تأريخ المباهلة عاماً وشهراً
ويوماً
إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في
كتب التفسير، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصَّلة لمناسبة واُخرى، وتتلخصُ هذه
القصة فيما يلي:
لقد كتبَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- يوم راسلَ ملوك العالم وامراءه يدعوهم
الى الاسلام- كتب كتاباً الى اسقف نجران "ابو حارثة" دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام
ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله شاور جماعة من اصحابه،
فأشاروا عليه بأن يَبعثوا وفداً يمثلون أهل نجران إلى المدينة، ليتفاوضوا مع رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن كثب.
وفعلاً قدم الوفد المذكور المدينة، والتقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبعد
مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله على ذلك الوفد
المباهلة بأمر اللّه سبحانه، بأن يخرج الجميع (الطرفان) إلى الصحراء، ويدعُو كلُ
واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله،
ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله
من حالة معنوية، وروحانية عظيمة، حيث أن رسول اللّه صلّى اللّه وآله اصطحب معه إلى
المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته وأعزته، وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة
الحكومة الاسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية (وهي مبلغ ضئيل).
هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها وإخفاءها أي مفسِّر أو مؤرخ على
النحو الذي ذكر، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعت هذه الحادثةُ
الاسلامية الكبرى.
عام المباهلة حسب المشهور
يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد: لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصُّلح
كتب سنة عشرة من الهجرة، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضاً، لان كتاب الصلح
هذا انما كتب عندما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلّى اللّه عليه
وآله.
وقد ادرج نصُّ كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش1.
الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة
إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي
الحجة، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك
الشهر، وروى في كتابه دعاء خاصاً في هذه المناسبة2.
واما المرحوم السيّد ابن طاووس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالاً ثلاثة، وذكر بأن
أصح تلك الأقوال والروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر
ذي الحجة، وقد ذهب البعض إلى أنه اليومُ الواحد والعشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه
اليوم السابع والعشرون3.
ثم انه رحمه اللّه روى في آخر كتابه4 قصة المباهلة
بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلَّف آخر، ونوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست
من الكتابين التاليين
1- كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمَّد بن عبد المطلب الشيباني5.
2- كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس6.
إلى هنا اتضح ان يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الواحد
العشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجة.
وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة.
إن خلاصة القول هي أنَّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا توافق النقول
التاريخية الاُخرى التي يتسم بعضُها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد، واليك ادلتنا على
ذلك فيما يلي:
رأينا حول عام المباهلة
لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الى اُسقف نجران
عبارة: "وإن أبيتم فالجزية"، وقد جاءت لفظةُ الجزية في القرآن الكريم في سورة
التوبة والظاهر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله استخدم هذه الجملة واللفظة في
الكتاب المذكور اتباعاً للآية المذكورة، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك
بقليل، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.
وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتاباً، بعثوا بجوابه
إليه صلّى اللّه عليه وآله بعد عام ونصف العام على يد وفدهِم.
إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعَت في السنة العاشرة من
الهجرة.
2- اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعث عليّاً عليه
السَّلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الاحكام الدينية، وقد مكث علي عليه السَّلام هناك
ردحاً من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة اليه، وعندما علم بتوجه النبي صلّى اللّه
عليه وآله الى مكة للحج، خرج هو أيضاً إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن، فلقي
النبيّ بمكة، وقدَّم اليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية
التي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح7.
إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة
العاشرة من الهجرة، وذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله في كل سنة ألفي حلة (مخيَّطة وغير مخيّطة)، الف حلة
منها في شهر رجب، والف حلة اُخرى في شهر صفر8.
فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو
شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.
لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح، وتنفيذها بواسطة الامام علي عليه
السَّلام قد تمّا معاً في السنة العاشرة.
وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح، امكن في
هذه الصورة أن يكون عقدُ الصلح قد تمَّ في السنة العاشرة، ولكن يجب أن نُرجع تاريخ
كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام علياً عليه السَّلام قد استلم
أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.
والخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية (وهي أن الامام علياً استلم القسط
الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله في مكة في شهر ذي الحجّة) وجب أن نختار احد القولين التاليين:
أ- إذا سلّمنا بان يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن
المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.
ب- إذا ترددنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامِه، أمكن في هذه
الصورة ان نقول بان يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل
شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.
زمن المباهلة يوماً وشهراً
إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة
حتماً، إلا في صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللذين تمت فيهما
كتابة وثيقة الصلح.
وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الاحداث
والوقائع التاريخية، فنقول: إن الشهر واليوم اللَّذين وقعت فيهما قضية المباهلة
هما- حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا- شهر ذي الحجة واليوم الرابع والعشرون
أو الخامس والعشرون، وعلى قول: الحادي والعشرون، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.
والآن يجب أن نرى هل تنطبقُ هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم
لا؟
إن الدراسة التالية تثبتُ لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في
شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقاً، لأنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد
توجَّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وفي اليوم
الثامن عشر من هذا الشهر (وهو يوم الغدير) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن
الجحفة9 بميلين10، علياً خليفة على المسلمين من بعده.
ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولُها في يوم واحد ليتابع النبي سفرَه
الى المدينة فوراً لأن النبي- بشهادة التاريخ- أمر بعد نصب عليّ عليه السَّلام
للخلافة أن يجلس علي في خيمة، وان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة،
ويهنئونه بالخلافة والإمرة وقد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي
الحجة، وقد هَنّأت "اُمهاتُ المؤمنين" علياً عليه السَّلام في نهاية مراسيم التهنئة11.
من هنا لا يمكن القول بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله غادر ارض غدير خم في
اليوم التاسع عشر، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين
والمصريين والعراقيين، وبناء على هذا لا بدَّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي
كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودَّعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولا شك
أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أرض الغدير
مدة أطول.
وحتى لو فرضنا- افتراضاً- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله توجه نحو المدينة في
اليوم التاسع عشر، فهل يمكن ان نقول- في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول
مقدار طيّ هذه المسافة- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قدم المدينةَ في اليوم
الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين، واخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة
الصلح بينه وبين أهل نجران؟، كلاً حتماً، لأن المسافة بين مكة والجحفة كما ذكرنا في
الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة والمدينة.
ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرقُ من الزمن مجموع سفر القوافل- آنذاك- من مكة
المكرمة الى المدينة المنورة؟
لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلا حديث سفر النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله
نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول: إِنّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام12.
كما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوماً13.
وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبي صلّى اللّه عليه وآله قطع المسافة
المذكورة في الرحلة الاُولى برفقة شخصين، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية
بصحبة جيش قوامُه عشرة آلاف رجل، ومن الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية
بصورة اكثر بُطؤاً.
ولنفترض أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله غادر أرض "غدير خم" في اليوم التاسع
عشر، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياساً لتقييمنا وجب أن نقول أن رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام لأن
المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة والمدينة، وبالتالي دخل المدينة في
اليوم الرابع والعشرين.
واذا اعتبرنا الثاني (أي احد عشر يوماً) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة
(أي بين الجحفة والمدينة) في سبعة ايام ونصف اليوم، فيكون- حسب القاعدة- قد قدم
المدينة في اليوم السادس والعشرين حوالي الظهر منه.
فهل يمكن القول- في ضوء هذه المحاسبة- بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع
والعشرين أو الخامس والعشرين او السابع والعشرين.
إن بطلان هذا القول، وخلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا
بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل
ووقَّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبي صلّى اللّه عليه وآله، تحت شروط خاصة.
فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثياباً راقية من الديباج
والحرير، وفي أيديهم خواتيم من ذهب، وعلى صدورهم صلبان من ذهب، وتوجه فور قدومهم-
وعلى هذه الهيئة- إلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله ولكن النبي واجههم بالكره
بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.
فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيء وتفرق أعضاء الوفد، وهم في حيرة من موقف النبي
صلّى اللّه عليه وآله فالتقى الوفد علياً عليه السَّلام وسألوه عن سبب استياء النبي
واعراضه عنهم، فأخبرهم الامام علي عليه السَّلام بأن عليهم أن ينزعوا تلك الثياب
والحليّ عنهم، ويدخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بثياب عادية حتى يرتاح
اليهم النبيُّ ويستقبلهم بوجه منبسط.
فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبي صلّى اللّه عليه وآله ثانية ولكن بثياب عادية
خالية عن الزينة والحليّ، فاستقبلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ببشاشة خاصة،
ورحّب بهم ترحيباً كبيراً، ثم سألوا النبي صلّى اللّه عليه وآله أن يؤدوا صلاتهم في
المسجد، فأذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك، ثم دخلوا مع النبي صلّى
اللّه عليه وآله في مناظرات ومناقشات مفصّلة، وبعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر
المفسرين والمؤرخين ومنهم ابن هشام في سيرته14 اتفقوا على أن يحسموا
الأمر بالمباهلة، وحُدّدَ يوم المباهلة.
ولما كان ذلك خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء
وصهره عليّ بن أبي طالب، وسبطيه الحسن والحسين، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.
ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وما هم عليه من البساطة والجلال انصرفوا
عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله.
فهل هذه الوقائع التي استغرقت- كما يقول بعض المؤرخين- اربعة مجالس يمكن أن تكون قد
تمّت في يوم واحد؟
إن المحاسبات تقضي وتفيد بأن مراسيم المباهلة، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن
تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين، أو الخامس والعشرين أو
السابع والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.
هذا مضافاً إلى أن "نجران" مدينة حدودية بين الحجاز واليمن، ولا بد أن تردّد
القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله في مكة لاداء مناسك الحج، ولهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى
نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
قبل التأكُّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.
هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟
هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة، وقد
ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضاً15.
ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضاً بطلان هذا الرأي، وذلك لأن الامام علياً الذي
كان من الشاهدين لقضية المباهلة، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان
قد كلِّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة (التاسعة) من قِبَل النبي صلّى
اللّه عليه وآله بمهمة إبلاغ آيات البراءة- على المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى،
وفي الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد أنيطت امارة الحج وادارة امر الحجيج
إلى المسلمين، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميراً على الحج فيها.
ونحن نعلم أن مناسك الحج تنتهي في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة، ولا شك أن
شخصية بارزة ومسؤولة كالامام علي عليه السَّلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من
غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر ويتوجه الى المدينة وهو الذي
كانت له أقرباء وانسباء كثيرون في مكة، هذا مضافاً إلى أن حركة الحجيج لم تكن في
تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كلُّ واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء
والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجَّهوا بصورة
جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.
ولهذا فان عليّاً عليه السَّلام مهما اسرع وجدّ في السير قافلاً الى المدينة، وقطع
المسافة بين مكة والمدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل
اليوم الرابع والعشرين، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما
يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم، ويشهد المباهلة مع المتباهلين.
إن الشواهد والادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة (يوماً
وشهراً وعاماً) لا تحظى بالاعتبار الكافي، ولا بدَّ- لمعرفة زمن هذه الحادثة التي
هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث- من مزيد التحقيق، ومزيد الدراسة، والتقصّي.
وهنا يبقى سؤال لا بدَّ من الإجابة عليه وهو: كيف اختار المشهورون من العلماء مثل
هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها.
والجواب هو: أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استناداً الى رواية مسندة
نقلها في كتابه ولكن في سند الحديث المذكور رجالاً غير ثقات في نظر علماء الرجال،
نظراء:
1- محمَّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلعكبري في الحديث فهو ممن لم يوثَّق16.
2- الحسن بن علي العدويّ وقد ضعّفه العلامة17.
3- محمَّد بن صدقة العنبري وقد وصفه الشيخ الطوسي بالغلوّ18.
وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاووس في كتاب "الاقبال" اموراً تتعلق بالمباهلة نقلاً
عن كتاب أبي المفضل وقد ذكرنا في الهامش (ص 2073) أن ابا المفضل له فترتان في
حياته، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر، ولا يُدري في أي حال من الحالين كتب
أبو المفضل قضايا المباهلة، واخذها عنه العلماء.
كما ان السيّد استند في كتابه المذكور (ص 743) على حديث مرفوع (وهو ما فيه نقص في
رجال سنده)، وذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون على حين لا
تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.
1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 65،
الدر المنثور: ج 2 ص 38.
2- مصباح المتهجد: ص 704.
3- الإقبال: ص 743.
4- الاقبال: ص 743.
5- لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو
التالي: محمَّد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن بهلول بن الهمام بن
المطلب وعلى هذا الاساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده
الخامس. وينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمَّد بن عبد اللّه- حسب ما يرى النجاشي-
فترتين من الحياة، كان في إحداهما موثوقاً به، وفي الاُخرى غير موثوق به ولهذا
يقول: اجتنب الرواية عنه الا عندما يروي الثقات عنه ايام استقامته وصلاحه (راجع
فهرست النجاشي ص 281- 282).
6- جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الامامية وقد توفي عام
460 هجري وقد نقل احاديث المباهلة (راجع الذَّريعة ج 15 ص 344).
7- السيرة النبوية: ج 2 ص 602 و603، الارشاد: ص 89.
8- الطبقات الكبرى: ج 1 ص 348، والارشاد: ص 92.
9- "الجحفة" على وزن طُعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة وسبعة منازل من المدينة
وتبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريباً وتقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق
بين مكة والمدينة راجع كتاب التحرير للنووي والتهذيب له أيضاً، هذا ويقول الياقوت
الحموي في مراصد الاطلاع ص 109:
ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة وهي ميقات أهل مصر والشام، وتبعد عن
البحر بستة أميال، وعن غدير خم بميلين. وهي الآن تبعد عن مكة- حسب المقاييس
الحديثة- بمائتين وعشرين كيلو متراً ويقول المسعودي في كتابه "التنبيه والاشراف" ص
221- 222 أيضاً: أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة، وولد علي
رضي اللّه عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم.
10- الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع، والفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع وقيل: ان
الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع، والفرسخ عبارة عن اثني عشر الف ذراع، وعلى أيّة
حال فان الميل ثلث الفرسخ، وثلاثة اميال تعادل فرسخاً كاملاً (راجع القاموس مادة:
ميل).
11- جاء تفصيل مراسيم التهنئة في موسوعة الغدير: الجزء 1 ص 245- 257.
12- غادر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكة مهاجراً الى المدينة في الليلة
الرابعة من شهر ربيع، ووصل إلى محلة "قب" حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس
ذلك الشهر، وتدلّ القرائنُ على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قطع هذه المسافة
بسرعة بسبب ملاحقة قريش له (السيرة النبوية: ج 2 ص 399، الطبقات الكبرى: ج 1 ص
135).
13- بحار الأنوار: ج 22 ص 19.
14- السيرة النبوية: ج 2 ص 575، مجمع البيان: ج 1 ص 410.
15- جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير: في ج 6 ص 318- 321 هذا
الرأي من اثنين وسبعين شخصاً من علماء السنة، وكأن قضية المباهلة بين النبي ووفد
نجران وقعت في آخر هذه الستة (التاسعة)، لأنه ورد أن هذا الأمر قد تم في شهر ذي
الحجة بعد فتح مكة، ولا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع
وهي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة
على عام الغدير واستغرقت اربعة مجالس (بتخليص).
16- وان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.
17- تنقيح المقال: ج 1 ص 294.
18- رجال الشيخ الطوسي: ص 39.
|