سيرة سيد المرسلين> بدء البعثة

سفرة إِلى الطائف

الدعوة في أسواق العرب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يعود إِلى مكة
  دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج


انقضت السنة العاشرة بكل حوادثها الحلوة والمرة، فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقد في هذا العام حامييه الكبيرين المتفانيين في سبيله، ففي البداية فقد كبير بني عبد المطلب وسيدهم، والمدافع الوحيد عن حوزة الرسالة الاسلامية، والذاب بالاخلاص عن حياض الشريعة المحمّدية، والشخصية الاولى في قريش اعني "أبا طالب" عليه السلام.

ولم تنمحِ آثار هذه المصيبة المرّة عن خاطر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بعد إِلا وفاجأته مصيبة وفاة زوجته الوفية العزيزة، السيدة خديجة الكبرى التي جددت برحيلها عنه أحزان النبيّ وآلامه الروحية1.

لقد حامى أبو طالب ودافع عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وحافظ على حياته وسلامته ومكانته، بينما ساعدت خديجة بثروتها الطائلة في نشر الاسلام وقدمت في هذا السبيل خدمات عظيمة لا تنسى.

من هنا سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تلك السنة بعام الحداد، او الحزن2.

ومنذ أن توفّى اللّه هذين الحاميين العظيمين والمدافعين القويين عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ظروفاً صعبة جداً قلما واجهها من قبل.

فقد واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله منذ حلول السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له، والحقد عليه، وصارت الاخطار تهدد حياته الشريفة في كل لحظة، وقد فقد كل الفرص لتبليغ الرسالة وكل امكانات الدعوة الى دينه.

يقول ابن هشام في هذا الصدد: ان "خديجة بنت خويلد" و"أبا طالب" هلكا (اي توفيا) في عام واحد فتتابعت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المصائب بهلك خديجة وكانت له وزيرة صدق على الإسلام... وبهُلك عمّه أبي طالب وكان له عضداً، وحرزاً في أمره، ومنعةً وناصراً على قومه وذلك قبل هجرته إِلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً.

ولما نثر ذلك السفيه على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذلك التراب دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيته والتراب على رأسه، فقامت إِليه إِحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول لها:"لا تبكي با بُنيّة فإنّ اللّه مانع أباك".

ويقول بين ذلك:"ما نالت مني قريش شيئاً أكرَهُهُ حتّى مات أبو طالب"3.

ولأجل تزايد الضغط والكبت هذا قرر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن ينتقل من المحيط المكي إِلى محيط آخر يتسنى له تبليغ رسالته.

وحيث انّ الطائف كانت تعتبر آنذاك مركزاً هامّاً، لذلك رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان يسافر لوحده الى الطائف، ويجري بعض الاتصالات مع زعماء قبيلة ثقيف وساداتها ويعرض دينه عليهم علّه يحرز نجاحاً ويكسب انصاراً جدداً لرسالته من هذا الطريق.

ولما انتهى صلّى اللّه عليه وآله الى الطائف عمد الى نفَر من قبيلة "ثقيف" هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم، وجلس صلّى اللّه عليه وآله إِليهم، ودعاهم إِلى اللّه، فلم يؤثر فيهم كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالوا له: لئن كنت رسولاً من اللّه كما تقول لأنت أعظمُ خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئِن كنت تكذب على اللّهِ ما ينبغي لي ان اكلمك.

فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من ردّهم الصبياني أنهم يحاولون التملُّص من قبول الدعوة واعتناق الاسلام، فقام صلّى اللّه عليه وآله من عندِهِم بعد ان طلب منهم أن يكتموا ما جرى في هذا اللقاء خشية أن يعرف سفهاءُ ثقيف فيتجرأوا عليه ويتخذوا ذلك ذريعة لاستغلال غربته ووحدته، ومن ثم إِيذائه، فوعدوه بالكتمان، ولكنهم - وللاسف - لم يحترموا وعدهم هذا الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، وفجأة وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه محاطاً بجمع كبير من اولئك السفهاء يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس، وألجأوه إِلى بستان لعتبة وشيبة إِبني ربيعة وهما فيه في تلك الساعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إِلى ظلٍ فجلس فيه وهو يتصبب عرقاً، وقد الحقوا الاذى بمواضع عديدة من بدنه الشريف ورجلاه تسيلان من الدماء، وابنا ربيعة ينظران اليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد كانا من أثرياء قريش، يومئذ.

فلما اطمأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله توجه الى ربه وناجاه قائلاً:"أللّهُمّ إِليك أشكُو ضعفَ قُوّتي، وقِلَّةَ حيلَتي، وهواني على النّاسِ، يا أرحمَ الرّاحِمين، أنت ربُّ المُستضعفِين، وأنت ربّي، إِلى من تكِلُنِي، إِلى بعيدٍ يتجهّمُنِي؟ أم إِلى عدُوٍ ملكتَهُ اَمري؟

إِن لم يَكُن بِكَ عليَّ غضبُ فلا اُبالِي، ولكِن عافِيتك هِي أوسعُ لِي.

أعُوذُ بِنُورِ وجهك الذي اشرقت لَهُ الظُّلُماتُ، وصلُحَ عليهِ أمرُ الدُّنيا والآخِرة مِن أن ينزِلَ بي غضبُكَ، أو يحِلَّ عليّ سُخطُك.

لك العُتبى حتّى ترضى، ولا حولَ ولا قُوّةَ إِلا بِك"4.


هذه الكلمات وهذا الدعاء هي استغاثة شخصية عاش خمسين سنة عزيزاً مكرماً في ظلّ حماية من دافعوا عنه بصدق واخلاص ودفعوا عنه كل اذى ولكنه الآن يضيق عليه رحب الحياة حتى يلجأ الى حائط عدوٍ من اعدائه، ويجلس في ظل شجرة، مكروباً موجعاً ينتظر مصيره.

فلما رآه إِبنا ربيعة "عتبة وشيبة" وكانا من الوثنيين ومن أعداء الاسلام، وشاهدوا ما لقي من الأذى والعذاب، رَقّا لَهُ فدعوا غلاماً لهما نصرانياً من اهل نينوى يقال له "عداس" فقالا له: خذ قطفاً من العنب فضَعُه في هذا الطبق ثم اذهب به الى هذا الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل بالعنب حتى وضعه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم قال له: كل، فلما وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيه يده قال: "بسم اللّه الِرحمن الرحيم".

فتعجب عداس من ذلك بشدة وقال: واللّه إِنّ هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ومِن أهل أي البلاد أنتَ وما دينك؟

قال: أنا نصراني، من أهل نينوى.

قال صلّى اللّه عليه وآله: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.

فقال له عداس: وما يدريك ما (من) يونس بن متى؟

فقال صلّى اللّه عليه وآله5: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيّ، أنا رسول اللّه، واللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متى.

فأكبَّ عداس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد رأى في كلماته علائم الصدق وآيات الحق، وجعل يقبِل رأسَه ويديه، وقدميه، وهما تسيلان من الدماء، وآمن به، ثم عاد بعد الاستئذان منه صلّى اللّه عليه وآله إِلى صاحبيه في البستان.

فتعجب ابنا ربيعة لِما رأياه في غلامهما عداس من الانقلاب الروحي العجيب، وسألاه قائلين: ويلك يا عداس ما لك قبّلت رأس هذا الرجل، ويديه وقدميه وماذا قال لك؟

فاجابهما الغلام قائلاً: يا سيدَيَّ ما في الارض شيء خير من هذا، هذا رجل صالح لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إِلا نبيّ.

فشقَّ كلامُ عداس على إِبني ربيعة، وقالا له بنبرة الناصح له: ويحك يا عداس، لا يصرفنّك هذا الرجلُ عن دينك، فان دينَك خير من دينه6.

النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يعود إِلى مكة
انتهت ملاحقةُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بلجوئه الى حائط ابني ربيعة، وكان عليه الآن، وبعد أن يئس من خير ثقيف ان يعود إِلى مكة، ولكنّ عودته إلى مكة لم تكن لتخلو عن مشاكل، لأنه قد فقد نصيره وحاميه ومدافعه الاكبر والاوحد فكان من المحتمل جداً أن يقبض عليه المشركون ويسفكوا دمه.

فقرر صلّى اللّه عليه وآله ان يبقى في منطقة "نخلة" (وهي واد بين الطائف ومكة) بعض الوقت.

لقد كان يريد أن يرسل أحداً إِلى شخصية من شخصيات قريش يطلب منها ان تجيره حتى يدخل مكة بجوار، ولكنه صلّى اللّه عليه وآله لم يجد من يقوم له بهذه المهمة. فترك "نخلة" إِلى حراء، وهناك التقى رجلاً خزاعياً وطلب منه أن يأتي "المطعم بن عدي" بمكة، وكان من الشخصيات المكية البارزة ويسأله أن يجير رسول اللّه ليدخل مكة في أمان من اذى قريش وكيدها.

فدخل الخزاعيّ مكة، وأبلغ المطعم ما طلبه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقبل المطعم - رغم كونه وثنياً مشركاً - ان يجير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال للخزاعي: ائته فقل له: إِني قد أجرتك فتعال.

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكة ليلاً ونزل في بيت مطعم مباشرة، وبات ليلته هناك، ولما طلعت الشمس من صبيحة غد قال مطعم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: لتعلمنّ قريش بانك في جوارنا، فاصحبنا إِلى البيت، ليروا جوارنا.

فاستحسن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رأيه فاخذ المطعم وأهلُ بيته السلاح ودخلوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في المسجد الحرام، وكان ورودهم في المسجد بهيئة رائعة.

وكان أبو سفيان قد كمن للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله ليكيد به، فلما رأى هذا المشهد المهيب غضب غضباً شديداً، وانصرف عن ايذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فجلس المطعم وولده وأختانه واخوه، وطاف رسول اللّه بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إِلى منزله7.

ولم يمض على هذه الحادثة زمان طويل حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ولكن يمكن الاجابة على هذا بأن الإجارة كانت امراً عادياً في ذلك العصر، ولم يكن فيها ما يوجب شيئاً على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم تستلزم منه عليه.

ثم ما المانع في مثل هذا الجوار لو ترتبت عليه مصالح علياً، كتمكين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الدخول بسلام الى مكة، وتمكنّه من القيام بمهامّه الرسالية، خاصة ان هذا الجوار لم يستغرق إِلا يوماً أو بعض يوم وتسنّى بعده لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ترتيب اوضاعه في مواجهة الاخطار التي كانت تتهدده من جانب المشركين بمكة.

وآله من مكة إِلى المدينة، وتوفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّر صلّى اللّه عليه وآله إِحسانه وجوارَه، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتذكره كثيراً، حتى انه تذكره في واقعة "بدر" التي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير، فتذكر مطعم بن عدي ثمة وقال صلّى اللّه عليه وآله:"لو كان مطعم بن عديّ حياً لوهبت له هؤلاء"8.

نقطة هامة
إِنَّ سفر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبره صلّى اللّه عليه وآله كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة، وخلقه العظيم.

ولكن الاهمّ من هذا وذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة، ومعرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئاً إِلا أن اجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وحماه يوماً او بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ودافع عنه وخدمه عمراً كاملاً، ولقي في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلاً.

فاذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في "بدر" تقديراً لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة، فماذا عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إِليه عمُّه وحاميه وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً، أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بأيامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الاسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة، وحمايةً لصرح النبوة، مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية، ومعلم الانسانية، وهاديها العظيم.

كيف لا، والفرق بين هذين الشخصين كبير، والبون شاسع، فمطعم رجل وثني مشرك، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من كبار الشخصيات الاسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب

كانت العرب تجتمع - في مواسم الحج - في نقاط مختلفة مثل: "عكاظ" و"المجنة" و"ذي المجاز"، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال، والتفاخر، والعشق.

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة - كغيرها - لابلاغ رسالة ربه الى الناس، ولم يكن لاحدٍ منعه او الكيد به لحرمة القتال والجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كان صلّى اللّه عليه وآله اذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلاً:"قُولُوا لا إِله إِلا اللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العرَب وتذِلُّ لكُمُ العَجمُ، وإِذا آمنتمُ كُنتُم مُلُوكاً في الجنَّة"9.

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها، ويقف على منازلهم منزلاً منزلاً، ويعرض دينه عليهم، ويدعوهم إِلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ مرسل10.

وربما مشى خلفه عمُّه "أبو لهب" فاذا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس: يا بني فلان إِن هذا إِنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إِلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

وقد قدمت جماعة من بني عامر إِلى مكّة فدعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِلى الاسلام، وعرض عليهم نفسه، فقبلوا أن يعتنقوا الاسلام إِلا أنهم اشترطوا عليه أن يكون إِليهم خلافته من بعده إِذ قالوا: أرأيت إِن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على من خالفك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"الأمرُ إِلى اللّهِ يضَعه حيثُ يشاءُ".

فرفضوا اعتناق الاسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رجعُوا إِلى شيخ لهم طاعنٍ في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إِلى ان نمنعه11 ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبّخهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال:يا بني عامر والذي نفسُ فلان بيده ما تقوَّلَها اسماعيلي قط12، وإِنّها لحق، فاين رأيكم كان عنكم؟13.

ان هذه القضية التاريخية تفيد - في ما تفيد - بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمر تنصيصي، تعييني، لا انتخابي، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعود إِلى اللّه تعالى، ولا خيار للناس فيه، وانما عليهم الطاعة والرضا.


1- جاء في تاريخ الخميس: ج 1 ص 301 انه قيل بأن "خديجة" توفيت بعد "أبي طالب" بشهرٍ وخمسة أيام، بينما ذهب آخرون مثل ابن الأثير في الكامل: ج 2 ص 63 الى أن السيدة خديجة توفيت قبل أبي طالب، لا بعده.
2- تاريخ الخميس: ج 1 ص 301، السيرة الحلبية: ج 1 ص 347.
3- السيرة النبوية: ج 1 ص 415 و416، بحار الأنوار: ج 19 ص 5 عن إِعلام الورى عن محمّد بن اسحاق بن يسار.
4- السيرة النبوية: ج 1 ص 420.
5- وفي رواية البحار ج 19 ص 6 جملة اعتراضية هنا: - وكان لا يحقر أحداً أن يبلغه رسالة ربه -.
6- السيرة النبوية: ج 1 ص 419 - 421، بحار الأنوار: ج 19 ص 6 و7 و22 مع اختلاف يسير.
7- السيرة النبوية:ج 1 ص 381، بحار الأنوار: ج 19 ص 7 و8. ويستبعد بعض المحققين ان يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد طلب الجوار من مشرك أو دخل في جوار مشرك، على غرار عدم قبوله الهدية من المشرك وذكر لذلك ادلة ووجوهاً.
8- المغازي للواقدي: ج 1 ص 110 ثم قال الواقدي: وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اجارة حين رجع من الطائف، طبقات ابن سعد: ج 1 ص 210 و212، البداية والنهاية: ج 3 ص 137.
9- الطبقات الكبرى: ج 1 ص 216.
10- قال ابن هشام: كان صلّى اللّه عليه وآله لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إِلا تصدّى له فدعاه الى اللّه وعرض عليه ما عنده.
11- أي نحميه.
12- أي ما ادعى النبوة كاذباً احد من بني اسماعيل.
13- السيرة النبوية: ج 1 ص 424 و425.