الدليل الأول
إن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه. وإن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله.
وبعبارة أخرى: إنّ الّذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولاً، وإمّا أن لا يكون معقولاً.
فإن كان معقولاً، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول. وإن لم يكن معقولاً، فلا يكون مقبولاً. إذ قبول ماليس بمعقول، خروجٌ عن حد الإِنسانية ودخولٌ في حريم البهيمية.
والجواب: إن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها، حصر غير حاصر. فإن ها هنا شقاً ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له. فإنك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلة على لزوم البعثة، أن عقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل، فلاحظ.
الدليل الثاني
قد دلّ العقل على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبّد الخلق الاّ بما تدل عليه عقولهم، وقد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر. فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكره بآلائه علينا. وإذا عرفناه وشكرنا له، إستوجبنا ثوابه. وإذا أنكرناه وكفرنا به، إستوجبنا عقابه. فما بالنا نّتبع بشراً مثلنا؟!..
والجواب: إن قسماً من هذا الدليل تكرار للدليل الأول. وأما ما اُفيد في ذيله من وقوف الإنسان على حسن الشكر وقبح الكفر، فهو وإن كان صحيحاً، غير أنه يلاحظ عليه أمران:
الاول: إن كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر. فربما يتصورون أن عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه. فلأجل ذلك ترى عبدة الاصنام والاوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئاً موجباً للتقرّب.
قال تعالى حكاية عن المشركين: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾(الزمر:3).
الثاني: إنَّ تخصيص برامج الأنبياء بالامر بالشكر والنهي عن كفران النعمة، غفلة عن اهدافهم السامية. فإنهم جاؤوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية، ولا تختص رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافة، كتلك الّتي يرددها أصحاب بعض الديانات أيام السبت والأحد في البيع والكنائس. وإنك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقفت على كلمته المأثورة: "إني قد جئتكم بخير الدينا والآخرة"1.
الدليل الثالث
قد دلّ العقل على أن للعالم صانعاً حكيماً، والحكيم لا يتعبدّ الخلق بما يَقْبُح في عقولهم. وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، والطواف حوله، والسعي، ورمي الجمار، والإِحرام، والتلبية، وتقبيل الحجر الأصمّ. وكذلك ذبح الحيوان، وتحريم ما يكون غذاءً للإنسان، وتحليل ما يُنقص من بنيته.
والجواب: ان هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام ومفاسدها. ولذلك زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت الله الحرام بآدابه الكثيرة، أمر على خلاف العقل. ولكن الدارس لفلسفة الحج، يقف على عظيم المصالح والمنافع الّتي يتضمنها، والمجال لا يسمح باستقصائها، إلاّ انا نشير بايجاز إلى بعضها.
فالتوجه إلى البيت، رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة، ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية، لسادت الفوضى فيهم ووقع الإِنشقاق بينهم في القطر الواحد فضلاً عن سائر الأقطار.
والسعي بين الصفا والمروة تجسيد لعمل تلك المرأة البارّة الّتي سعت بين الجبلين سبع مرات طلباً للماء لطفلها الظمآن، حتى حصّلته. فجعل الباري سبحانه مواطيء أقدامها محلاً للعبادة.
ورمي الجمار تجسيد لرمي الشيطان، فبما أن الشيطان لا يقع في أُفق الحسّ حتى نرجمه، فنجسد وجوده في نقاط خاصة تمثّل فيها لإبراهيم عليه السَّلام، فنرجمها ظاهراً، ولكن الهدف رمي الشيطان باطناً وإبعاده عن حريم النفس والروح.
واستلام الحجر الأسود، تعاهدٌ مع إبراهيم عليه السَّلام في السعي على خطاه لإقامة التوحيد وهدم أركان الوثنية. فبما أنَّ إبراهيم قد لبّى دعوة ربّه، وليس بين ظهرانينا حتى نبايعه على ذلك مباشرة، نبايعه بآثاره. وهذا أشبه ما يكون بتقبيل الجيوش راية بلادها مع أنه ليس إلاّ كسائر الأقمشة وما هو الاّ إبرازٌ للتعهد على حفظ البلاد، وضمان أمنها واستقلالها.
وهكذا الحال في بقية المراسم العبادية، والواجبات والمنهيات الشرعية. وقد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة الّتي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم. والمضار الكبيرة الّتي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وغيرهما.
قال القاضي عبد الجبار في ردّ هذا الدليل: "إن مجرد الفعل لا يمكن أن يُحكم عليه بالقبح والحسن، حتى لو سألنا سائلٌ عن القيام هل يقبح أم لا، فإنه ممّا لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك، والجواب أن نقيّد، فنقول: إنْ حصل فيه غرض وتعرّى عن سائر وجوه القبح، حَسُنَ، وإلاّ كان قبيحاً، هذا.
وإذا كان هكذا، وكنا قد علمنا بقول الرسول المصدَّق بالمعجز أنّ لنا في هذه الأفعال مصالح وألطافاً، فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح؟.
ويبين ذلك ويوضحه أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات، نحو أن يكون تعظيماً لصديق أو يتضمن غرضاً من الأغراض، وكذلك القعود إذا تضمّن انتظار الرفيق، وكذالك الركوع، والسجود، والمشي، والكلام، والطواف، وغير ذلك، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلاّ ولها وجه في الحسن إذا تعلّق به أدنى غر"2.
الدليل الرابع
إن أكبر الكبائر في الرسالة، اتباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل، يأكل ممّا تأكل، ويشرب ممّا تشرب.... فأي تميّز له عليك؟ وأي فضيلة أوجبت استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟3.
والجواب: ليس هذا المذكور في الدليل بشيء مستحدث، بل هذا ما كان المشركون يكررونه على ألسنتهم معترضين على رسلهم، كما ذكره تعالى في الكتاب الكريم.
قال تعالى: ﴿... وأَسَرّو النَّجوى الَّذينَ ظَلَموا هل هذا إلاّ بَشَرٌ مثلُكُم...﴾(الأنبياء:3).
وقال تعالى:﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾(المؤمنون:33-34).
ولكن الرسل قابلتهم بالجواب، وصدّقتهم بأنّهم مثلهم في الجسم والصورة، لكنهم غيرهم في المعرفة والكمال الروحي، لصلتهم بالله سبحانه دونهم، واطلاعهم على الغيب بإذنه سبحانه.
قال عزّ من قائل: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَان إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(إبراهيم:11).
وقد أمر الله تعالى رسوله أنْ يواجه هذا المنطق بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾(فصلت:6).
فالجملة الأولى، وهي الإتحاد في البشرية، إشارة إلى أحد ركني الرسالة، وهو لزوم المسانخة التامة بين الُمرَسَل ـ بالفتح ـ والُمرْسَل إليه. وقوله: (يُوحى إِليَّ), إشارة إلى وجه الفرق بينهما، وأنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتباعه وإطاعته. وبذلك يظهر تميّز الأنبياء وفضيلتهم وتقدمهم على غيرهم.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص59-64
1- تاريخ الطبري ج 2، ص 63 قاله النبي عند دعوة اقاربه إلى الإسلام، طبعة بيروت.
2- شرح الأصول الخمسة ـ ص 566.
3- انظر للوقوف على مدارك أدلة البراهمة، الملل والنحل للشهرستاني، ج2، ص 259 ـ 260، طبعة مصر، وكَشْف المراد، للعلامة الحلي، ص 217، طبعة صيدا وشرح التجريد، لنظام الدين القوشجي، ص 463، طبعة إيران.