إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة
الخلافةُ حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى
لأفضل أفراد الأمة، وأصلحهم، وأعملهم، والفرق الواضح بين الامام والنبيّ هو: أن
النبي مؤسسُ قواعد الشريعة، وهو الذي يوحى اليه، وينزلُ عليه الكتابُ من السماء،
والامام وان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلا أنه مضافاً إلى شؤون الحكومة
والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق- بسب الظروف
المعاكسة او عدم الفرص المناسبة- لبيانه أو اظهاره، وترك مهمة بيانه على عاتق
اوصيائه وخلفائه.
وعلى هذا الاساس فان الخليفة- من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم
زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة والحافظ للحقوق الاجتماعية،
والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها فحسب، بل هو علاوة على كل ذلك
الموضح لما خفي من مَعالم الدين، والمكمِّل المبيِّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة
وقوانينها الذي لم يُبيَّن من قبَل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.
أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ وليس الهدف منها إلا حفظ الكيان
الظاهري والشؤون المادية للاُمة الإسلامية، والخليفة لا ينصَبُ إلا باختيار الناس
وانتخابهم أحداً لشَغل منصب الحكم والقضاء وإرادة الاُمور السياسية والاقتصادية وما
شابهها، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحبُ الشريعة من الأحكام على نحو الاجمال.
وأما بيانُ ما لم يوفق النبيُ لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء
المسلمين فهم يعالجون ما يستجدُّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن
طريق الاجتهاد، والرأي.
وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة اليها انشطرت
الاُمةُ الاسلاميةُ إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيين إلى هذا اليوم.
وبناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركاً للنبيّ في بعض شؤونه، فيشتَرطُ في
الإمام أيضاً ما يشترط في النبي. واليك الشرائط المعتبرة في النبي، التي تشترط في
الإمام أيضاً:
1- يجب أن يكون النبيُّ معصوماً، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته
أبداً، ولا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه، وعند الاجابة على أسئلة
الناس واستفساراتهم الدينية، ويُشترط في الامام ذلك أيضاً، والدليلُ في الموردين
واحد.
2- يجب أن يكون النبيُّ أعلم الناس بالشريعة، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل
الشريعة مُطلقاً، وهكذا يجب أن يكون الامامُ اعلم الناس باحكام الدين ومسائله لكونه
مكمّلاً أو مبيناً لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.
3- إن النبوة منصب تعييني وليس منصباً إنتخابياً، بمعنى أنَّ النبيَ لا يكونُ نبياً
إلا اذا عيّنهُ اللّه وابتعثه، ونُصِب في مقام النبوة من جانبه سبحانه، لأنه تعالى
دون سواه يمّيز المعصوم عن غير المعصوم، وهو سبحانه دون غيره يعلم من بلَغ درجة
العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة، بحيث يعرف كل
تفاصيل الدين وجزئياته.
إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته
والقائم مقامه.
ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيُّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبي،
في الخليفة فلاتجب العصمة، ولا العدالة، ولا يجبُ العلم والاحاطة بالشريعة ولا
يشترط فيه التعيين من جانب اللّه، والارتباط بعالم الغيب، بل يكفي في استحقاق
الخلافة أن يكون الشخصُ قادراً في ظلّ ذكائه، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان
الاسلاميّ، وقادراً على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية، كما
ويتمكن من توسيع رقعة الأَرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.
وعلينا الآن ان نعالج هذه المسألة (أي هل الخلافة والامامة منصب تنصيصي أو انتخابي
وهل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه، أو يوكل الامر الى الاُمة لتختار من تريد).
وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلتمس القارئ بوضوح أنَّ الأحوال والظروف
الاجتماعية كانت توجبُ أن يقوم النبي صلّى اللّه عليه وآله بتعيين خليفته في حياته
ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده، ولا يوكل الأمر إلى الأمة.
واليك توضيح هذا القسم وبيانه
إقتضاء
المُحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة
لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الامة
الاسلامية من شؤون النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله مادام على قيد الحياة، وكان
عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الامة واكملهم.
إن في هذه المسألة وهي هل أن منصب القيادة بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله هل هو
منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين:
فالشيعة يَرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي ولا بد أن يتعيَّن خليفة النبي من جانب
اللّه سبحانه.
بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري، أي أن على الاُمة أن تقوم
بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.
إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابُهما في الكتب العقائدية، إلا أنّ
ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في
عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.
إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن
خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيَّن من جانب اللّه تعالى ولا يترك الأمر من دون مثل
هذا التعيين الالهي، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدداً على الدوام من جانب الخطر
الثلاثي (الروم- إيران- المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد
والاختلاف بين المسلمين.
كما أن مصالح الاُمة كانت توجبُ أن يوحِّدَ صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي
وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة
الاسلامية والسيطرة عليها، وعلى مقدراتها.
واليك بيان وتوضيح هذا المطلب
لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي
ويتهدده من الخارج والداخل.
وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغلُ بالَ النبي
القائد على الدوام حتى إن التفكير في امر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة
الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.
وكانت اُولى مواجهة عسكرية بين المسلمين، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة
الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين
البارزين الثلاثة وهم: "جعفر الطيار"، و"زيد بن حارثه" و"عبد اللّه بن رواحة".
ولقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش
القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من
قبل هذا الجيش.
من هنا خرج رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش
كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذه
الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة وتجدّد حياته السياسية.
غير أنَّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنِع رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأعدّ
قُبَيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين وأمَّر عليهم "اُسامة بن زيد" وكلّفهم
بالتوجه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.
أما الضلعُ الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان
الامبراطورية الايرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران "خسرو ابرويز" على
تمزيق رسالة النبي، وتوجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه
وعميله باليمن بأن يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله،
أو يقتله ان امتنع!!
و"خسرو" هذا وإن قُتِلَ في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلا أن موضوع
استقلال اليمن- التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من
الزمان- لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم،
وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة (القوة الاسلامية) لهم.
والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة
الطابور الخامس، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا
اغتيال رسول اللّه، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.
فقد كان بعضُ عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه: ان الحركة الاسلامية سينتهي
أمرها بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ورحيله وبذلك يستريح الجميع1.
ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمكيدة مشؤومة
لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل، وذلك عندما أتى علياً عليه السَّلام
وعرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجالُ السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الامة
الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.
ولكن الامام علياً عليه السَّلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض
مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:"واللّه ما أردت بهذه إلا الفتنة وانك واللّه طالما بغيت للإسلام شراً... لا حاجة
لنا في نصيحتك"!!2.
ولقد بلغ دورُ المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سُور عديدة
هي سورة آل عمران، والنساء، والمائدة، والانفال، والتوبة، والعنكبوت، والاحزاب،
ومحمَّد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين، والحشر.
فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام
الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحُّ أن يترك رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه
وآله اُمته الحديثة العهد بالاسلام، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائداً
دينياً سياسياً.
إن المحاسبات الاجتماعية تقول: انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد
للامة، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وان يضمن استمرار وبقاء الوحدة
الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمة.
إن تحصين الاُمة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة
كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة لم
يكن ليتحقق إلا بتعيين قائد للاُمة، وعدم ترك الامور للقدر.
إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية "التنصيص على القائد بعد رسول اللّه"،
ولعلَّ لهذه الجهة، ولجهات اُخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاُولى
من ميلاد الرسالة الاسلامية وظلَّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات
الأخيرة منها حيث عيَّن خليفتَه ونصَّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء
دعوته، وفي نهايتها أيضاً.
واليك بيان كلا هذين المقامين
1- النبوة والامامة توأمان
بغضّ النظر عن الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأي
الأول بصورة قطعية هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف
والرأي الذي ذهب اليه علماء الشيعة، وتصدقه، فقد نص النبي صلّى اللّه عليه وآله على
خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، واخرج موضوع الامامة
من مجال الانتخاب الشعبي، والرأي العام.
فهو لم يعيّن (ولم ينص على) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب، بل بادر
إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضوِ تحت راية رسالته بعدُ سوى
بضع عشرات من الاشخاص، وذلك يوم اُمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته
الاقربين من العذاب الالهي الاليم، وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع
برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.
فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيباً فقال:"أيكم يؤازرُني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم".
فأحجم القوم، وقام علي عليه السَّلام، واعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله برقبته والتفت الى الحاضرين وقال:"إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم"3.
وقد عُرِفَ هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين ب: "حديث يوم الدار"، و"حديث بدء
الدعوة".
على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته،
إنما صرح في مناسبات شتى، في السفر والحضر، بخلافه علي عليه السَّلام من بعده ولكن
لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.
2- قصة الغدير
لما انتهت مراسيم الحج، وتعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله،
قرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الرحيل عن مكة، والعودة الى المدينة، فأصدر
أمراً بذلك.
ولما بلغ موكبُ الحجيج العظيم إلى منطقة "رابغ"4 التي تبعد عن "الجحفة"5
بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمنطقة
تدعى "غدير خم" وخاطبه بالآية التالية: "يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ ما اُنزلَ
إليكَ مِن رَبِّكَ وإن لم تفعل فما بلَّغتَ رسالتهُ واللّه يعصِمُك مِنَ النَّاسِ"6.
إن لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلّى اللّه عليه
وآله مسؤولية القيام بمهمة خطيرة، وأيُ أمر اكثر خطورة من أن ينصب علياً عليه
السَّلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.
من هنا أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمرهُ بالتوقّف، فتوقفت طلائعُ ذلك
الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخَّر.
لقد كان الوقت وقت الظهيرة، وكان الجوُ حاراً الى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضعُ
قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه، وصُنعَ للنبي صلّى اللّه
عليه وآله مظلة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان شجرة، (سمرُة) وصلّى رسولُ
اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالحاضرين الظهر جماعة، وفيما كان الناسُ قد احاطوا به
صعد صلّى اللّه عليه وآله على منبر اُعِدَّ من أحداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس
رافعاً صوته وهو يقول:"الحمدُ للّه وَنَستعينُهُ ونُؤمنُ به ونتوكَّلُ عليهِ ونعُوذُ بهِ مِن شُرُور
أنفُسنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، الذي لا هاديَ لِمَن ضلَّ ولا مُضِلَّ لِمَن هدى
وأشهدُ ان لا اله الا هو وأن محمَّداً عبده ورسوله".
أمّا بَعد، أيّها الناس قد نبَّأني اللطيف الخبيرُ أنّه لم يعمَّر نبي إلا مثلَ نصف
الذي قبلهُ، وإني اُوشك أن اُدعى فأجيبُ وأني مسؤول وانتم مسؤولون فماذا انتم
قائلون؟
قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بَلّغتَ ونصحتَ وجهَدت فجزاك اللّه خيراً قال صلّى اللّه
عليه وآله:"ألستُم تشهدون أن لا اله إلا اللّه وَأَنَّ مُحمَّداً عبدُه وَرَسُولهُ وَأنَّ
جنّته حق وَأَنَّ الساعة اتية لا ريب فيها وَأنَّ اللّه يبعث مَن في القبور"؟
قالوا: بلى نشهدُ بذلك.
قال صلّى اللّه عليه وآله:"اللَّهمَّ اشهَد".
ثم قال صلّى اللّه عليه وآله:"إنَّي تارك فيكمُ الثِّقلين ما إن تمسكتُم يِهما لَن تَضِلوّا أبد".
فنادى مناد: بأبي أنتَ وَاُمّي يا رسول اللّه، وما الثقلان؟
فقال صلّى اللّه عليه وآله:"كِتابُ اللّه سَبَب طرف بيد اللّه وَطرف بأيديكم فتمسكُوا به والآخرُ عترتي
وإنَ اللطيف الخبير نبّأنِي أنَّهما لَن يِفترقا حتى يَردا عَليَّ الحوضَ فلا
تقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكو".
وهنا أخذ بيد "عليّ" عليه السَّلام ورفعها حتى رؤي بياضُ آباطهما وعرفه الناس
اجمعون ثم قال:"أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين مِن انفسهم؟".
قالوا: اللّه ورسوله أعلم.
فقال صلّى اللّه عليه وآله:"إن اللّه مولايَ وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنتُ مولاه فعليّ
مولاه7، اللَّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه وانصر من نصره، واخذل
من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه وأدر الحق معه حيث دار"8.
واقعة الغدير خالدة الى الأبد
لقد تعلّقت المشيئةُ الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون
والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والافئدة، ويكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر
و زمان ويتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث
والعقائد، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر،
ويعتبرونها من فضائل الإمام "علي" التي لا يتطرق اليها أي شك أو ريب.
ولم يقتصر هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي
فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة، وبالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم
فانشأوا أروع القصائد، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة آثاراً أدبية ولائية خالدة.
ولهذا قلّما نجدُ حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة وفي التاريخ الاسلامي
والامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير، وقلما استقطبت اهتمام الفئات
المختلفة من المحدّثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة، والشعراء والأدباء،
والكتّاب والخطباء وارباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا
بشيء مثلما اعتنوا بها.
إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى ودوام هذا الحديث هو: نزول آيتين من آيات
القرآن الكريم فيها9، فما دام القرآن الكريم باقياً مستمراً يتلى آناء
الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان والنفوس ولا تمحو خاطرتها من
العقول والقلوب.
وحيث أن المجتمع الاسلاميَّ في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون
هذا اليوم عيداً كبيراً من الأعياد الدينية، وكانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من
المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية (حادثة الغدير) قد
اتخذت طابع الابديّة والخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان والخواطر.
هذا ويُستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام
كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى
درجة أن ابن خلّكان يقول حول "المستعلي بن المستنصر": فَبويع في يوم غدير خمّ وهو
الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 10.
وقال فيترجمة المستنصر باللّه العبيدي: وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من
ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة، قلت: وهذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة
الثامن عشر من شهر ذي الحجة وهو غدير خم11.
وقد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه "الآثار الباقية" ممّا استعمله أهل الاسلام
من الأعياد12.
وليس ابن خلّكان وابو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو
عيد من الاعياد، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي
المعروفة بين المسلمين13.
إن عهد هذا العيد الاسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم "الغدير" لأن النبي صلّى اللّه
عليه وآله أمر المهاجرين والانصار بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على
"عليّ" عليه السَّلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.
يقول زيد بن ارقم: كان أول من صافق النبي صلّى اللّه عليه وآله وعلياً: أبو بكر
وعمر وعثمان وطلحة والزبيروباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس14.
الدلائل الاُخرى
على أبديّة الغدير
ويكفي في أهمّية هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة
وعشرة صحابيّ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء
المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة
ومصنفاتهم.
صحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ
عليه السَّلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس ولكن كثيراً منهم كانوا قد
أتوا من مناطق نائية من الحجاز ولهذا لم يُروَ عنهم هذا الحديث، كما ان كثيراً من
الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكن
التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم، أو إذا تمَّ ذلك لكن لم يصل إلينا.
ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ وهو عصر التابعين تسعة وثمانون
تابعياً.
وقد بلغ عددُ من روى حديث "الغدير" في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل النسة
وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصاً، و صحَّحهُ جمع كبير منهم واعترفوا بتواتره.
ففي القرن الثالث رواه اثنان وتسعون عالماً.
وفي القرن الرابع رواه أربعة واربعون.
وفي القرن الخامس رواه أربعة وعشرون.
وفي القرن السادس رواه عشرون.
وفي القرن السابع رواه واحد وعشرون.
وفي القرن الثامن رواه ثمانية عشر.
وفي القرن التاسع رواه ستةُ عشر.
وفي القرن العاشر رواه أربعةُ عشر.
وفي القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.
وفي القرن الثاني عشر رواه ثلاثةُ عشر.
وفي القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.
وفي القرن الرابع عشر رواه عشرون عالماً.
ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلَّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل
أو كتباً مستقلة.
وقد ألّف: المؤرخ الاسلامي الكبير "الطبري" كتاباً في هذا المجال أسماه "الولاية في
طرق حديث الغدير" روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سنداً.
ولقد روى "ابن عقدة" في رسالة "الولاية" هذا الحديبث بمائة وخمسين حديثاً.
وروى أبو بكر محمَّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين
سنداً.
كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء
أحمد بن حنبل الشيباني ب 40 سنداً
ابن حجر العسقلاني ب 25 سنداً
الجزري الشافعي ب 80 سنداً
أبي سعيد السجستاني ب 120 سنداً
الأمير محمَّد اليمني ب 40
النسائي ب 250 سنداً
أبي العلاء الهمداني ب 100 سنداً
أبي العرفان الحبان ب 30 سنداً
وبلغ عددُ من ألّف رسالة خاصة أو كتاباً مستقلاً حول هذه الواقعة وخصوصياتها
وتفاصيلها 26 شخصاً ولعلَّ هناك غيرهم ممن ألّف كتاباً أو رسالة مستقلّة حولَ هذا
الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخُ أسماءهم، أو ضاعت مؤلفاتُهم مع التطورات
التي طرأت على الأمة الإسلامية وضيَّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات
الاغارة والنهب أو الهدم والإحراق (ولقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير
الجزء الاول).
ولقد كتب علماءُ الشيعة كتباً قيمة حول هذه الواقعة أجمعُها واشملّها كتابُ
"الغدير" بقلم العلامة الجليل والكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ
الأميني رحمه اللّه، والذي يقع في أحد عشر مجلداً في ما يقرب من ستة آلاف صفحة، وقد
استفدنا كثيراً من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.
ثم ان النبي صلّى اللّه عليه وآله لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه علياً
لإمرة المسلمين في تلك الواقعة:"اليَومَ اُكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ
الإسلامَ دِين"15.
فكبَّر النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله بصوت عال ثم أضاف قائلاً:"الحمد للّه على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربِّ برسالتي، وولاية عليّ بن
أبي طالب من بعدي".
ثم نزل رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من ذلك المنبر المصنوع من حدائج الابل
وأمر امير المؤمنين عليّاً عليه السَّلام أن يجلس في خيمة وأمر أطباق الناس وكلَّ
من حضر المشهد من اُمته ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار كما أمر اُمّهات
المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين عليه السَّلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب
الامامة والخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
ففعل الناسُ ذلك وانكبّوا على "علي" عليه السَّلام بأيديهم وكان أول من صافق وهنأ
عليّاً أبو بكر وعمر واصفين إياه بالولاية.
وهنا قام "حسان بن ثابت الأنصاري" شاعر الاسلام واستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله في أن ينشد شعراً بهذه المناسبة، فأذِنَ له رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله
قائلاً: قل على بركة اللّه.
فقام حَسانُ وقال
يُناديهمُ يومَ الغدير نبيهُم بِخُم وَأسمِع بالنبيِّ منادياً
وقد جاءهُ جبريلُ عن أمر ربِّه بِأنّك معصوم فلا تكُ وانيا
وَبَلغهُمُ ماَ اَنزَلَ اللّه ربُّهُم إليك ولا تخشى هناك الأعاديا
فقامَ به إذ ذاك رافعَ كفّهِ بكف عليٍّ معلنَ الصوت عالياً
فقالَ فمن مولاكُمُ ووليُّكُم فقالُوا ولم يُبدوا هناك تعاميا
الهكَ مَولانا وانتَ وَليُّنا ولن تجدن فينا لَك اليوم عاصيا
فقالَ له: قم يا عليُّ فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن كنتُ مولاهُ فهذا وليّه فكونُوا له أنصار صدق مُواليا
هناكَ دعا اللّهمَ وال وليّه وكُن للذي عادى عَليّاً معادياً
فياربَّ انصر ناصريه لنَصرهم امام هُدى كالبدر يَجلوُ الدياجيا
ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية علي عليه
السَّلام على جميع صحابة النبي صلّى اللّه عليه وآله كافة، حتى أن أمير المؤمنين
علياً عليه السَّلام احتج به مراراً فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين
الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني، وفي أيام خلافة عثمان وفي أيام خلافته عليه
السَّلام أيضاً، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين إحتجوا به على منكري حق عليّ
وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائماً وأبداً.
1- الطور: 30.
2- الكامل في التاريخ: ج 2 ص 222، العقد الفريد: ج 2 ص 249.
3- تاريخ الطبري: ج 2 ص 216، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 62 و63 وقد مر مفصله في هذه
الدراسة فراجع.
4- رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.
5- من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.
6- المائدة: 67.
7- لقد كرر النبي صلّى اللّه عيه واله هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأي التباس أو
اشتباه.
8- راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة
الاميني
9- المائدة: 67 و 3.
10- وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.
11- وفيات الأعيان: ج 1 ص 60.
12- ترجمة الآثار الباقية: ص 395 الغدير: ج 1 ص 267.
13- ثمار القلوب: ص 511.
14- راجع مصدره في الغدير: ج 1 ص 270.
15- المائدة: 1و 3.
|