾19، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين
في قبول الهداية، ومضطرين إلى الطاعة، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة، وهذا يعرب
بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع وهو التشريع، وهو
بعد غير منفك عن إرادته، موجود معها.
السوَال الثاني: هل الاِرادة التكوينيّة توجب سلب الاختيار؟
لو كانت الاِرادة في المقام إرادة تكوينية فبما انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن
المراد فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف، وهذا
لا يعد فضيلة وثناء لاَهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم.
وقد أجاب عنه المحقّقون على وجه الاِجمال وقالوا: إنّ القدرة والتمكّن من فعل
المعصية ثابت للمعصوم، والعصمة مانع شرعي، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية
والقدرة الذاتية، وهذا الجواب بإجماله كاف لاَهل التحقيق ولكن يحتاج إلى إيضاح،
فنقول: إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال
العباد، والاِمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر
والاختيار.
وبعبارة أُخرى: هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم
وإرادتهم، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم،
فالجبر لازم القول الثاني، والاختيار نتيجة القول الاَوّل، والحق هو القول الاَوّل
فنقول في توضيحه: إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية ـ كما هو منصوص الآيات
ومقتضى البراهين ـ هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم
لغيرهم لا يخرج عن إطار الاِرادة التكوينية للّه سبحانه، ولا يقع شيء في الكون إلاّ
بإرادته وإذنه سبحانه، قال تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ﴾20، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة
على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الاِرادة التكوينية للّه
وإلاّ لزم أن يكون الاِنسان أو الفواعل الا َُخر مستقلة في الفعل والتأثير، وهو
يستلزم الاستقلال في الذات، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الاَفعال والخالقية.
ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم، لاَنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت
بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول
مشيئتهم، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الاَمرين.
وعلى ذلك فاللّه سبحانه وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالاِرادة التكوينية ولكن تلك
الاِرادة تعلّقت بها، لما علم سبحانه انّهم بما زودوا من إمكانات ذاتية ومواهب
مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادىَ الاِسلام، لا يريدون إلاّ ما شرّع لهم سبحانه من
أحكام، فهم لا يشاءون إلاّ ما يشاء اللّه، وعند ذلك صح له سبحانه أن يخبر بأنّه
أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم، لاَنّهم ﴿عليهم السلام﴾ ما داموا لا يريدون
لاَنفسهم إلاّ الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلاّ هذا النوع من الوصف.
وحصيلة الكلام: انّ مبنى الاِشكال هو الغفلة عن كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال
العباد حيث توهّم المستشكل:
أوّلاً: انّ أفعال العباد خارجة عن إطار الاِرادة التكوينية للّه سبحانه، وغفل عن
أنّ هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك ويصادم التوحيد.
وثانياً: انّ سبق الاِرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم،
وغفل عن أنّ إرادته سبحانه انّما تتعلّق بتوسط إرادة العباد واختيارهم، فهم إذا
أرادوا لاَنفسهم شيئاً، فاللّه سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكويناً، وليس في ذلك
أيّة رائحة للجبر، بل هو الاَمر بين الاَمرين.
وعندئذ يكون المراد من تطهيرهم ـ بعد تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد والعمل،
وإعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحق في مجال الاعتقاد والعمل ـ تعلّق إرادته
التكوينية بطهارتهم من الذنوب، لاَجل تعلّق إرادتهم بذلك، فقد تعلّقت إرادته سبحانه
بتنزيههم عن طريق إرادتهم واختيارهم، وأين هذا من الجبر ؟
تفسير آخر للاِرادة بالتكوينية
ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، جواب عام سار في جميع
الموارد ورافع للاِشكال في مجال الجبر، وانّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار،
هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه: هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار،
باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد، أم لا ؟ لاَنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم
عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم، فلو صدرت عنهم بلا هذه
الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.
ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته
سبحانه، وانّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم، وهو كما ترى، لاَنّه يستلزم تحقّق
شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء
كل ما في عالم الاِمكان إلى وجوده وخالقيته، وبالتالي إلى إرادته، فإخراج أفعال
العباد عن مجال إرادة اللّه، يخالف الا َُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها
العقل.
إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر
يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.
وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها، فنقول: إنّ حقيقة العصمة
ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الاِنسان
عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.
وإن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد
الاِنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم، كالاِنسان الواقف أمام الاَسلاك التي
يجري فيها التيار الكهربائي، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.
وبعبارة ثالثة: العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير
حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق، والعشق لجماله، وكماله، بحيث لا يستبدل
برضاه شيئاً.
فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها، فليس اتصاف الاِنسان بهذه
الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار، بل المعصوم مع هذه المواهب الاِلهية قادر
على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير انّه لاَجل حصوله على الدرجة العليا من
التقوى، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق،
يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم
على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة.
إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في
البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه،
ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.
فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات،
ومعدّات لقرب العبد من ربّه، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان،
إرادته واختياره، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه
عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة ومعدات للاِرادة، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم
وإرادته باقيان على حالهما.
فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان، بل معناه
تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في مكامن نفوسهم وتحليتهم
بهذه الحلية الاِلهية، ولكن هذا الجعل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الاَيدي
أمام التكاليف ومسوقين إلى جانب واحد، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو
المفاض من اللّه سبحانه على هذه الشخصيات فتخيل: "انّ المفاض هو العصمة المفسرة
بترك المعصية ونفس الطاعة" غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا
النفسانية عليهم، وهي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع
القدرة على الخلاف.
نعم: لو كان هناك جبر، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الاِلهية، ولكنّهم
معها مختارون في التوجه، لاَي طرف أرادوا، وإن كانوا لا يشاءون إلاّ الطاعة وترك
المعصية.
ما هو الوجه لتفسير الاِرادة بالتشريعية؟
ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الاِرادة تشريعية احتالوا في توجيهها يقول
المفسر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد: إنّه سبحانه يجعل تلك الاَوامر ـ الاَوامر
الواقعة قبل الآية من قوله: ﴿وقرن... ولا تبرجن﴾ ـ وسيلة لاِذهاب الرجس وتطهير
البيت، فالتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع
الحياة العملي... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بداها، بتذكيرهنّ بعلو
مكانتهنّ وامتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللّه وبما أنعم اللّه عليهنّ
فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والاِيمان، وانّه لحظ
عظيم يكفي التذكّر به لتحس النفس جلالة قدره ولطيف صنع اللّه فيه وجزالة النعمة
التي لا يعد لها نعيم.21
وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي، وانّه سبحانه علّل خطاباته
لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ، ويكون المعنى انّ التشديد في
التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به، بل لاِذهاب الرجس
عنكنّ وتطهيركنّ.
ولا يخفى انّ ما ورد في الآيات من الاَحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي ﴿صلى
الله عليه وآله وسلم﴾، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير: ﴿وَقَرْنَ فِي
بُيْوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الاَُوْلَى وَأَقِمْنَ
الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾ .22
وهذا قوله سبحانه بعد الآية: ﴿واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة...﴾
كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل
وإذهاب الرجس عن عموم النساء، لا عن زوجات النبي خاصة، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ
بالخطاب بالعناية التي عرفت.
وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب، لاَجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء
النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم﴾، فاحتالوا لتفسير الاِرادة بما ذكره سيد قطب
ونظراوَه، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع أنّه
سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها،
وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها، والاَحاديث بكثرتها البالغة
ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي ﴿صلى الله عليه
وآله وسلم﴾، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول
إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.
فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، ولا متصلة بها، وستوافيك الروايات
الكثيرة الواردة في هذا المضمار.
السوَال الثالث: هل العصمة الموهوبة مفخرة؟
وهذا سوَال ثالث يتردد في المقام وفي غيره، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه
الاِطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر، وهو انّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من
اللّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لاَهله ؟
والاِجابة عن هذا السوَال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم، وقد عرفت
أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار
عنهم وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والاِبرام، والسائل تخيل انّ
العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعد فخراً
ولا يوجب ثناءً، وقد أوضحنا هذا في السوَال السابق، فراجع.
السوَال الرابع: هل الآية تدل على فعلية التطهير؟
وربّما يقال: إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب
الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم، وليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الاِرادة بالفعل،
وانّـها صدرت منه سبحانه، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على
اتصافهم بالعصمة، وفي هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن
المخالف ويقول: ﴿يريد﴾ لفظ مستقبل، فلا دليل على وقوعه.23
ولا يخفى أنّ هذا الاِشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت بشهادة انّ
هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الاِشكال قال
سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ﴾24، وقال: ﴿وَاللّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾25، وقال: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾26، وقال:
﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾27، أضف إلى ذلك انّ هناك قرينة
واضحة على تحقّق الاِرادة بشهادة انّ الآية في مقام المدح والثناء.
وأمّا الاِتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي، فهو لاَجل ظهور فعل المستقبل في
الدوام، وهو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الاِرادة واستمرارها مدى الاَيام والسنين.
السوَال الخامس: هل الاِذهاب يستلزم الثبوت؟
خلاصة هذا السوَال ترجع إلى أنّ الاِذهاب يتعلّق بشيء موجود، فعلى ذلك يستلزم أن
يكون هناك رجس موجود أذهبه اللّه وطهرهم منه، وهذا يضاد مقالة أهل العصمة، ولكن
السائل أو المعترض غفل عن أنّ هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود،
كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً، ولكن كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب
الطبيعة الاِنسانية وإن لم يكن موجوداً بالفعل كقول الاِنسان لغيره: أذهبَ اللّه
عنك كل مرض، ولم يكن
حاصلاً له، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.
وفي المقام نزيد توضيحاً: انّ الاِنسان حسب الطبيعة الاَوّلية مجهّز بالغرائز
والميول العادية المتجاوزة عن الحدود، ولم يشذ أهل البيت عنها ولم تكن لهم في
العالم الجسماني خلقة خاصة بهم، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدي والطغيان، فلمّا
جهّزوا بهذه الغرائز أوّلاً، ثم بالعصمة ـ بالمعنى الذي عرفت ـ ثانياً صح أن يقال:
إنّه سبحانه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً من العصيان.
1- معجم مقاييس اللغة: 2-490.
2- لسان العرب: 6-94 ـ 95، مادة "رجس".
3- المائدة: 90.
4- الاَنعام: 145.
5- الاَنعام: 125.
6- آل عمران: 42.
7- التوبة: 108.
8- التوبة: 125.
9- الاَنعام: 125.
10- الميزان: 16-330.
11- يس: 82.
12- المائدة: 6.
13- مجمع البيان: 4-357 تفسير سورة الاَحزاب؛ وقريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في
تبيانه: 8-340.
14- رياض السالكين: 497، الروضة السابعة والاَربعون، وقد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب
منه.
15- القصص: 5.
16- الاَنفال: 7.
17- المائدة: 41.
18- يس: 82.
19- الاَنعام: 35.
20- الحشر: 5.
21- في ظلال القرآن، في تفسير سورة الاَحزاب.
22- الاَحزاب: 33.
23- الصراط المستقيم: 1-184.
24- النساء: 26.
25- النساء: 27.
26- النساء: 28.
27- النساء: 26.
|