إبتغاء مرضاة اللّه تعالى
الاِنسان الكامل هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلاّ لابتغاء مرضاة اللّه تبارك و تعالى، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلى مكان تفنى فيه كلّالدوافع والحوافز إلاّ داع واحد و هو طلب رضى اللّه تبارك و تعالى، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الاِنساني، وربَّما يبلغ الاِنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع مالم يقع، أو عدم ما وقع، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته:
وبـهجة بـما قضى اللّه رضا وذو الرضا بما قضى ما اعترضا
اعـظم باب اللّه، الرضا وُعي1 وخـازن الـجنة رضـواناً دُعي
فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى وذا ن سيّان لـصاحـب الرضـا
عـن عارف عمّر سبعين سنة إن لـم يقـل رأسـاً لاَشيا كائنة
يـا ليت لم تقع ولا لما ارتفع مـماّ هـو الـمرغوب ليته وقع2
وممَّن يمثل ذلك المقام في الاَُمّة الاِسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين علي أمير الموَمنين عليه السلام فهو في عامة مواقفه في جهاده و نضاله، وعزلته وقعوده في بيته، وفي تسنّمه على منصَّة الخلافة بإصرار من الاَُمّة، فهو في كلّهذه الاَحوال والمواقف، لا همّ له إلاّ طلب رضوانه تعالى.
و قد صرح الاِمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة، فقال:"أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لاَلقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولاَلفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ".3
وقد تجلت هذه الخصلة في علي عليه السلام حين مبيته في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
روى المحدّثون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الهجرة خلّف علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة لقضاء ديونه و ردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقال ص له: يا علي اتَّشح ببردي الحضرمي الاَخضر، ثمّ نم على فراشي، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه، إن شاء اللّه عزّوجلّ، ففعل ذلك عليه السلام فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيّكما يوَثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة، فأوحى اللّه عزّوجلّ إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّد ص فنام على فراشه يفديه بنفسه ويوَثره بالحياة، اهبطا إلى الاَرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه.
فقال جبرئيل: بخ بخ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي اللّه بك الملائكة، فأنزل اللّه تعالى على رسوله ص و هو متوجِّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه﴾.4
وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ علي عليه السلام.
وقال ابن عباس: أنشدني أمير الموَمنين شعراً قاله في تلك الليلة:
وقـيت بنفسي من وطىَ الحصا وأكـرم خـلق طاف بالبيت والحجر
وبـتَّ أراعي منهم ما يسوءني وقد صَّبرت نفسي على القتل والاَسر
وبات رسول اللّه في الغار آمناً ومـازال فـي حفظ الاِله وفي الستر5
وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسان بن ثابت في شعره عند مدح علي عليه السلام:
مـن ذا بـخاتمه تصدَّق راكعا و أسرّها في نفسه إسرارا
من كان بات على فراش محمّد ومـحمد اسرى يوَم الغارا
مـن كـان فـي القرآن سمّي في تسع آيات تلين غزارا6
محاولة طمس الحقيقة لولا...
إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الاِسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الاِمام علي عليه السلام
وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداءو البذل و الاِيثار، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات، كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها.7
إنّ هذه الحقيقة ممّا لا ينسي أبداً، فانّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلاّ أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاَوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.
إنّ معاداة معاوية لاَهل بيت النبوة وبخاصة للاِمام أمير الموَمنين علي عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.
فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعةويخفي حقائقه بوضع الاَكاذيب، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.
فقد عمد"سمرة بن جندب" الذي أدرك عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاته ص إلى بلاط معاوية بالشام، عمد إلى تحريف الحقائق لغاية أموال أخذها من الجهاز الاَموي، الحاقد على أهل البيت.
فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الاَُكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفضيع الذي أهلك به دينه، مائة ألف درهم.
فلم يقبل "سمرة" بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك، فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوَّداً بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.
وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً انّ (عبد الرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ؟!
ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن أن تُنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.
فقد زالت حكومة معاوية و زال معها أعوانها، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشوَوم، و طلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى، واعترف أغلبُالمفسرين الاَجلّة والمحدّثين الاَفاضل ـ في العصور والاَدوار المختلفة ـ بأنّ الآية المذكورة نزلت في "ليلة المبيت" في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه.
1- إشارة إلى ما روي انّ الرضا باب اللّه الاَعظم.
2- شرح منظومة السبزواري:352.
3- نهج البلاغة:الخطبة 3.
4- البقرة: 207.
5- شواهد التنزيل: 1-130؛ أُسد الغابة:4-25.
6- سبط ابن الجوزى: تذكرة الخواصّ: 25، ط عام 1401هـ.
7- الغدير:2-48. |