تقييم البراءة من المشركين
وفود القبائل في المدينة
تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي عليه السَّلام في موسم الحج في
السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والتي أعلن فيها بصراحة
وبصورة رسمية ان اللّه ورسوله بريئان من المشركين والوثنيين، وأن على المشركين أن
يضعوا حدّاً لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا ويكفّوا عن عبادة الاصنام
ويهجروها، وإما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.
لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق والسريع، فقد ارتبكت القبائلُ
العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض
الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصر على المضي في عادتها الشنيعة،
والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الاصنام والأوثان.
لقد ارتبكت هذه القبائل، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية، فعمدت إلى إيفاد وفود
ومندوبين من جانبها الى المدينة عاصمة الإسلام، وقد دار بين كل واحد من هذه الوفود
وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حوار خاص.
وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى1 مواصفات وخصوصيات اثنين وسبعين
وفداً من تلك الوفود.
إن توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن
مشركي العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله، والا لكانوا يلجأون اليه، ويتظاهرون على رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله.
ولم تنته المدة المضروبةُ (اربعة أشهر) بعد إلا ودخلت كل مناطق الحجاز وكل أقوامها
تحت راية التوحيد، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام والاوثان ظاهراً حتى أن
فريقاً من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه
واعتنقوه.
محاولة اغتيال النبي
عُرفت قادةُ بني عامر من بين القبائل العربية- يومئذ- بالشر والطغيان، وقد اعتزم
ثلاثة اشخاص منهم هم: "عامر" و"أربد" و"جبار" على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني
عامر، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ثم يغدروا به في
المجلس ويغتالوه.
وكانت الخطة تقضي: بأن يتحدث "عامر" الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويفاوضه،
وفيما هو يفعل ذلك يبادر "أربد" الى ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بسيفه.
ولم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطتهم، ولهذا أعلنوا لرسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام، ووفائهم لشخص النبي صلّى اللّه
عليه وآله، ولكن "عامر" احجم عن أي نوع من انواع التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس
وكان يصرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه
على انفراد تمهيداً لتنفيذ الخطة المشؤومة وهو ينظر الى أربد وينتظر منه ما كان
أمره به واتفقا عليه، ولكنه لا يزداد نظراً إلى "اربد" إلا ويزداد "اربد" حيرة
ودهشة هذا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول لعامر كلما قال: خالِّني: لا
واللّه حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.
فلما أيس "عامر" من "اربد"، وكأنّ "اربد" كلما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله هاب النبي، ومنعته عظمته ومهابته، فانصرف عن نيته، قال
عامر وهو يترك مجلس النبي صلّى اللّه عليه وآله: أما واللّه لأملأنّها عليك خيلاً
ورجالاً وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.
فقابله رسول اللّه بحلم كبير، ولم يرد على كلامه وتهديده وانما اكتفى بأن دعا عليه
وعلى صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلّى اللّه عليه وآله.
ولقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعاً فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا
كانوا في اثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق "عامر" فقتله ذلك المرض الوبيء في
بيت امرأة من بني سلول في صورة فظيعة، وحالة سيئة.
وأما "اربد" فارسل اللّه عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فأحرقتهما، وقد تسببت
هاتان الحادثتان الفظيعتان اللتان أصابتا عدوَّين لدُودين من أعداء النبي صلّى
اللّه عليه وآله في أن يزداد تعلقُ بني عامر برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
ويتضاعف حبهم له صلّى اللّه عليه وآله.
أمير المؤمنين في ربوع اليمن
لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام، وأمن النبي صلّى اللّه عليه وآله جانب
القبائل العربية، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة
للحجاز.
فكان أول ما فعل صلّى اللّه عليه وآله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو
"معاذ بن جبل" الى اليمن ليبلِّغَ إلى اهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الاسلام
وتعاليمه المقدسة، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصلة منها قوله صلّى اللّه عليه وآله:"يَسِّر ولا تُعَسِّر وبشِّر ولا تُنَفّر وإنَكَ ستقدِمُ على قوم مِن أهل الكتاب
يسألونك ما مفتاح الجنة: فقل شهادة أن لا اله الا اللّه وحده لا شريك له".
ويبدو أن معاذاً رغم انه كان ملمّاً بالكتاب العزيز والسنة النبوية وتعاليمها
واحكامها، إلا انه لما سألته أمرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جواباً
مقنعاً، ولهذا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يوجه الى اليمن تلميذه
المتميز "علي بن أبي طالب" عليه السَّلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة، واحاديثه
المبرهنة، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة، وقوة عقلية متميزة من نشر الإسلام
العظيم في تلك الربوع.
هذا مضافاً إلى أن النبيَّ صلّى اللّه عليه وآله كان قد بعث "خالد بن الوليد"2
الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار
ولكنه لم يُوفَّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال3.
فاستدعى النبيُ صلّى اللّه عليه وآله علياً عليه السَّلام وأخبره بأنه يريد أن يذهب
الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام، وليخمّس ركازهم، ويعلّمهم الاحكام، ويبين لهم
الحلال والحرام، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم، فقال علي عليه
السَّلام بتواضع بالغ:
"يا رَسولُ اللّه تبعثني وأنا شابّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء" أي ما فعلتهُ
قبل هذا.
فضرب رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيده في صدر عليّ عليه السَّلام وقال:"اللّهمَ أهدِ قلبَه وثَبِّت لسانَه".
ثم قال صلّى اللّه عليه وآله:"يا علّي لا تقاتِلَنَّ أحداً حتى تدعوه وأيمُ اللّه لئن يهديَ اللّه على يديكَ
رجُلاً خير لكَ ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي".
ثم أوصاه صلّى اللّه عليه وآله بوصايا أربع هامة اذ قال:
يا علي اُوصيك
1- بالدُّعاء فإن معه الإجابة.
2- وبالشكر فانَّ معه المزيد.
3- وايّاك أن تخفِرَ عهداً أو تعين عليه.
4- وأنهاك عن المَكر، فانه لا يحيقُ المكر السّيئ إلا بأهله، وأنهاك عن البغي، فانه
من بُغي عليه لينصرنه اللّه".
ولقد بقي علي عليه السَّلام يقومُ بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة
محيّرة، وقد دُونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ والحديث.
هذا ويروي "البراء بن عازب" وكان من الذين صحبوا علياً عليه السَّلام في سفره هذا
الى اليمن انه لما انتهى علي عليه السَّلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن، وبلغ
القوم الخبر، فخرجوا اليه صفَّ عليّ عليه السَّلام الجنود الذين كانوا قد استقروا
هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد، ثم صلّى بهم صلاة الفجر، ثم دعا قبيلة همدان
كلّها، وكانت اكبر القبائل اليمنية، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله، فحمد اللّه، واثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتابَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله فأسلَمت همدانُ كلُها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد، وحلاوة البيان، وعظمة
المنطق النبوي، فكتبَ امير المؤمنين عليه السَّلام بذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله فلمّا قرا كتابه استبشر وابتهج وخرَّ ساجداً شكراً للّه تعالى ثم رفع
رأسه وجلس وقال:"السلام على أهلِ همدان. السلام على أهلِ همدان".
ثم تتابع- على أثر اسلام همدان- أهلُ اليمن على الاسلام4.
1- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 291 -
330.
2- صحيح البخاري: ج 5 ص 163.
3- السيرة الحلبية: ج 3 ص 264.
4- الكامل في التاريخ: ج 2 ص 305، بحار الأنوار: ج 21 ص 360- 363.
|