سيرة سيد المرسلين> بدء البعثة

رأي قريش في القرآن

نموذَج آخر حُكمُ الوَليد في القرآن
الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم تحججاتُ قريش العجيبة
أسرار اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً القُرآن والنُّزُولُ التدريجيّ


ان البحث حول حقيقة الاعجاز القرآني أمر خارج عن اطار هدفنا في هذا الكتاب فذلك متروك إلى الكتب الإعتقادية والكلامية.

ولكن الأبحاث التاريخيّة تهدينا الى أن القرآن الكريم كان من أكبر وأقوى اسلحة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه وآله بحيث خضع أمام فصاحته البالغة وحلاوة كلماته وقوة آياته، وعباراته، اساتذة الفصاحة والبلاغة واُمراء البيان والكلام، وعمالقة الكتابة والخطابة. واعترفوا برمّتهم، وقضّهم وقضيضهم بأنَّ القرآن الذي جاء به محمّد يحتل أعلى مكان في الفصاحة والبلاغة، وأنّ مثل هذا الحديث لم يعرفه البشر ولم يعهد له التاريخ الانساني نظيراً.

فلقد كانت جاذبيّة "القرآن الكريم" وتأثير حديثه بحيث ترتعد عند استماع آياته فرائص أعدى اعدائه، وربما انهارت قواه، فبقي مدة طويلة، لا يقوى على حِراك، ولا يملك فعل شيء.

وفيما يلي نذكر بعض النماذج في هذا المجال

حُكمُ الوَليد في القرآن
كان "الوليدُ بن المغيرة" ممن يرجُع اليه العربُ لحل الكثير من مشاكلها وكان ذا سنٍّ، وثروة كبيرة فيهم.وعندما واجهت قريش مشكلة ظهور الإسلام وانتشاره في القبائل مشى فريق منهم إلى الوليد يلتمسون منه حلاً لهذا الأمر الذي بات يهدّد كيان الزعامة المكيّة الجاهلية، وطلبوا منه أن يبيّن رأيه في القرآن الكريم وقالوا : هل هو سِحر ام كهانة ام حديث قد حاكَهُ بنفسه.

فاستنظرهم "الوليد" ليعطي رأيه فيه بعد أن يسمع شيئاً من القرآن، فأتى الى الحجر حيث كان يجلس النبيُّ، ويتلو القرآن، فقال : يا محمّد أنشدني شعرك.
فقال النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله : ما هو بشعر، ولكنّه كلام اللّه الذي به بعث أنبياءه ورسله.
فقال :اُتلُ عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه :"بسم اللّه الرحمن الرحيم".

فلما سمع :الرحمان، استهزأ فقال :تدعو إلى رجل باليمامة يسمى بالرحمان؟ قال.لا، ولكني أدعو إلى اللّه وهو الرحمان الرحيم ثم افتتح سورة "حم السجدة" فلما بلغ إلى قوله تعالى :(فان أعرضوا فقل أنذرتُكُم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).
وسمعه الوليد، فاقشعر جلده، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ثم قام ومضى إلى بيته ولم يرجع الى قريش.
فقالت قريش :يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع الينا وقد قبل قوله، ومضى إلى منزله.
فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً وغدا عليه ابو جهل فقال : يا عم نكّست رؤوسنا وفضحتنا.
قال :وما ذاك يا ابن أخي؟
قال :صبوت الى دين محمّد.
قال :ما صبوتُ واني على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود فقال أبو جهل : أشِعر هو؟
قال :ما هو بشعر.
قال :فخطب هي؟
قال :لا وان الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور، لا يشبه بعضُه بعضاً، له طلاوة.
قال :فكأنه هي؟
قال :لا.
قال :فما هو؟
قال :دعني افكر فيه.
فلما كان من الغد، قالوا :يا ابا عبد شمس ما تقول؟ قال : قولوا : هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فأنزل اللّه سبحانه فيه :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا*وَبَنِينَ شُهُودًا الى قوله :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ 1 2.

نموذَج آخر
كان "عتبة بن ربيعة" من كبراء قريش واشرافها، ويوم أسلم "حمزة" وأصبح أصحاب رسول اللّه يزيدون ويكثرون اغتمّت قريش كلّها، وخشي زعماء المشركين ان ينتشر الإسلام اكثر من هذا فقال عتبة وهو جالس في نادي قريش يوماً، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم الى "محمّد" فاكلّمه وأعرض عليه اُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
فقالوا :بلى يا أبا الوليد قم اليه فكلّمه.
فقام إليه "عتبة" حتى جلس الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فقال : يا ابن أخي إنك منّا حيث ما قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني اُعرض عليك اُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قل يا أبا الوليد اسمع.

قال :يا ابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثرنا مالاً، وان كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريدُ به مُلكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّاً (وهو ما يتراءى للناس من الجنّ) تراه لا تستطيعُ ردّهُ عن نفسك طلبنا لك الطبّ، وبذَلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربّما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، حتى إذا فرغ "عتبة"، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يستمع منه قال : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم قال : فاسمع منّي، قال :إفعل، قال :﴿بِسم اللّه الرّحمنِ الرّحيم. حم. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *ب بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ 3.

ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيها يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه "عتبة" أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه وبقي على هذا مدة من الزمن صامتاً وكأنه قد سُلِب قدرة النطق، ثم انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى السجدة فسجد ثم قال:"قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك".فقام "عتبة" الى أصحابه وقد تغيّرت ملامحُه فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به !! فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال :ورائي اني قد سمعتُ قولاً واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللّه ليكوننّ لقوله هذا الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فان تصِبهُ العربُ فقد كفيتموه بغيركم، وان يظهر على العرب فمُلكه ملكُكُم، وعزُه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به.

فانزعجت قريش من مقالة "عتبة" هذا وسخرت به وقالت : سحرَك واللّه يا أبا الوليد بلسانه !!
قال :هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم4.
هذان نموذجان من رأي كبار فصحاء العرب في العهد الجاهليّ، في القرآن الكريم.على أن هناك أمثلة ونماذج اُخرى كثيرة في هذا المجال.

تحججاتُ قريش العجيبة
اجتمع "عتبة بن ربيعة"، و"شيبة بن ربيعة" و"أبو سفيان بن حرب"، و"النضر بن الحارث"، و"أبو البختري"، و"الوليد بن المغيرة"، و"ابو جهل" و"العاص بن وائل" وغيرهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض : إبعثوا الى "محمّد" فكلِّمُوه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه، فجاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلَّمهم فيه بداء وانهم قد غيّروا مواقفهم، وكان يحبّ رشدهم وهدايتهم حتى جلس إليهم.
فقالوا له :يا محمّد إنّا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وانّا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وشتمت الآلهة... ومضوا يعددون أُموراً من هذا القبيل ثم اقترحوا عليه اُموراً ذكرها اللّه تعالى بتمامها في الآية 90 إلى 93 من سورة الإسراء حيث يقول حاكياً عن لسانهم :"وقالُوا لن نُؤمن لك حتى:

1-تفجُر لنا مِن الأرض ينبُوعاً.
2-أو تكون لك جنّة مِن نخِيلٍ وعنب فتُفجر الأنهار خِلالها تفجيراً.
3-أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كِسفاً.
4-أو تأتي باللّه والملائكة قبيلاً.
5-أو يكُون لك بيت مِن زُخرُف.
6-أو ترقى في السماء ولن نؤمن لِرُقيِّك حتّى تُنزِّل علينا كِتاباً نقرؤه
ُ".

وحيث أنّ مضمُون هذه الآيات هو عدم تلبية النبيّ لِمطالبِ قُريش حيث قال : "قُل سُبحان اللّه ربّي هل كُنتُ إلا بشراً رسُولاً" قد تذرع به المستشرقون للايقاع بالرسالة المحمّدية لذلك نعمد هنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات والعلل المنطقيّة لعدم تلبية النبيّ مطالب قريش ومقترحاتهم.

الجواب :إنّ الأنبياء لا يأتون بالمعاجز في كل ظرف وزمان، فإن للاعجاز شروطاً خاصة لم تتوفر في هذه الاقتراحات، وهذه الشروط هي :

أولاً :أن لا تكون المعجزة من الاُمور المستحيلة التي لا يمكن تحقّقها، فإنّ مثل هذه الاُمور خارجة عن إطار القدرة، ولا تتعلق بها مشيئة اللّه تعالى ولا مشيئة أيّ صاحب إرادة مطلقاً.وعلى هذا الأساس إذا طلب الناسُ من النبيّ أمراً محالاً، فقوبل طلبهم بعدهم الاهتمام من قبل النبيّ لم يكن ذلك دليلاً على إنكار صدور المعجزة على أيدي الأنبياء قط.وهذا الشرط لم يكن متوفراً في بعض مقترحات المشركين المذكورة (المقترح الرابع) فانهم طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وآله ان يأتي لهم باللّه سبحانه وتعالى ليقابِلُوه وجهاً لوجه، ويروه جهرة ومن قريب، ورؤية اللّه تعالى امر محال، لأن رؤيته تستلزم أن يكون سبحانه محدوداً بالزمان والمكان، وأن يكون جسماً وذا لون وصورة وهو تعالى منزه عن المادّة ولوازم المادية.

بل حتى مقترحُهم الثالث لو كان المقصود منه أن تسقط السماء عليهم (لا أن تسقط قطعة من الصخر على رؤوسهم وتقتلهم) فان ذلك هو أيضاً من المحالات إذ أن المشيئة الالهية تعلّقت بان يفعل اللّه هذا في نهاية العالم، والنبي صلّى اللّه عليه وآله كان قد أخبر المشركين بهذا الأمر أيضاً كما يدل عليه قولُهم :"كما زعمت".

إنّ إنهدام المنظومة الشمسيّة وتبعثر النجوم وتساقطها وإن لم يكن في حد ذاته بالأمر المحال، ولكنّه حسب المشيئة الإلهية الحكيمة وإرادته النافذة القاضية بأن يستمر النوع البشري، ويصل إلى مرحلة الكمال يعدّ محالاً، ولا يمكن أن يفعل حكيم خلاف ما يقتضيه هدفه وغايته.

ثانياً:حيث أنّ الغاية المنشودة من اقتراح وطلب الإعجاز هو أن يستدِلّ به على صدق دعوى النبيّ، وصحة انتسابه الى اللّه، وبالتالي يكون بدافع تحصيل سند على ارتباطه بالعالم ما فوق الطبيعة، لذلك فان أيّ اقتراح ومطالبة بالمعجزة لا تتوفر فيها هذه الصفة يعني على فرض أن يلبيّ النبيُّ طلبهم ويأتي لهم بالمعجزة لا يكون ذلك دليلاً على ارتباطه بعالم الغيب، فحينئذٍ لا معنى ولا موجب لأن يقوم النبيُّ بما لا يرتبط بشؤونه ولا يخدم هدفه.

وقد كانت بعض مقترحات المشركين المذكورة من هذا النوع، وذلك مثل تفجير ينبوع من الأرض، أو أن تكون له جنّة من نخيل وعنب، أو أن يكون له بيت من زخرف وذهب، فان مثل هذه الاُمور لا تدل على نبوّة من يمتلكها إذ ما اكثر الذين يمتلكون واحدة من هذه الأشياء وليسوا مع ذلك بأنبياء، بل ربما يملكون اكثر من ذلك، ومع ذلك لا يشم فيهم رائحة الايمان فضلاً عن النبوة.

فاذا لم ترتبط هذه الأشياء بمقام النبوّة، ولا تكون دليلاً على صدق من يدّعيها كان الإتيان بها أمراً لغواً وعبثاً تعالى عنه مقام النبوّة، وجلّت عنه منزلة الأنبياء.

وقد يقال :إن هذه الاشياء 5 لا تدل على صدق دعوى النبي إذا حصلت عن طريق الأسباب العادية، ولكنّها لو حصلت بصورة غير عاديّة ولا متعارفة كانت ولا شك من المعاجز الالهية، ودلت على صدق النبي وصحة دعواه.

ولكنّ الظاهر أن هذه فكرة باطلة لأنّ المشركين كانوا يهدفون من اقتراحاتهم هذه أن يكون النبيُ صاحب مال وثروة، فقد كانوا يستبعدون أن يكون نبيُّ اللّه ورسولُه فقيراً لا يملك شيئاً من الثروة والمال، وكانوا يعتقدون انّ الوحي الالهي يجب أن ينزل على رجل غنيّ ذي طول وحول، ولذلك قالوا مستغربين ومستنكرين :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم6!

أي لماذا لما ينزل هذا القرآن على رجُل ثريّ من مكة أو الطائف.وممّا يدلّ على أن الهدف كان هو أن يملك النبيُ مثل هذه الاُمور بأي طريق كان، ولو بالطريق العاديّ أنهم كانوا يريدون هذه الاشياء للنبيّ نفسه إذ قالوا :﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ7.

وبعبارة اُخرى :كانوا يقولون إذا أنت لا تمتلك بستاناً أو بيتاً من ذهب فاننا لن نؤمن لك !

ولو كان الهدف هو أن يحصل هذان الأمران بواسطة القدرة الغيبية لم يكن وجه حينئذٍ لقولهم :ما لم يكن "لكَ" بيت من زخرف، فاننا نؤمن بك بل كان يكفي أن يقولوا : إذا لم تحدِث وتوجد بيتاً وجنّة فاننا لن نؤمن لك.
أمّا قولهم في مطلع اقتراحاتهم :"تُفجَر لنا من الأرض يُنبُوعاً" فان مقصودهم لم يكن هو أن يستخرج لهم بالاعجاز ينبوعاً لينتفعوا به، بل يفعل ذلك لكي يؤمنوا به.

ثالثاً :ان المقصود من المعجزة هو الاهتداء في ضوئها إلى صحّة دعوى النبيّ وصدق مقاله، والإيمان بمنصبه، والإعتقاد بمقامه، وعلى هذا إذا كان بين المقترحين للمعجزة من يكونُ الاتيان له بالإعجاز سبباً لإيمانه بالنبيّ، فحينئذٍ كان الاتيان بالمعجزة وتلبية اقتراحه أمراً مستحسناً، وغير مقبوح عقلاً.

أما إذا كان المقترحون يقترحون عناداً ولجاجاً، أو يطلبون ما يطلبونه لهواً وتسليةً كما يفعل الناس مع السحرة والمرتاضين فان منزلة الأنبياء أجلّ - حينئذٍ - من أن يلبي مثل هذه المقترحات، ويستجيب لمثل هذه المطالب، وقد كانت بعض إقتراحات المشركين من هذا النمط.

فان مطالبتهم بأن يصعد النبيُّ الى السماء، أو أن يُنزل من السماء كتاباً يقرأُونه لم يكن بهدف إكتشاف الحقيقة لأنهم لو كانوا ممن يهدف الوصول الى الحقيقة فلماذا لم يكتفوا بمجرّد صعوده الى السماء بل كانوا يصرّون على أن يضمَّ أمراً آخر إلى عروجه وصعوده (وهو أن ينزّل معه كتاباً)!

ثم انه يُستفاد من آيات اُخرى، غير هاتين الآيتين ايضاً، أنهم كانوا سيعاندون، ويصرون على كفرهم حتى بعد نزول الكتاب عليهم من السماء كما يصرح بذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ 8.

فمن غير المستبعد أن يكون الكتابُ المنزّلُ في قرطاس إشارة إلى إقتراح المشركين الذي جاء ضمن آيات سورة الاسراء أي قولهم :﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُه9 فقال اللّه سبحانه :حتّى لو فعلنا لهم ذلك لكفروا، واحجموا عن الإيمان.

رابعاً :إنّ طلب المعجزة إنّما هو لأجل أن يستتبع الاتيانُ بها الإيمان بالرسالة والانضمام الى صفوف المؤمنين، فاذا كانت نتيجةُ المعجزة هي إباء المقترحين استلزم ذلك نقض الغرض المنشود من المعجزة، وانتفاء فائدتها.

فاذا كان المقصود من سقوط السماء عليهم، هو نزول الصخور السماوية لابادتهم فان هذا الطلب لا يتفق أبداً مع هدف الإعجاز وهو من أوضح مصاديق نقض الغرض.

وبالتالي ينبغي أن نذكّر بنقطة وهي :أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله - على خلاف ما تصوّر المستدلّون بهذه الآية على نفي أية معجزة لرسول الإسلام - لم يصف نفسه بالعجز وعدم القدرة على الاتيان بالمعجزة بل أفاد بقوله :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً 10أمرين :

1-تنزيه اللّه، فهو بقوله :"سبحان ربّي" نزّه اللّه تعالى عن كل عجز ونقص كما نزّهه عن الرؤية ووصفه بالقدرة على كل شيء ممكن.

2-محدوديّة قدرة النبيّ، إذ بقوله صلّى اللّه عليه وآله : "هل كُنتُ إلا بشراً رسُولاً" أفاد بأنه امرؤ مأمور لا أكثر وأنه مطيع لأمر اللّه وإرادته فهو يأتي بما يريد ربُّه، والأمرُ إلى اللّه كله، وليس للنبيّ أن يُلبّي أي طلبٍ واقتراحٍ بارادته.

وبعبارة اُخرى : ان الآية ركّزت في مقام الجواب على طلبهم بعد تنزيه اللّه عن العجز والرؤية على كلمتي :"البشر والرسول" والهدف هو انه :إذا أنتم قد طلبتم هذه الاُمور منّي من جهة إنني بشر، كان طلبكم هذا طلباً غير صحيح، لأن هذه الاُمور تحتاج إلى قدرة الهية.

وإن طلبتموها منّي من جهة اني نبيٌّ رسول فان النبي والرسول ما هو إلا إمرؤ مأمور يفعلُ ما يأذنُ به اللّه، وليس له ان يفعل ما يشاء هو دون إرادة اللّه تعالى.وبهذا اتضح أن هذه الآيات لا تدلُّ على ما استدل به النافون لمعاجز النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.وكان ممّا تحججت به قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله انّهم قالوا :لو كان مُحمّد نبيّاً لشغلته النبوةُ عن النساء ولأمكنه جمع الآيات (اي لأتته الآيات دفعة واحدة) ولأمكنه منعُ الموت عن أقاربه ولما مات أبو طالب وخديجة فنزل قولُه تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.وبذلك ردّ عليهم 11 12.

الدوافع وراء معاداة قريش وعنادهم
هذا القسم هو احدى النقاط الجديرة بالدراسة في تاريخ الإسلام، لأن المرء قد يسائل نفسه : لماذا ترى كانت قريش تعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أشدّ المعارضة رغم أنها كانت تعتبره الصادق الأمين ولم تعهد منه انحرافاً أو خطأ قط وكانت تسمع كلامَه الفصيح البليغ الذي يأسر القلوب، وربما شاهدوا حدوث بعض الخوارق للعادة، الخارجة عن حدود القوانين الطبيعية على يديه.

إن لهذا التمرد والمعارضة الى علة او علل عديدة هي
1
-حسدُهُم للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم
صلّى اللّه عليه وآله وخالفه فريق ممن عارضه بسبب حسدهم له، فقد كانوا يتمنُّون أن يكونوا هم صاحب هذا المنصب، وصاحب هذه المنزلة.فقد قال المفسِّرون عند قوله تعالى :﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ13 أن "الوليد بن المغيرة" قال :أيُنزَّل على محمّد واُترك وأنا كبير قريش وسيّدها ويترك "ابو مسعود عمرو بن عمير الثقفي" سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين فأنزل اللّه تعالى فيه الآية 14.

وروي انه قال :واللّه لو كانت النبوّة حقاً لكنتُ أولى بها منك لأنَّنِي اكبرُ منك سناً وأكثر منك مالاً15.
وكان "اُميّة بن أبي الصلت" من الذين كانوا يقولون هذا الكلام حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكان يتمنى كثيراً أن ينال هو هذا المقام ويخظى بهذا المنصب العظيم، ولم يتبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى آخر حياته، وكان يؤلّب الناس عليه.وقد سأل "الاخنسُ بن شريق" وهو من أعداء رسول اللّه أبا جهل يوماً :يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعتَ من "محمّد"؟

فقال :ماذا سمعتُ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعمُوا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاذبنا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا : منّا نبيّ يأتيه الوحيُ من السماء، فمتى تدركُ مثل هذه، واللّه لا نؤمنُ به أبداً ولا تصدّقه16.

هذه النماذج تُظهِرُ الحسد الذي كان يحول بين زعماء قريش وساداتها وبين إتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتصديقه، فعتوا على اللّه وتركوا أمره عياناً، ولجّوا فيما هم عليه من الكفر، وهناك نماذج وأمثلة اُخرى سجّلتها صفحات التاريخ أعرضنا عن إدراجها هنا.

2-معارضة الدعوة الإسلامية لشهواتهم
وكان لهذا العامل الأثر الاكبر في عتو قريش ومعارضتها لدعوة النبي صلّى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا أصحاب لهو ولعب، وفسق ومجون، ومثل هؤلاء الذين أمضوا سنوات عديدة على هذا النحو، دون ان يقيّدهم شيء من الحدود والقيود، وجدوا دعوة النبي صلّى اللّه عليه تخالف عادتهم القديمة، وكان ترك مثل تلك العادة التي تتفق مع أهوائهم ورغباتهم النفسيّة أمراً يلازم النصب والعناء والجهد.

3-الخوف مِن عُقُوبات اليوم الآخر
إن سماع آيات العذاب التي تنذر الفسقة والظالمين وتوعدهم بالعقوبات الثقيلة ارعب قلوبهم، وأقلق نفوسهم بِشدة.
فعندما كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتلو الآيات المتعلّقة بيوم القيامة وأوضاعه، وقضاياه في الاجتماعات والاماكن العامة، كان يحدث بذلك ضجةً كبرى في أوساطِهم، فيهدم مجالس لهوهم، واُنسهم.

إنّ العربي الذي كان يسلِّحُ نفسه بكل ما استطاع من سلاح ليدفع عن نفسه أيّ خطر محتمل، ويعمد الى ممارسة القرعة ويتعاطى الانصاب والازلام ليحصل على لقمة عيشه، ويتفأل بالأحجار، ويتطيّر ويتشاءم بالطيور ويستدلُّ بحالاتها على حوادث وقعت أو تقعُ، لم يكن على استعداد لأن يهدأ من دون ان يحصل على ضمان بعدم التعرض لما يخبر عنه "محمّد" من عذاب وعقاب !

من هنا كانوا يحاربون النبي صلّى اللّه عليه وآله ويخالفونه حتى لا يسمعوا وعده ووعيده.

واليك بعض الآيات التي كانت تقلق بشدة نفوس المترفين من قريش :﴿ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ17.

وبينما كانوا يمدّون موائد اللهو والشراب في ظلال الكعبة ويحتسون كؤوس الخمر كانوا فجأة يسمعون هذه الآية :﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ18.فتلقي في نفوسهم رعباً عجيباً، وينتابهم الاضطراب الشديد حتى أنهم كانوا يلقون بكؤوس الخمر جانباً ويتملكهم خوف شديد لم يعرفوا له مثيلاً.

4-الخوفُ مِن القبائل العربية المشركَة
قال "الحارث بن نوفل بن عبد مناف" لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله :انا لنعلم أنّ قولك حق ولكن يمنعُنا أن نتبع الهُدى ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العربُ من أرضنا (إن تركنا الوثنية التي تدين بها ويعتبروننا سدنة لأوثانها) ولا طاقة لنا بها.فنزل قوله تعالى يرد عليهم :﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا19 20.وهكذا كان تخوّف قريش من العرب إن هي تركت ما كان عليه العربُ من الوثنية والشرك أحد الاسباب لعتوهم وإعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

طائفة مِن إعتراضات المشركين
وربما اعترض المشركون على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قائلين :إن هذه الارض ليست بأرض الانبياء، وإنما ارضُ الأنبياء الشامُ فآت الشام21.

وكان اكثر المشركين يقولون - وذلك بوحي من اليهود - لماذا لا ينزل القرآن على "محمّد" دفعة واحدة كالتوراة والانجيل فحكى القرآن الكريم إعتراضهمهذا بنصه اذ قال :﴿وقال الّذين كفرُوا لولا نُزِّل عليهِ القُرآنُ جُملةً واحِدَة.

ثم قال تعالى ردّاً على إعتراضهم هذا :﴿كذلِك لِنُثبِّت بهِ فُؤادكَ22.

إن القرآن يهتم بهذا الإعتراض، ويوضح مسألة "النزول التدريجي" للقرآن الكريم ويقطع الطريق على المستشرقين المغرضين ومن حذى حذوهم، بمنطقه المحكم، وبيانه القويّ.

وها نحن نعمد هنا الى إعطاء شيء من التوضيح لهذه المسألة ايضاً

القُرآن والنُّزُولُ التدريجيّ
إن التاريخ القطعيّ لنزول القرآن وكذا مضامين آيات سوره تشهد بأن آيات القرآن الكريم وسوره نزلت تدريجاً.فبمراجعة فاحصة لأوضاع مكة، والمدينة يمكن تمييز المكيّ من هذه الآيات عن مدنيّها.

فالآيات التي تتحدثُ عن مكافحة الشرك والوثنية ودعوة الناس الى اللّه الواحد، والإيمان باليوم الآخر مكيّة، بينما تكون الآيات التي تدور حول الأحكام وتحثُّ على الجهاد والقتال مدنيّة، ذلك لأنّ الخطاب في البيئة المكيّة كان موجّهاً الى المشركين عبدة الأوثان الذين كانوا ينكرون توحيد اللّه، واليوم الآخر، فهنا تكونُ الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع قد نزلت في هذه البيئة.

في حين كان الخطاب في المدينة المنورة موجّهاً إلى المؤمنين باللّه، والى جماعة اليهود والنصارى، وكان الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة اللّه هو الأعمال المهمّة التي بدأها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وواصلها في هذه البيئة، من هنا تكون الآيات التي تتضمن الحديث حول الاحكام والفروع والقوانين، ويدور الحديث فيها أيضاً حول عقائد اليهود والنصارى ومواقفهم وتتضمن الحثَّ - كذلك - على الجهاد والقتال والتضحية في سبيل اعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه، آيات مدنيّة.

إنّ كثيراً من الآيات ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالحوادث التي وقعت في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وهذه الحوادث هي التي تشكّل ما يسمّى بشأن أو أسباب النزول التي يكون الوقوفُ عليها مُوجباً لفهم مفاد الآية، وإتضاح مفادها، فان وقوع هذه الحوادث كان سبباً لنزول آيات فيها بالمناسبة.

على أن بعض الآيات الاُخرى نزلت جواباً على أسئلة الناس، ولرفع حاجاتهم في المجالات المختلفة.والبعضُ الآخر منها نزلت لبيان المعارف والأحكام الالهية.

ولهذه الاسباب يمكن القولُ بان القرآن الكريم نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تدريجاً لتدرّج موجبات النزول.وقد صرّح القرآن والكريم بهذا الامر أيضاً في بعض المواضع اذ قال :﴿وقُرآناً فرَقناهُ لِتقرَأهُ على النّاسِ على مُكث23.

وهنا ينطرح هذا السؤال وهو :لماذا لم تنزل آياتُ القرآن كلُّها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جملة واحدة، ودفعة واحدة كما حدث ذلك للتوراة والإنجيل من قبل؟!
إنّ هذا السؤال لم يكن جديداً بل طرحه أعداء النبي صلّى اللّه عليه وآله ومعارضوه في عصر الرسالة في صورة الاعتراض أيضاً حيث كانوا يقولون :﴿لَولا نُزِّل عليهِ القُرآنُ جُملَةً واحِدة24.

ويمكن تقرير وشرح هذا الاعتراض على نحوين
1-إذا كان الإسلام ديناً إلهياً، وكان القرآن كتاباً سماوياً منزلاً من جانب اللّه على رسوله، فلا بدّ أن يكون ديناً كاملاً، ومثل هذا الدين الكامل يجب أن ينزل بواسطة ملائكة الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جملة واحدة من دون تدرّج ولا توقف في نزول الآيات، اذ لا مبرّر ولا داعي لأن ينزل دين كامل من جميع الجهات، مكمّل من حيث الاُصول والفروع والتشريعات والواجبات والسنن، على نحو التدريج في25 عاماً، ولمناسبات مختلفة.

وحيث أن القرآن نزل منجّماً، وبصورة متفرقة متناثرة، وعقيب طائفة من الأسئلة، أو وقوع حوادث وطروء حاجات في أزمنة مختلفة يمكن الحدس بان هذا الدين لم يكن كاملاً من حيث الاُصول والفروع، وهو يتدرّج في التكامل ومثل هذا الدين الناقص الذي يسير نحو كماله خطوة خطوة وبالتدريج لا يصح أن يوصف بالدين الالهيّ.

2 - إن آيات القرآن والتاريخ القطعي والمسلّم للتوراة والإنجيل والزّبور تحكي جميعها عن أن هذه الكتب السماوية اُعطيت إلى المرسلين بها في ألواح مكتوبة مدوّنة، فلما لم ينزل القرآن الكريم على هذا الغرار، كأن ينزل القرآن على "محمّد" في لوح مكتوب كما نزل التوراة في الواح مكتوبة؟!

وحيث أن المشركين لم يكونوا يعتقدون بهذه الكتب السماوية قط، ولم يكن لهم علم مسبق بكيفية نزولها، لذا يمكن القولُ بان مقصودهم من هذا الاعتراض كان هو الشكل الأول من هذا التوضيح، والذي يتلخص في أنه لماذا لم ينزّل ملائكة الوحي آيات القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جملة واحدة، بل نزلت هذه الآيات عليه صلّى اللّه عليه وآله في فواصل زمنية متفاوتة، وبمناسبات وحسب وقائع مختلفة متدرّجة؟!

الأسرار المنطقيّة للنُّزول التدريجي للقرآن
ولقد كشف القرآنُ القناع في معرض الردّ على إعتراض المشركين هذا عن حِكَم وأسرار النزول التدريجيّ للقرآن الكريم.

واليك توضيح هذا القسم الذي اشار اليه الكتاب العزيز بعبارة مقتضبة قصيرة


1-إن الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه وآله يتحمّل مسؤوليات كبرى، وان شخصية كهذه من الطبيعي ان يواجه مشاكل ومتاعب باهضة وصعبة، ولا ريب أن تلك المشاكل والمتاعب توجب الكلل، وانخفاض مستوى النشاط مهما كانت الروحُ التي يتمتع بها الشخصُ عظيمة، وقويّة، في مثل هذه الحالة يكون تجديدُ الارتباط بالعالم الأعلى، وتكرّرُ نزول الملك من جانب اللّه تعالى باعثاً على تجدّد النشاط، وعاملاً قوياً في بثّ القوة والحماس والمعنوية الفاعلة في نفس النبيّ وروحه، وبالتالي فان العناية والمحبّة الالهية الممتدّة لنبيّه ورسوله إنما تتجدد لتكرّر نزول الوحي عليه صلّى اللّه عليه وآله من جانبه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة النفسية الكبرى اذ قال :﴿كذلِك لِنُثبِّت بِه فُؤادَك26.

2-ويمكن ان تكون الجملةُ المذكورة ناظرة الى جهة اُخرى وهي :ان المصالح التربوية والتعليمية تقتضي أن يتنزل القرآنُ الكريمُ على نحو التدريج ويُلقى الى الناس على هذا الشكل أيضاً وذلك لان النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله معلّم الاُمة، وطبيبُها الروحيُّ الذي بُعِث الى الناس بالوصفات الالهية لتعليمهم، وهدايتهم ومعالجة أمراضهم وأدوائهم الاجتماعية والخلقيّة، والفكرية، وكُلِّف بأن يُطبِّق هذه الوصفات في حياتهم العملية، ومثل هذا يتطلب التدرّج لينفع الدواء حينئذٍ وتنجع المعالجةُ.

إن أفضل وأنجح أساليب التربية هو أن يمتزج الجانب العمليّ بالجانب النظري في أيّة محاولة تربوية، وأن يطبق كل ما يدرسه الاستاذ بصورة عملية تطبيقية، ويعطي لما يلقيه من معلومات، صبغة تحقيقية، ويتجنّب بشدة إتصاف أفكاره وآراءه بالطابع النظريّ البحت.

فلو أن الاستاذ المتخصّص في الطبّ اكتفى بالقاء جملة من المعلومات الكليّة والاُسس العامة من الطبّ على طلابه في الصف حُرم النتائج المتوخّاة والغايات المطلوبة من تعليم الطبّ، بشكل كامل.

أما إذا قرنَ الاستاذ درسَه النظري بالإرشاد العمليّ وطبّق ما ألقاه وبيّنه من أفكار ومعلومات في هذا المجال على جسم مريض راقد أمام الطلبة فانه سيحصل على نتائج أحسن، ويساعد الطلبة على فهم افضل للمواد التي درسوها في هذا المجال.

فلو أنَّ الآيات القرآنية الكريمة قد نزلت جملةً واحدة (والحال أن المجتمع الإسلامي لم يكن يحتاج الى كثير منها) كان القرآن - حينئذٍ - فاقداً لهذه المزية التربوية الهامة التي أشرنا إليها قريباً في مثال تدريس الطب.

ان بيان الآيات التي يشعر الناس في انفسهم بعدم الحاجة الى اخذها وتعلّمها، لا يترك التأثير الباهر في القلوب، بينما إذا نزل ملائكة الوحي بآيات القرآن حسب حاجات الناس التي يشعرون فيها بضرورة تعلّمها لتضمِّنها الأحكام والاُصول والفروع التي يحتاجون إليها فانه لا شكّ يكون لها في هذه الحالة تأثير أحسن وأقوى في قلوب الناس. كما سيكون لها ترّسخ اكبر في نفوسهم، وسيظهرُ الناس من انفسهم إستعداداً اكبر لاخذ ألفاظها ومعانيها، وفوق كل ذلك سيشعرون بنتائج هذه التعاليم عند تعليم النبيّ إيّاها لهم، وعندئذ تتحقق المقولة التربوية التي أشرنا إليها في ما سبق وهي اقتران كلام المربّي بالنتيجة لأن النظريات إتخذت طابعاً عملياً، ولم تكن مجرد نظريات لا ترتبط بالواقع.

ولكن يبقى هنا سؤال آخر وهو :إذا كان نزولُ القرآن قد تحقّق على نحو التدريج وتبعاً للاحتياجات والحوادث المختلفة، فان ذلك يستلزم انفصام العلاقات والروابط بين الآيات والسور، وهذا ينتج أن لا يهتم الفكر البشري بتعلّم وحفظ معارفها لتبعثرها، وتباعد أزمنتها وغياب علاقاتها، ولكن لو نزل القرآنُ جملة واحدة وتلاه ملائكة الوحي على رسول اللّه دفعة واحدة لرُوعيت الروابطُ والعلاقات بين قضايا الوحي ولتضاعفت رغبةُ الناس واستعدادهم لأخذها وحفظها؟


ولقد أجاب القرآن الكريم أيضاً على هذا السؤال إذ قال :صحيح أن آيات القرآن الكريم نزلت على نحو التدريج تبعاً لطائفة من المقتضيات والموجبات إلا أن هذا النزول التدريجي لا يمنع ابداً من ترابط مطالبه، وارتباط مواضيعه بعضها ببعض، فان اللّه تعالى أفاض على هذه الآيات انسجاماً وترابطاً خاصاً يمكن الإنسان من تعلمها وضبطها وحفظها إذا أعطى الموضوع قليلاً من الإهتمام إذ قال تعالى:﴿ورتّلناه ترتيلاً27أي إنّنا أعطينا آيات القرآن نظاماً معيناً وترتيباً خاصاً.

أسرار اُخرى لِنُزُول القرآن تدريجاً
3-لقد واجه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في فترة رسالته ونبوّته فئات مختلفة من الناس : كالوثنيين، واليهود والمسيحيين الذين كان لكل فئة منهم دينٌ خاصّ، وعقائد وتصورات خاصة حول المبدأ والمعاد، وغيرهما من المعارف العقلية.

وقد كانت اللقاءات المختلفة هذه توجب أن يعمد الوحي الالهيّ إلى توضيح وبيان عقائد هذه الفئات (وإن لم يكن مطلوباً ومقترحاً من قبلهم) ويقيم الأدلة والبراهين على بطلانها، وزيفها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر كانت هذه اللقاءات في أزمنة متفاوتة، وأوقات مختلفة، لهذا لم يكن بدّ من أن ينزل الوحيُ الالهي تدريجاً، وفي الأوقات المختلفة، ويتصدى لبيان بطلان تلك العقائد والتصورات ويجيب على شبهات المخالفين، واعتراضاتهم.

وربما كانت توجب هذه المواجهاتُ العقائدية إلى أن يطرحوا على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بعض الاسئلة إمتحاناً واختباراً له وكان على النبيّ أن يجيب عليها، وحيث أن هذه الاسئلة كانت تطرح في أوقات مختلفة، لهذا لم يكن مناص من أن ينزل الوحيُ الالهيُّ في الأوقات والأزمنة المختلفة، وعلى نحو التدريج.

هذا مضافاً الى أن حياة النبي نفسها كان حياة ثورة، ووقائع، وكان النبيُّ يواجه باستمرار أحداثاً وقضايا يجب توضيح حكمها، وبيان المنهج فيها من جانب الوحي الالهي.وربما كان الناس أنفسهم يواجهون في حياتهم اليومية حوادث واُموراً يرجعون فيها الى النبي صلّى اللّه عليه وآله يطلبون منه الحكم الالهيّ فيها ويسألونه عما يجب إتخاذه من الموقف الشرعيّ في تلك الحوادث وما يشابهها.

وحيث أن هذه الحوادث، وما يترتب عليها من تساؤلات كانت تقع في اوقات مختلفة، وبمرور الزمن، لذلك لم يكن بد أيضاً من ان ينزل الوحيُ الالهيّ بالتدريج ليجيب على هذه الأسئلة أوّلاً بأوّل.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذه النقاط، وإلى اُخرى غيرها في قوله تعالى :﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا 28.

4 - إن للنزول التدريجيّ للقرآن وراء كل ذلك سراً آخر، وعلة اُخرى غفلوا عنها، ألا وهي : هداية الناس وتوجيه أنظارهم إلى منشأ هذا الكتاب، وأن القرآن ليس الا كتاباً سماوياً، ووحياً إلهياً لا غير، ولا يمكن أن يكون من نسج العقل البشريّ، لأن القرآن نزل خلال (23 عاماً) عبر طريق طويل من أنواع الحوادث والوقائع المسرة والمحزنة، المقرونة بالنصر والهزيمة، والنجاح والإخفاق، ولا شكّ أن هذه الحالات المختلفة، والاحاسيس والمشاعر المتنوعة المتباينة، تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان، وروحه وعقله، ولا يمكن لإنسان واحد أن يتكلم بكلام من نوع واحد، وبنبرة واحدة، في حالتين نفسيّتين متضادتين، فالكلام الصادر في حال الفرح والابتهاج والمسرة من اللسان او القلم، يختلف من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال اللفظ وعمق المعنى اختلافاً بارزاً عن الكلام الصادر في حال الحزن والتعب، والاخفاق، والهزيمة.

بينما لا يوجد أي شيء من الاختلاف من حيث الألفاظ والمعاني بين آيات القرآن الكريم مع أنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يمر بحالات مختلفةٍ من الحزن والسرور والاخفاق والانتصار والسرّاء والضرّاء، والعسر والرخاء، والجهد والنشاط، بل نجد تلك الآيات على نمط ونسق واحدٍ من القوة والفصاحة والبلاغة، وجمال اللفظ وعمق المعنى بحيث يستحيل على أيّ بشر بلغَ ما بلغ أن يعارض آية من آياته أو سورة من سوره، وكأنّ القرآن الكريم كمية من الفضّة المائعة خرجت من الاُتون جملة واحدة لا يوجد بين آياتها أيُّ شيء من التفاوت والاختلاف، أو كأنّه جوهرة واحدة أولها كآخرها وآخرها كأولها.

ولعلّ الآية التالية التي تنفي أيّ نوع من أنواع الإختلاف في القرآن اذ تقول :﴿  أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا   اشارة الى هذا السرّ.

إنّ المفسرين اعتبروا هذه الآية ناظرة إلى نفي الاختلاف والتناقض بين مفاهيم الآيات ومفاداتها، ومقاصدها، في حين لا تنفي هذه الآية مجرّد هذا النوع من الاختلاف بل تقدّس القرآن المجيد وتنزهه من جميع انواع الاختلاف والتناقض الذي هو من لوازم العمل والانتاج البشري.


1-المدثر :11 - 30.
2-بحار الأنوار :ج 17 ص 211 و212، إعلام الورى بأعلام الورى : ص 41 و42.
3-فصلت :1 - 5.
4-السيرة النبوية :ج 1 ص 293 و294.
5-أي الامور الثلاثة المقترحة الينبوع والجنة والبيت من ذهب.
6-الزخرف :31.
7-الاسراء :93.
8-الانعام :7.
9-الإسراء :93.
10-الإسراء :93.
11-الرعد :38 - 40.
12-بحار الأنوار :ج 19 ص 17 عن المناقب.
13-الزخرف :31.
14-السيرة النبوية :ج 1 ص 361.
15-بحار الأنوار :ج 18 ص 235.
16-السيرة النبوية :ج 1 ص 315 و316.
17-عبس :33 - 37.
18-النساء :56.
19-القصص :57.
20-بحار الأنوار :ج 18 ص 236.
21-بحار الأنوار :ج 18 ص 198.
22-الفرقان :32.
23-الاسراء :106.
24-الفرقان :32.
25-الفرقان :32.
26-الفرقان :32.
27-الفرقان :33.
28-النساء :82.