الدَعوَةُ السِرِّيَّة
ودَعوَةُ الأَقربين
إستمرّ النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله يدعو إلى دينه سِرِّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو
في هذه السنوات عمد إلى بناء الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس،
فإنّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أن لا يجهر بدعوته ولا يُعلِن عن
رسالته، ويكتفي بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو أشخاصاً معينين إلى دينه.
وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب الى الدّين الإسلامي جماعة من
الناس، وتواجه دعوته صلّى اللّه عليه وآله منهم بالقبول، وقد سجّل التاريخ أسماء
هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في هذه الفترة
من عهد الرسالة، وتاريخ الإسلام، واليك بعضهم:
1- السيدة خديجة بنت خويلد (زوجة النبي).
2- علي بن أبي طالب عليه السّلام.
3- زيد بن حارثة.
4- الزبير بن العوام.
5- عبد الرحمان بن عوف.
6- سعد بن أبي وقاص.
7- طلحة بن عبيد اللّه.
8- أبو عبيدة الجراح.
9- أبو سلمة.
10- الأرقم بن أبي الارقم.
11- عثمان بن مظعون.
12- قدامة بن مظعون.
13- عبد اللّه بن مظعون.
14- عبيدة بن الحارث.
15- سعيد بن زيد.
16- خباب بن الأرتّ.
17- أبو بكر بن أبي قحافة.
18- عثمان بن عفان.
وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي، وآمنوا بنبوته في هذه الفترة1.
ولقد كان أقطاب قريش وأسيادها منهمكين طيلة هذه الاعوام الثلاثة في لهوهم ومجونهم،
ومع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلا أنّهم لم يظهروا
أيّة ردة فِعل تجاهها، ولم يقوموا بشيء ضدّها.ولقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلّم في هذه السنوات التي تعتبر فترة صباغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى
شعاب مكة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.
واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة، واستنكروا
عملهم هذا، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد
المشركين على يدي "سعد بن أبي وقاص" احد المسلمين، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله اتخاذ بيت "الأرقم بن أبي الأرقم" محلاً للعبادة بدل شعاب مكّة،
ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان، بعيداً عن أعين المشركين2.
ولقد كان "عمّار بن ياسر" و"صهيب بن سنان" الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله في ذلك البيت3.
دعوَةُ الأقربين
يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى -
عادة - من بدايات صغيرة ونقاط محددة، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا الى توسيع نطاق نشاطهم فوراً، وهكذا جنباً الى جنب مع النجاحات التي يحقّقونها في
كل خطوة يوسّعون دائرة العمل، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح، والتكامل لما هم
بصدده.
ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو
سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية وما هو الأمر الذي يساعدكم على النجاح في
مشاريعكم؟
فأجابه ذلك الزعيم قائلاً: ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم
أهل الشرق، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير، وبعد إحراز النجاح
نعمد إلى توسيع نطاق العمل، واذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا
اُسلوب عملنا، وعدلنا إلى طريقة اُخرى، وبدأنا بعمل آخر.
أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحة العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير، وتبدأون من
نقطة واسعة، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً
مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من منتصف الطريق إلا بتحمل خسائر كبرى فادحة.
هذا مضافاً إلى أن أنفسكم كأنها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطف ثِمار جهودكم
ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير
إجتماعيّة خاطئة، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.هذا ما قاله ذلك الغربيّ.
ولكن الذي نتصوره ونعتقده نحن هو : أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق
ولا بالغرب، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب
لانجاح مهامّهم، وتحقيق مقاصدهم.
ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلّى اللّه عليه وآله هذه الطريقة في
عمله الرسالي فركّز جهده على الدعوة السرّيّة إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون
تعجُّل، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلاً للدعوة، ومستعدّاً من الناحية
الفكرية للتبليغ.
فرغم أنّه كان يهدف الى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها (لواء التوحيد)
جميع أفراد البشرية، إلا أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة،
بل لم يوجّ الدعوة الخاصة حتى إلى أقاربه، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده
مؤهلاً وصالحاً للدعوة، ومستعدّاً لقبول الدِّين، حتى انّه استطاع في هذه الأعوام
الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.
وقد كان زعماء قريش - كما اسلفنا - منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة
والهوى وكان فرعون "مكة" وطاغيتها : "أبو سفيان" وجماعته كلما سمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه
فوراً تماماً كما انطفأت من قبل دعوة "ورقة" و"اميّة" (اللّذين أخذا يحبّذان الى
العرب التوجه نحو المسيحية ونبذ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة) وبالتالي لن
يمرّ زمانٌ حتى يُنسى هذا الأمر، ويغدو خبراً بعد أثر، بل لا شيء يُذكر.
بهذا التصوّر، وبهذه العقليّة واجهت زعامة "مكة" دعوة النبي في البداية، ولهذا لم
يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عملٍ عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام، ويُراعون معه قواعد الأدب
والسلوك، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة
بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال
الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.
ولكن منذ أن بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم، ويذكر أوثانهم بسوء
ويعترض على تصرفاتهم اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم أيضاً بدأت يقظة
قريش، وعرفوا أمر محمّد يختلف عن أمر "ورقة" و"اُميّة" اختلافاً بيناً وان المبين
الدعوتين فرقاً كبيراً، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية، لدعوة
النبيّ.
وقد بدأ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم
شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.
على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة التي يراد لها ان تترك أثراً في جميع
شؤون الناس وكل مناحي حياتهم، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين
1- قوةُ البيان، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق التي جاء بها من
أفكاره الخاصة، أو ما تلقّاه عن طريق آخر الى الناس باسلوب جذاب، يأسر القلوب،
ويسحر العقول.
2- القوةُ الدفاعيةُ التي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم
الأعداء والخصوم، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه
الاُولى.
ولقد كان البيان لدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أعلى مرتبة من الكمال فكان
قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنه كان
يفتقر في الأيام الاُولى من دعوته إلى عنصر (القوة الثانية)، أي (القوة الدفاعية)،
الرادعة الحامية، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاُولى من رسالته أن يضم إلى
دعوته قرابة أربعين شخصاً، وذلك في الظروف السرّية الشديدة، ولا ريب ان تلك القلة
القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبي صلّى اللّه
عليه وآله، وحماية رسالته.
من هنا عمد رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة
وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة الى عامة
الناس، ليتمكّن من هذا الطريق أن يزيل النقص من جهة عدم وجود القوة الثانية، ويكوّن
منهم سياجاً قوياً يحفظه، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.
على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع
القربى والرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته، ولم يقبلوا دعوته.
هذا مضافاً إلى انه صلّى اللّه عليه وآله كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لا بد أن
يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه وأقربائه
وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين، لأنّ
المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.
من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلاً :﴿
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾4.
كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله :﴿
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾5.
كيفيّة دعوَة الأقربين
كانت طريقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة
وذكيّة جدّاً، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر
فأكثر.
فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى : (وانذر عشيرتك الاقربين) وكذا الأغلبية
القريبة للاجماع من المؤرخين أن اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه وآله بأن ينذر
عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
علي بن أبي طالب الذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ
طعاماً ولبناً، ثم دعا صلّى اللّه عليه وآله خمساً وأربعين رجلاً من سراة بني هاشم
ووجوههم، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلا
أنه - وللأسف - ما أن أنتهوا من الطعام حتى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل
أن يتحدّث النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأن يطرح النبيُّ
صلّى اللّه عليه وآله موضوع رسالته عليهم، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.
ولما كان من غد أمر النبيُّ علياً عليه السّلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية،
وكرّر دعوة تلك الجماعة، إلى ضيافة اُخرى، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ
اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال :"إنّ الرائد لا يكذبُ أهلهُ واللّه الّذي لا
إله إلا هُو إنّي رسُولُ اللّه إليكُم خاصّة وإلى النّاس عامّة واللّه لتمُوتُنّ
كما تنامُون ولتُبعثُنّ كما تستيقظُون ولَتُحاسبُنّ بِما تعملُون وإنها الجنّة
أبداً والنّارُ أبداً".
ثم قال :"يا بني عبد المُطّلِب انّي واللّه ما أعلَمُ شابّاً في العرب جاء قومهُ
بأفضل ممّا جئتُكُم به، انّي قد جِئتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وقد أمرني اللّه
عزّ وجلّ أن ادعُوكُم إليه فأيّكُم يُؤمن بي ويؤازرُني على هذا الأمر على أن يكون
أخي ووصيّي وخليفتي فِيكمُ"؟
ولما بلغ النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله إلى هذه النقطة وبينما أمسك القومُ وسكتُوا
عن آخرهم اذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في يؤولُ إليه هذا الامرُ العظيمُ، وما
يكتنفهُ من أخطار قام "عليّ" عليه السّلام فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو
الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يكسر بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول :أنا يا
رسوُل اللّه أكونُ وزيرك على ما بعثَك اللّه".
فقال له رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله :إجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي
كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه، ويقوم "عليّ" ويعلن عن استعداده لمؤازرة
النبيّ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس حتى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه
بيده والتفت الى الحاضرين من عشيرته الاقربين وقال :"إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي
فيكُم (أو عليكُم) فاسمعُوا لهُ، وأطِيعُوا".
فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب "قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك
أميراً"6.
إن ما كتبناه هو في الحقيقة خلاصةٌ لحديث مفصّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين
بعبارات مختلفة، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ، بل اعتبروه من مسلّمات التاريخ، الا "ابن
تيمية" الذي اتخذ موقفاً خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين.
خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجِنايَةٌ أدبيّة
إن تحريف الحقائق وقلبها، أو إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديق الخيانة
والجناية.
ولقد سلك فريق من الكُتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح،
وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق، من
الاعتبار، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.
إلا أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انقضاء الزّمن، وتكامُل العِلم، ودفع بفريق من أهل
التحقيق والإنصاف الى أن يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا
الوقائع والحقائق على حقيقتها.
واليك في ما يأتي بعض هذه الخيانات
1- لقد ذكر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى عام 310 هجري) في تاريخه حادثة دعوة
الأقربين بشكل مفصّل وعلى النحو الذي مرّ على القارئ الكريم.
بيد أنه حرّف في تفسيره 7وكتم، فهُو عند تفسير قوله تعالى :"وأنذِر
عشِيرتك الأقربين" يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه، ولكنه يغيّر ويبدّل في قول رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله حيث يقول :"على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي"، فهو يكتب
في تفسيره هكذا :"على أن يكون كذا وكذا".
ولا ريب انّ في تغيير عبارة "أخي ووصيّي وخليفتي عليكم (أوفيكم)إلى :"كذا وكذا"
غرضاً مريضاً، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.
على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله، بل غيّر حتى في الجملة التي تعقبتها وهي قوله صلّى اللّه عليه وآله بعد أن
قام عليُّ عليه السّلام للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام
القوم وسكوتهم :"إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي"حيث أبدلها بعبارة :"إنّ هذا أخي وكذا
وكذا"!
إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها، فيثبتها ويرويها كما
هي، بكل شجاعة، وحيدة.
ولا ريب ان الذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه
المذهبي، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل، وحيث أن تينك
الكلمتين : "خليفتي ووصيّي" تصرّحان بخلافة "عليّ" للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك
يغيّر ويبدّل حتى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.
2- ولقد فعل ابن كثير (المتوفى عام 732) نظير هذا في تاريخه 8 وكذا في
تفسيره (ج 3 ص 351) وسلك نفس الطريق الذي سلكه - من قبل - سلفُه الطبري ضارباً عرض
الجدار مبدأ أمانة النقل!!!
ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً، لأنه قد اعتمد في رواياته التاريخية في
تاريخه وتفسيره معاً تاريخ الطبري، لا تفسيره، ولا شك أنّه قد مرّ على هذه القصة في
تاريخ الطبريّ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ في
هذه الحادثة وعمد بصورة غير متوقعة الى نقل رواية التفسير!!!
3- والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه في عصرنا الحاضر وزير المعارف المصرية
الأسبق الدكتور "هيكل" في كتابه "حياة محمّد"، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل
الحاضر.والعجب ان "هيكل" هاجم في مقدمته جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف
لتحريفهم الحقائق التاريخية، واختلافهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا
السبيل فهو :
أولاً :نقل الواقعة المذكورة (دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء
الدعوة) في الطبعة الاُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من
الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً الحضور في ذلك
اليوم :"من يُؤازرني يكونُ أخِي ووصيّي وخلِيفتِي" بينما حذف بالمرة الجملة
التي قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لِعلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن
موآزرته للنبيّ وهي قوله صلّى اللّه عليه وآله :"إنّ هذا أخي ووصيّي وخلِيفتي"!!!
ثانياً :انّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة، خطوة أبعد حيث حذف كلتا
الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب.وقيمة كتابه، كدراسة
تاريخية!!
النبوّة والإمامة توأمان
إن الاعلان عن وصاية عليّ عليه السّلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر
النبوّة يفيد بقوة ووضوح انّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصلين، ففي اليوم الّذي
يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوّته، يعيّن خليفته ووصيّه من بعده، وهذا يشهد
بجلاء بأن النبوّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة، وأن هذين المنصبين إن هما الا
كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء.
كما أن هذه الحادثة تكشف من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية التي كان يتحلّى بها
الإمام اميرُ المؤمنين "عليُّ بن ابي طالب" عليه السّلام، حيث قام في مجلس أحجم فيه
الشيوخ الدُهاة والسادة المجرّبون عن قبول دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله خوفاً
وتهيّباً وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته
هو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم
كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!
صحيح ان "عليّاً" عليه السّلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلا أن
معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأت قلبهُ لتقبُّل الحقائق التي تردّد شيوخ القوم في
قبولها، بل عجزوا عن دركها وفهمها!
ولقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق الكلام في هذا المجال اذ قال :فهل يُكلَّف عملُ
الطعام، ودعاء القوم صغير غير مميّز، وغِر غير عاقل، وهل يؤتمن على سرّ النبوة
طفل... وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلا عاقل لبيب، وهل يضع رسولُ اللّه صلّى
اللّه عليه وآله يده في يده، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة، والخلافة، الا
وهو أهل لذلك، بالغ حدّ التكليف، محتمل لولاية اللّه، وعداوة أعدائه، وما بال هذا
الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله، ولم يُر مع الصبيان في ملاعبهم بعد
اسلامه، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من
ساعاته بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه، مصمماً في أمره، محققاً لقوله بفعله،
قد صدّق اسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بين جميع
من حضرته فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته9.
1- السيرة النبوية :ج
1 ص 245 و262.
2- تاريخ الطبري :ج 2 ص 61.
3- هذا البيت كان عند جبل الصفا، وكان معروفاً إلى مدة ب: "دار الخيزران" اُسد
الغابة : ج 4 ص 44، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج 1 ص 192، السيرة
الحلبية :ج 1 ص 283.
4- الشعراء :214.
5- الحجر :94 و95.
6- تاريخ الطبري :ج 2 ص 62 و63، تاريخ الكامل : ج 2 ص 40 و41، مسند أحمد : ج 1 ص
111، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ص 210 و211.
7- تفسير الطبري :ج 19 ص 74.
8- البداية والنهاية :ج 2 ص 40.
9- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 13 ص 215 و295. |