سيرة سيد المرسلين> حوادث السنة العاشرة للهجرة

المتنبئون كِذباً1

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة التفكير في أمر الروم
الاعذارُ غير المقبولة التفكير في أمر الرُوم
  الاستغفار لأهل البقيع


التفكير في أمر الروم
بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في "غدير خم" انفصلت جُموعُ الحجيج المشاركة في مراسم "حجة الوداع" من الوافدين من الشام ومصر، عن النبي صلّى اللّه عليه وآله في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من "حضرموت" و "اليمن" انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنَّ العشرة آلاف الذين خَرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عادوا مع النبي صلّى اللّه عليه وآله إلى المدينة، ووَصلوها قبل أن يأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله والمسلمون فرحين جداً لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كل مناطق الحجاز، وبالتالي لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام، وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهى بعدُ يوم قدم نفران من "الميامة" المدينة، وسلّما كتاباً من "مسيلمة" الذي عُرفُ فيما بعد ب (مسيلمة الكذّاب" إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. ففتح أحد كتاب النبي صلّى اللّه عليه وآله الرسالة وقرأها فكان مضمونها ان شخصاً باليمامة يدعى "مسيلمة" يدَّعي النبوة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة، ويريد من خلال كتابه أن يُبلغ النبيَّ صلّى اللّه عليه وآله بذلك، ويعرّفه بنبوته.

وقد اثبتت كتب السير والتواريخ الاسلامية نصَّ الكتاب المذكور.

ويوحي اُسلوبُ الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان والتعبير ولكن محاولته باءت بالفشل فلم يستطع تقليده، واتى بعبارات خاوية خالية من روح، يفوقها الكلامُ العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب "مسيلمة" في كتابه هذا:2.

أما بعد، فاني قد اُشركتُ في الأمر معَك، وان لنا نصف الأَرض، ولقريش نصف الارض، ولكنّ قريشاً قوماً يعتدون.

ولما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على مضمون الرسالة، التفت إلى من حملها اليه وقال: "أما واللّه لَولا أنّ الرّسلَ لا تُقتَل لضربتُ أعناقكما لأَنكما أسلمتُما من قَبل وَقبلتُما برسالتي فلم اتبعتُما هذا الاحمقَ وتركتُما دينكم".

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أملى على كاتبه كتاباً إلى مسيلمة قصير المحتوى، مفحم المفاد. واليك نصّ رسالة النبي صلّى اللّه عليه وآله:

"بِسم اللّه الرحمن الرحيم.

مِن محمَّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلامُ على من اتبعَ الهُدى.

أما بعد فانَّ الارض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"3.

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة
كان مسيلمة من الأشخاص الذين وَفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في من اسلم، ولكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء، وربما من المتعصبين من قومه. ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في "اليمامة" دليلاً على شخصيته الواقعية، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصباً وحمية مع أنهم علموا بكذبه، وزيف دعوته إذ كانوا يقولون: "كَذّاب ربيعة أحبُ إلينا من صادق مضَر" وقد قال هذه العبارة أحدُ اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمّداً صادق ولكن كذاب ربيعة احبُّ إلينا من صادق مضَر4.

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة، وتبعه على ذلك فريق من قومه، ولكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن، وما اُثر عنه - في النصوص التاريخية - من عبارات وجُمَل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية واحاديثه الأُخرى في غاية البلاغة والإتقان، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

ولهذا يمكن القول بأن ما نقِل عنه - على غرار ما نُقُل عن معاصره "الاسود بن كعب العنسي" الذي ادعى النبوة معه في اليمن - إنما هي اُمور نُسِبت إليه، واُلصِقت به الصاقاً لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدٍّ لا يجرُؤ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته، ويعلم كلُ عربيٍّ بحكم فطرته الالهية أنًّ هذا الاُسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسموّها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته.

ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولهذا حُوصرت منطقة "مسيلمة" من قبل جنود الاسلام، وضيّق عليه الحصار شيئاً فشيئاً، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب، قال له بعض اتباعه السذَّج: أين ما كنت تعدُنا (من النصر الالهي) فقال مسيلمة: أما الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكنَ الدفاع عن الاحساب والكرامة لم يُجدِ مسيلمة ولا اتباعه شيئاً، فقد قِتلَ هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة5.

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن أنه كان رجلاً فصيحاً وناطقاً بليغاً، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نُسِبت اليه - في التاريخ والسيرة - في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الرُوم
مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطراً على وحدة أهلها الدينية، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك - كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليه وآله اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرون على مواجهة المتنبئين، ولهذا قضي على "الاسود العنسي" وهو رجل آخر ادّعى النبوة كذباً في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله متيقناً وواثقاً من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد، والتي رأت كيف أن رسول الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية، غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

لقد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطراً جدّياً لا يمكن التغاضي عنه واحتقاره، ولهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشاً كبيراً قوامُه ثلاثة آلاف بقيادة "جعفر بن أبي طالب" و"زيد بن حارثة" و"عبد اللّه بن رواحة" إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة، وقفل الجيش الاسلامي راجعاً إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عندما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز وهو آنذاك في المدينة خرج صلّى اللّه عليه وآله بشخصه على رأس جيش قوامُه ثلاثون ألفاً إلى تبوك، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جدياً في نظر النبي صلّى اللّه عليه وآله.

ومن هنا فانه صلّى اللّه عليه وآله لما عاد من "حجة الوداع" الى المدينة هيّأ جيشاً من المهاجرين والانصار اشرك فيه اشخاصاً معروفين بارزين مثل أبي بكر و عمر وأبي عبيدة وسعد بن الوقاص و. و. وأمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة6.

ثم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده7 لواء لأُسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. وقال له:"سِر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحاً وشنَّ الغارة على أهل اُبنى"8.

فاعطى "اُسامةُ" اللواء الى "بريدة" وعسكر بالجرف9 ليلتحق به جنودُ الاسلام أفواجاً أفواجاً، وليتحرك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقيادة هذا الجيش شاباً في مقتبل العمر، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار والمهاجرين، ولقد أرادَ صلّى اللّه عليه وآله من فعله هذا أمرين:

أولاً: أن يجبُر - من خلال ذلك - ما لحق من المصيبة باُسامة بسبب مقتل والده "زيد بن حارثة" الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم، وليرفع من شخصيته.

ثانياً:
أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوظيف وتوزيع المناصب والمسؤوليات ويجعل ذلك على اساس الكفاءة والشخصية القيادية ان المناصب والمسؤوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات والموهِّلات ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيئ الشباب الذين يتمتعون بالمؤهِّلات الكافية لتسلّم المسؤوليات الاجتماعية الثقيلة ويحلموا أن المناصب والمهامّ - في النظام الاسلامي - ترتبط إرتباطاً مباشراً بالكفاءة والمؤهلات الثيادية، لا العمر والسنّ.

ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية، والمُسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى واوامره تعاليمه ويقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال، سواء أكانت له فيها نفع أم لا، وسواء أكانت تضرُّ به أم لا، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

ولقد بين الامام علي عليه السَّلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبرة اذ قال: "الاسلام هو التسليم"10.
إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير والحجج.
لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية، والتسليم الواقعيّ والانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى "اُسامة بن زيد" الذي لم يكن يتجاوز يومذاك - العشرين عاماً11 شاهد صدق على ما نقول، لأنَّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافاً شقَّ على البعض، لأنهم اعترضوا على الاجراء، وطعنوا في اُسامة، واطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى "النبي"، واوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمَّر شاباً صغير السنّ على شيوخ من الصحابة12.
ولكنهم غفلوا عن المصالح والاهداف التي توخّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من هذا الإجراء، وكانوا يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة، ويقيسونه بمقاييسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور من معسكر "الجرف" وتوجهه إلى النقطة المطلوبة، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اللواء لاُسامة تمرّض صلّى اللّه عليه وآله بشدة وأصابه صداع شديد تركه طريح الفراش واستمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات اللّه عليه.

وقد علم رَسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اُسامة وأن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها، وأن هناك بالتالي من يطعن في اُسامة فغضب صلّى اللّه عليه وآله لذلك غضباً شديداً، وخرج وهُو يلتحف قطيفة، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة وبعد أن حمدَ اللّه واثنى عليه قال:"أمّا بعدُ أيُّها الناسُ فَما مَقالة بلغَتني عن بَعضِكم في تأميري اُسامة، ولئن طعَنتُم في إمارتي اُسامة لقَد طَعنتُم في إمارتي أباه من قَبلهِ وأيمُ اللّه كان للإمارة خليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لِمن أحبِّ الناس إليَّ وانّهما لَمخيلان لكل خير، واستوصُوا به خيراً فانه من خياركم".

ثم نزل صلّى اللّه عليه وآله ودخل بيته واشتدت به الحمى، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه:"أنفذوا بَعثَ اُسامة"13.

ولقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على بعض جيش اُسامة انه كان يقول وهو في فراش المرض:"جَهَزوا جيش اُسامة، لعَن اللّه من تخلّف عنه"14.

وقد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للتوديع والخروج عن المدينة تلقائياً والالتحاق بجيش اُسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان اُسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وآله بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبي صلّى اللّه عليه وآله فتسببت في عُدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين، فحضر اُسامة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبي صلّى اللّه عليه وآله.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حاثاً اياه على المبادرة والمسارعة في الخروج:"اُغدُ على بركة اللّه"15.

فعاد اُسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرك فوراً، ولكن الجيش لم يكن قد غادر "الجرف" بعد، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يحتضر، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اُسامة، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوماً أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير والحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلّى اللّه عليه وآله وعادوا إلي المدينة فوراً، وعاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين - جميعاً - أوامر النبي صلّى اللّه عليه وآله بالخروج.

ولم يتحقق أحد آمال النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم واعيان الجيش.

الاعذارُ غير المقبولة
إن خطأَ كبيراً كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أُمور الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرَّر أبداً.

ولقد أراد بعض علماء السنة أن يبّرروا هذا التخلف بطرق ووجوه مختلفة إلا أنهم عجزوا - رغم ذلك - أن يُخرِجوا عذراً مقبولاً ودليلاً مرضياً لاولئك المتخلفين عن جيش اُسامة.

وللاطلاع على ما نُحِت لذلك من أعذار سقيمة راجع "المراجعات"16. و"النص والاجتهاد"17.

الاستغفار لأهل البقيع
كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى والوجع ليستَغفر لأهل البقيع18.

ولكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبي صلّى اللّه عليه وآله يوم أحس بالوجع اخذ بيد "عليّ" عليه السَّلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه:"إنّي اُمِرتُ أن استغفر لأهل البقيع".

وعند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك وقال:"السلامُ عليكم أهل القبور ليَهنِئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناسُ فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً يتبع آخرها أوّله".

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلاً ثم التفت إلى عليّ عليه السَّلام وقال: يا عليّ إنّي خُيّرت بين خزائن الدُنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترتُ لقاء ربِّي والجنّة. إن جبرئيل كان يعرضُ عليَّ القرآن كلَّ سنة مرّة وقد عرضَهُ عليّ العام مرّتين ولا أراه إلا لحضور أجلي19.

انَّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت ويحصرون كل الوجود في اطار المادة وآثارها، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر، ويقولون: كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ وكيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟


ولكن الذين كسروا جدار المادية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط والاتصال بالارواح20، ويعتبرونه امراً ممكناً وواقعياً.
ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة، يمكنه - على وجه القطع واليقين - أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه واذنه وإخباره إياه.


1- كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلّى اللّه عليه وآله في نهايات السنة الهجرية العاشرة وكذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث والستين تقليلاً لفصول هذا الكتاب.
2- ومن شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم اللّه، بل ولم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.
3- السيرة النبوية: ج 2 ص 600 و 601 وتكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.
4- تاريخ الطبري: ج 2 ص 508 ويقصد بالاول مسيلمة وبالثاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
5- تاريخ الطبري: ج 2 ص 514 - 516.
6- السيرة النبوية: ج 2 ص 642، النصُ والاجتهاد: ص 12.
7- يذهب كتّاب السُنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر، وحيث أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه وآله حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الاول لهذا فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلاً تدريجاً في مدة 16 يوماً، ولكن حيث أن الشيعة يرون تبعاً لما رواه عترة النبي أن وفاة النبي صلّى اللّه عليه وآله كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقدُ اللواء قد تمَّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.
8- "أبنى" من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين "عسقلان" و "الرميلة".
9- منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.
10- نهج البلاغة: قصار الحكم 125.
11- ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره و ذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.
12- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.
13- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.
14- الملل والنحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 23.
15- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 190.
16- المراجعة 90 و 91.
17- ص 15 - 16.
18- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.
19- بحار الأنوار: ج 22 ص 466 و 472، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 204.
20- طبعاً نحن لانعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح، وأسلوبه المشروع.