الحصار الاقتصادي والاجتماعي
إن أبسط وسيلة وأسهلها لضرب الأقليات في أي مجتمع، والقضاء عليها هو ما يسمى
بالمكافحة السلبية التي تقوم أساساً على اتحاد الأكثرية واتفاقها على مقاطعة
الأقليّة المتمرّدة.
إن عكس هذا يحتاج إلى أدوات متعددة مختلفة، لأنه يتطلب مثلاً ان يحمل جماعة من
المقاتلين السلاح، وتتوجه نحو الاهداف المطلوبة عبر التضحية بقدر كبير من الأنفس
والأموال، وازالة العشرات من الموانع والسواتر، وهو أمر لا يُقدم عليه القادة
المحنّكون إلا بعد توفّر كل مستلزمات المواجهة واتخاذ جميع التدابير اللازمة،
والاستعداد الكامل، وبالتالي لا يقدمون على هذه الخطوة ما لم تدعُ الضرورة اليها،
وتنحصر الحيلة في القتال.
ولكنّ المكافحة السلبية لا تتوقف على مثل هذه الاُمور، بل تحتاج الى أمر واحد وهو
اتفاق الأكثرية.
يعني أن يتفق من يعنيهم الأمرُ ولهم عقيدة واحدة ويتحالفوا في ما بينهم بصدق على أن
يقطعوا كل صلاتهم وعلاقاتهم بالأقليّة المعارضة، فيحرّموا التعامل التجاريّ معهم
ويوقفوا الاتصال العائليّ بهم، ولا يشركوهم في اعمالهم الاجتماعية ولا يتعاونوا
معهم في اُمورهم الشخصيّة أيضاً.
في مثل هذه الحالة تضيق الأرض على الأقلية بما رحبت وتغدو الدنيا لهم على سعتها
كسجن ضيق وصغير، ويصيرون عُرضة للانهيار والسقوط بأقلّ قدر ممكن من الضغط عليها.
إن الاقليّة المخالفة المتمرّدة ربما تستسلم- في هذه الحالة- وتؤوب من منتصف
الطريق، وتطيع إرادة الأكثرية.
ولكن أقلية كهذه لا بد أن تكون ممّن لا تعود مخالفتها للأكثرية إلى أمر عقائديّ ولا
يكون لانفصالها عن الاكثرية طابع اُصولي مبدأيّ، كما لو كان خلافها مع الاكثرية
مثلاً على تحصيل ثروة أو منصب مهمّ أو ما شاكل ذلك.
فان مثل هذا الاقلية اذا أحسّت بخطر جدّي، أو واجهت العذاب والسجن والحصار ستتراجع
عن مخالفتها وتعود إلى طاعة الاكثرية مُؤثرة اللّذة العابرة المؤقّتة على اللذة
الإحتمالية، لأنها لم تنطلق من دوافع ايمانية اصيلة، ولم يكن المحرك لها محركاً
روحياً معنوياً.
ولكن الجماعة التي يقوم خلافُها للاكثرية على أساس الإيمان بهدف مقدس، لن تنصاع
أبداً لمثل هذه الضغوط، ولن تنثني أمام هذه الرياح والعواصف، ولا يزيدها ضغطُ
الحصار الا صلابة وقوة، وإصراراً وعناداً، وتردُّ جميع ضربات العدوّ بالصبر
والإستقامة.
إن صفحات التاريخ البشريِّ تشهد بأن أقوى العوامل لثبات كل أقليّة وصمودها في وجه
الأكثرية هو: قوةُ الايمان، وعاملُ الإعتقاد، الذي ربما يؤدّي رسالة الثبات
والمقاومة ببذل آخر قطرة دم في ساحة المواجهة.
ولنا على هذا عشرات بل ومئات الأمثلة من التاريخ الغابر والحاضر.
قريش تحاصر النبيّ والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً
لقد شقّ على قريش انتشار الإسلام المتزايد وأزعجها نفوذه العجيب في القبائل العربية
في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة ولهذا كانت تفكر باستمرار في حلّ لهذه
المشكلة.
فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين
في الاسلام، وحرية العمل والتحرك التي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض
الحبشة، كل ذلك زاد من حيرة واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة، التي زادها حيرة،
وانزعاجاً، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين، وعدم حصولها على أية
نتائج تذكر!!
من هنا فكرت في خطة جديدة، وهي ان تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ
والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية للمسلمين، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار
الإسلام وتقف دون نفوذه، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة
التوحيدية، وأنصاره.
ولهذا اجتمع زعماء قريش في "دار الندوة" ووقّعوا ميثاقاً كتبه "منصور بن عكرمة"
وعلّقوه في جوف الكعبة، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتى الموت.
ونص هذا العقد على الاُمور التالية
1- أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ولا يبيعوهم شيئاً.
2- ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.
3- أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.
4- ان يكونوا يداً واحدة على "محمّد" وانصاره.
وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُّ الشخصيات البارزة في قريش إلا
"مطعم بن عدي" وأعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة وإصرار.
فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالب عليه السّلام بذلك جمع بني هاشم وبني المطلب
وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والحفاظ على حياته
وسلامته، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال مكة يعرف بشعب أبي طالب
فيه بعض البيوت العادية، والسقائف البسيطة جداً، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن
المجتمع المكّي المشرك.
وعمد الى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي هجوم مباغت
تقومُ به قريش1.
وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث
ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الا انها لم
تؤثر فيهم قط.
كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم، وربما تناصف اثنان تمرة
واحدة، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الا في الاشهر الحرم
حيث يسود الأمنُ كل انحاء الجزيرة العربية.
فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى
الشعب إلى الموسم الثاني.
وكان النبي صلّى اللّه عليه وآله يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه، والدعوة
الى ما أتى به.
وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل
من الأشكال حتى في هذه المواسم، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا
مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!
وكان "أبو لهب" اكثر الناس اصراراً على هذا العمل، فقد كان ينادي في الأسواق: يا
معشر التجار، غالوا على أصحاب محمّد حتى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء
ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع
الرجل المسلم إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به، ويغدو
التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس!!2.
وكان "الوليد بن المغيرة" ينادي: أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا
عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى الاسواق فيشترونها فيغلونها عليهم.
وضع بني هاشم المأساوي في الشِّعب
لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه
ايديهم من الخبط وورق السمر حتى أن "سعد بن أبي وقاص" يقول: لقد جعت حتى أني وطئتُ
ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو الى الآن3.
هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام
إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء إلا سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.
فقد روي أن "حكيم بن حزام" (ابن اخ خديجة) و"أبا العاص بن الربيع" و"هشام بن عمرو"
كانوا يسرّبون الى "بني هاشم" في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام، فكان
الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها
فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم.
وربما صادفهم بعض جواسيس قريش، فهمُّوا بقتله، أو سبّبوا له بعض المتاعب.
فقد روي أن "حكيم بن حزام" خرج يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت
خويلد (زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكانت معه في الشعب طيلة أعوام
الحصار) إذ لقيه "أبو جهل" فقال له: تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت
ولا طعامك حتى أفضحَك عند قريش بمكة.
فقال له أبو البختريّ- وكان من أعداء الاسلام هو أيضاً-: تمنعه أن يرسل إلى عمته
بطعام كان لها عنده؟
فأبى "ابو جهل" أن يدعه إلا أن يأخذه إلى قريش، فقام إليه "ابو البختري" بساق بعير
فضربه ووطأه وطئاً شديداً4.
وخلاصة القول، أن قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله ومن تبعه حتى أن من كان يدخل "مكة" من العرب كان لا يجسر على أن يبيع من بني
هاشم شيئاً ومن باع شيئاً انتهبوا ماله، وكان "أبو جهل"، و"العاص بن وائل" و"النضر
بن الحارث بن كلدة"، و"عقبة بن أبي معيط" يخرجون إلى الطرقات التي تدخل "مكة" فمن
رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرون إن باع شيئاً منهم
نهبوا ماله.
كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم، وأبدت قريش لبني عبد
المطلب الجفاء.
ولكن لم يستطع كلُّ ذلك أن يفتّ في عضد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويقلل من
إصراره وثباته على الطريق، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.
وأخيراً تركت صرخاتُ أطفال بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر،
وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة،
وذلك الميثاق المشؤوم، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في
نقضها بشكل من الأشكال.
فمشى "هشام بن عمرو" الى "زهير بن أبي اُمية" (وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب
بناته) وقال له وهو يحثه على نقض الصحيفة: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس
الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا
يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟
أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم (أي أبي جهل) ثم دعوته الى ما
دعاك اليه منهم ما أجابك اليه أبداً؟
فقال زهير: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد واللّه لو كان معي رجل آخر
لقمتُ في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلاً.
قال فمن هو؟ قال: أنا.
قال له زهير: أبغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى "المطعم بن عدي" فقال له: يا مطعم أقد
رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما
واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعاً؟
قال: ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا رجل واحد.
قال: قد وجدت ثانياً.
قال: من هو؟ قال: أنا.
قال: أبغِنا ثالثاً.
قال: قد فعلتُ.
قال: من هو؟
قال: زهير بن أبي اُمية.
قال: أبغِنا رابعاً.
فذهب إلى "البختري بن هشام" فقال له نحواً ممّا قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من
أحد يعين على هذا؟
قال: نعم.
قال: من هُو؟
قال: "زهير بن أبي اُمية" و"المطعم بن عديّ" وأنا معك.
فقال: ابغنا خامساً.
فذهب إلى "زمعة بن الأسود بن المطلب" فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له: وهل
على هذا الأمر الذي تدعوني اليه من أحد؟
قال: نعم... ثم سمّى له القوم الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة
الظالمة.
فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفتهم لتلك الصحيفة.
فلمّا أصبحوا غدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل "زهير بن أبي اُميّة" على
الناس وقال:يا أهل مكة أنأكلُ الطعام ونلبسُ الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ
منهم؟ واللّه لا أقعدُ حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت واللّه لا تُشقّ.
فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلاً: أنت واللّه أكذبُ، ما رضينا كتابها
حيث كتبت.
وقال أبو البختري من ناحية مؤيداً موقف زميله: صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها، ولا
تقرّ به.
وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى اللّه منها، وممّا كتب
فيها.
وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.
فأحسَّ أبو جهل بأنّ ذلك كان أمراً مبيّتاً مدبّراً من قبل فقال:هذا أمر قُضِي بليل، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.
وكان أبو طالب- حسب بعض الروايات التاريخية- جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد،
فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها فوجد (الإرضة)5 قد أكلتها، إلا "باسمك
اللّهم" التي صُدّرت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودها ورسائلها.
فلما رأى "أبو طالب" ذلك رجع الى الشعب وأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه بما جرى،
وعاد المحاصرون في الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع "أبي طالب".
ويروي طائفة من المؤرخين أنّ "خديجة" و"أبا طالب" أنفقا أموالهما برمّتها خلال
سنوات المحاصرة.
وفجأة نزل ملك الوحي "جبرئيل" على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الشعب،
وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست (أو اكلت)
جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة "باسمك اللّهم" فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب
بذلك قائلاً يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط "الإرضة" على صحيفة قريش فلم تدع فيها
إسماً هو للّه إلا أثبتتهُ فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان.
فقال أبو طالب: إذن لا يدخلُ عليك أحد6.
ثم قام ولبس ثيابَهُ، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخص آخر حتى دخلوا المسجد على قريش وهم
مجتمعون فيه، فلما دَنا أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظّموه، وتباشروا وظنُّوا أن
الحصر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه، فقالوا له: قد آن لك ان تطيب
نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم (أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك).
فقال أبو طالب: واللّه ما جئت لهذا، ولكنّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه
تعالى أخبرهُ أنّه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم
وظلم وجور وترك اسم اللّه، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا
أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرّحم.
وإن كان باطلاً دفعتُه إليكم فان شئتم قتلتمُوهُ، وإن شئتم استحييتموه.
فقالوا: رضينا، وتعاقدوا على ذلك.
ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة، وعليها أربعون خاتماً.
فلما أتوا بها نظر كلُّ رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرف واحد إلا
"باسمك اللّهمّ"، كما اخبرهم بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
غير أنّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى إلى
الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ الى منازلهم بمكة إلا
بعد أن نقضها هشام.
وقد قال "أبو طالب" في مدح هذا (أي نقض الصحيفة القاطعة والنَّفر الذين قاموا
بنقضها) قصيدة مطوّلة جاء في مطلعها.
ألا هل أتى بحريُّنا7 صنعُ ربّنا
على نأيهم واللّه بالناس أرودُ8
فيخبرهم أنّ الصحيفة مُزّقت
وان كلُّ ما لم يرضه اللّه مُفسدُ9
هذه أمثلة ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة التي اتخذتها قريش
تجاه الدعوة المحمدية.
على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الذي
ذكرناه تماماً، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة
أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة
للبعثة الشريفة.
كما أنّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الاسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كان هناك أساليب اُخرى
سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وإضعاف عزيمته مثل وصفهم
للنبي صلّى اللّه عليه وآله بالأبتر.
فقد كان "العاصُ بن وائل السهمي" إذا ذكر رسول اللّه قال: دعوهُ، فانّما هو رجل
أبتر لا عقب له، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه.
فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر التي يقول فيها:﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.
وقد أخبر بها اللّه نبيّه بأنه سيهبُه ذرّية كثيرة10.
ولقد كتب العلامة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة11: المعنى أنه
يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ
منهم، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به.
ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال: ان محمّداً ابتر فان
مات مات ذكره، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول: ان كان
ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن اللّه سيجعل هذا
الواحد كثيراً.
1- السيرة النبوية: ج 1 ص 350، وتاريخ الطبري: ج 2 ص 78،
وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما
عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً***نبياً كموسى خُطَّ في أول الكُتب
2 و3- السيرة النبوية: ج 1 ص 337 الهوامش.
4- السيرة النبوية: ج 1 ص 354، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في
هذا العمل، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى، بل كان بدافع الربح
الاكثر لما ثبت- حسب قوله- من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله.
5- وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة:
ارض.
6- وإنّما اتخذ مثل هذا الاجراء حتى لا يفشو ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا
للصحيفة، ويكذّبوا بذلك خبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
7- يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
8- أي أرفقُ.
9- السيرة النبوية: ج 1 ص 377- 380 وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها، فراجع.
10- السيرة النبوية: ج 1 ص 393 وجميع التفاسير.
11- مفاتيح الغيب: الجزء الثلاثون سورة الكوثر.