حوادث
السنة العاشرة من الهجرة: في رثاء الولدِ العزيز
"يا إبراهيم إنّا لَن نُغِنيَ عنكَ مِن اللّه شيئاً إنّا بِك لمحزُونُون تبكي
العين ويحزن القلب ولا نقُولُ ما يُسخِطُ الربَّ، ولولا أنَّهُ وعد صادِق وموعُود
جامِع فانّ الآخِرَ منّا يتبعُ الأولَ لوجَدنا عليكَ يا إبراهيم وجداً شدِيداً ما
وجدناهُ"1.
هذه العبارات قالها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في رثاء ولدهِ العزيز
"إبراهيم" في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم،
وبينما كان الوالد العظيم واضعاً شفتيه على خدّ ابنه، ويودّعه بروح ملؤها المشاعرُ
والعواطفُ، من جانب، وراضية بالتقدير الإلهي.
إنَ حبَّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجليات الروح الانسانية، كما انه خير دليل
على سلامة الروح ولطافتها.
لقد كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول دائماً: "اكرمُوا أولادَكُم"2
وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودَّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم
أخلاقه ومحاسن سجاياه3.
ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبيُّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله مصيبة
افتقاد ثلاثة من أولاده هم: "القاسِم والطاهر، والطيب"4 وثلاث من بناته
وهن: "زينب" و"رقيّة" و"اُم كلثوم" ولقد حزن لفقدهم حزناً شديداً وكانت "فاطمة" هي
البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.
لقد بعثَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى
البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الأمراء
والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام، وإلى عقيدة التوحيد، وهذا
الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر، ولم يقبل دعوته إلا أنه اجاب على كتاب
النبي باجابة حسنة مضافاً إلى أنه أرسلَ اليه صلّى اللّه عليه وآله هدايا منها
جارية تدعى "مارية".
ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها وولدت له إبناً سماه
"إبراهيم" أحبَّه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله حبّاً شديداً.
ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة، واشعَلَت في نفس النبي صلّى اللّه
عليه وآله بصيصاً من الأمل، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر
شهراً، وانطفأ.
لقد خرج رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بيته ذات يوم لعمل، وعندما عرف بتدهور
خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد "إبراهيم" عاد من فوره الى منزله، واخذ ابنه من حضن
اُمه، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.
إن حزن النبي صلّى اللّه عليه وآله وبكاءه في موت ابنه "إبراهيم" دليل حيّ على
عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب، وإن إظهار تلك
العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلَّ تجنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله التكلم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير
الالهيّ الذي لا مفرَّ لأحد منه.
إعتراض غير وجيه:
استغرب عبد الرحمان بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده "إبراهيم"، فاعترض على
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: أوَلم تكن نهيتَ عن البكاء، وانت تبكي ؟
إن هذا المعترض لم يكن جاهلاً بمبادئ الاسلام وقواعده الرفيعة فحسب، بل كان غافلاً
حتى عن العواطف والمشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضاً.
إن جميع الغرائز الانسانية خُلِقَت في الكيان البشري لأهداف خاصة ويجب ان يتجلى كل
واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم، فالشخصُ الذي لا يحزن لفقد أحبّائه
وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم، ولا تدمع عيناه لذلك، وبالتالي إذا لم يُظِهر من نفسه
أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر، ولا يستحق إسم الانسانية.
ولكن ثمة نقطة مهّمة وجديرة بالانتباه، وهي أنَّ هذا الإعتراض وان كان اعتراضاً غير
موجَّه، إلا أنه يكشف عن وُجود حرية كاملة، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي
الحديث التأسيس إلى درجة أنَّ شخصاً عاديّاً من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده
بمطلق الحريّة ومن دون خوف اَو وجَل، وسمع الجواب.
ومن هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: "لا، إنّما هذا رَحمة، ومن
لا يرحم لا يُرحَم"5.
او قال: "لا، ولكن نَهيتُ عن خمش وجوه وشقِّ جيوب ورنة شيطان"6.
ولقد كلّفَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب7
بتجهيز "إبراهيم" وغسله وكفنه وتحنيطه، ثم إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله
شيّعه مع جماعة من أصحابه، ومضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.
ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وآله رأى في قبر "إبراهيم" خللاً فسّواه بيده ثم قال:
"إذا عَمِل أحدُكُم عملاً فليُتقِن"8.
مكافحة الخرافات:
عندما مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله انكسفت الشمسُ
فتصوّرَ البعضُ ممن جهل سننَ الطبيعة وقوانينَ العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفَت
لموت إبراهيم.
ولا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل وان كان قضية خيالية ووهماً سخيفاً إلا أنه كان
من شأنه أن ينفع النبي، ويعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.
ولو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قائداً عادياً وماديّاً لكان من الجائز
أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.
ولكن النبي صلّى اللّه عليه وآله على عكس هذا التوقّع رقى المنبر، وأطلّعَ الناسَ
على حقيقة الأمر وقال: "أيّها الناس إن الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللّه
تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"9.
إن النبي الكريم صلّى اللّه عليه وآله على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين
لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم، واستخدامها لمآربهم، بل طالما يحاولون
استغلال جهل الناس ونزعهم إلى الخرافات لصالحهم.
إنَّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة، ولم يستفد من جهل الناس
وغفلتهم لصالح نفسه.
ولو أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان يُسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه
الفكرة الباطلة وهذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسَه قائداً خالداً للبشرية
ورسولاً مختاراً من جانب خالق الطبيعة، والمؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ، في
العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة، واتضحت فيه قوانين العالم
الماديّ ونواميسه، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من تفاعلات الطبيعة.
إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضعُ لحدود زمانية أو
مكانية، فلو أنه كان نبي الاقوام والاجيال الغابرة، فهو كذلك نبيُّ عصر الفضاء،
وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.
إن احاديث هذا النبي العظيم، وكلماته من القوة، والمتانة ومن الصحة، والاتصاف
بالواقعية بحيث لم يتطرق اليها أيُّ إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي
قلبت كثيراً من معارف البشر القديمة رأساً على عقب.
1- السيرة الحلبية: ج 3 ص 311
بحار الأنوار: ج 22 ص 157.
2- بحار الأنوار: ج 104 ص 95 عن مكارم الاخلاق.
3- المحجة البيضاء: ج 3 ص 366.
4- بحار الأنوار: ج 22 ص 166، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا: أولاده الذكور من خديجة
اثنان فقط راجع ج 22 ص 151 من بحار الأنوار.
5- بحار الأنوار: ج 22 ص 151.
6- السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و311.
7- بحار الأنوار: ج 22 ص 156، وروي في السيرة الحلبية ان رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله كلّف الفضل بن العباس (ابن عم النبي) بتجهيز إبراهيم.
8- بحار الأنوار: ج 22 ص 157.
9- المحاسن: ص 313، السيرة الحلبية: ج 3 ص 310 و311.