إذ أثبتنا ضرورة الوحي كطريق أساسي يتوصل من خلاله إلى مدركات ومعلومات لازمة تسد بها نقائص الحس والعقل الإنساني، تبرز مسألة أخرى.
فمع ملاحظة أن الأفراد العاديين لا يمكنهم الإستفادة من وسيلة المعرفة هذه، بصورة مباشرة، ولا يملكون الإستعداد لتلقي الوحي الإلهي1، لذلك كان من الضروري إبلاغهم الرسالة الإلهية بواسطة أفراد معينين (الأنبياء)، ولكن ما هو الضامن لصحة هذه الرسالة؟ وكيف نطمئن إلى أن النبي قد تلقى الوحي الإلهي بصورة صحيحة، وأنه أبلغه للناس بصورة صحيحة؟ وإذا كان هناك واسطة بين الله والنبي فكيف نطمئن إلى أنها أبلغت الرسالة للنبي بصورة صحيحة؟ ذلك لأن الوحي إنما يكون مؤثرا في سد نقائص المعرفة البشرية فيما لو كان مصونا من مرحلة الصدور إلى مرحلة الوصول للناس من أي تحريف أو تلاعب أو تشويه، عمدا أو سهوا، وإلا فإنه مع احتمال السهو والنسيان في الواسطة أو الوسائط، أو تلاعبهم العمدي في محتواه، ستثار في أذهان الناس إحتمالات الخطأ والتشويه في الرسالة الواصلة إليهم، وتؤدي هذه الحالة إلى تزعزع الثقة بها، والإعتماد عليها. إذن فمن أي طريق يمكن الإطمئنان بوصول الوحي الإلهي للناس بصورة صحيحة وسليمة ومن البديهي أنه عندما تكون حقيقة الوحي مجهولة للناس، ولا يتوفر فيهم الإستعداد لتلقيه ومعرفته، فلا يكون هناك اي طريق للمراقبة والإشراف على الوسائط ليتعرف على مدى صدقهم. أجل. في صورة واحدة يمكن التعرف على وجود إختلال أو خطأ في الوحي، وذلك فيما إذا كان محتوى الرسالة مخالفا لأحكام العقل اليقينية، كما لو ادعى أحد بأنه اوحي له من الله بأن اجتماع النقيضين جائز، أو واجب، أو (والعياذ بالله) أن ذات الله معرضة للتركيب أو التعدد، أو الزوال، فيمكن في هذه الحالة أن نثبت كذب هذا الادعاء بالإستعانة بحكم العقل اليقيني ببطلانه. ولكن الحاجة الرئيسية للوحي، تتمثل في المسائل التي لا طريق للعقل في الوصول لإثباتها أو نفيها، والتي لا يمكنه من خلال تقويمه لمحتوى الرسالة تحديد مدى صحتها وخطأها. إذن، فمن أي طريق يمكن ان نثبت في مثل هذه المجالات صحة محتوى الوحي، وصيانته من التشويه والتلاعب والتحريف العمدي أو السهوي للوسائط؟
الجواب: إنه كما أن العقل، مع ملاحظته للحكمة الإلهية يدرك ضرورة وجود طريق آخر، لمعرفة الحقائق والوظائف العملية وإن لم يتعرف على كنه هذا الطريق وحقيقته، فانه يدرك أيضا أن الحكمة الإلهية تقتضي وصول هذه الرسالة للناس بصورة سليمة وصحيحة، دون أن تتعرض لأي تلاعب وتشويه، وإلا لزم نقض الغرض.
وبتعبير آخر: بعد أن علم أن الرسالات الإلهية، لا بد أن تصل إلى الناس من خلال واسطة أو وسائط، حتى تتوفر الظروف والاجواء الملائمة للتكامل الإختياري للناس، وليتحقق بذلك الهدف الإلهي من خلق البشر، فإنه بملاحظة الصفات الكمالية الإلهية يثبت أن هذه الرسالة يلزم أن تكون مصونة من التشويه والتلاعب العمدي والسهوي، ذلك: لأن الله تعالى لو (لم يرد) وصول الرسالات بصورة صحيحة إلى عباده لكان هذا مخالفا للحكمة، والإرادة الإلهية الحكيمة تنفي ذلك، وإذا كان الله (لا يعلم) عن أي طريق أو أي شخص يبلغ رسالته، لتصل سليمة إلى عباده فهذا ينافي علم الله اللامتناهي، واذا (لم يقدر) على اختيار وسائط صالحة لحفظها وصونها من شرور الشياطين، فإن هذه الحالة لا تتلاءم وقدرته اللامحدودة.
إذن فمع ملاحظة أن الله عالم بكل شيء لا يمكن أن نحتمل عدم علمه بخطأ الواسطة التي يختارها، يقول القرآن المجيد في ذلك ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام:124)، ومع ملاحظة القدرة الإلهية غير المحدودة لا يمكن أن نحتمل عدم قدرته على صيانة وحيه من تلاعب الشياطين، وتأثير عوامل السهو والنسيان فيه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾(الجن:26-28)، ومع ملاحظة الحكمة الإلهية، لا يمكن أن نتقبل أنه لا يريد حفظ رسالته من الخطأ ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾(الأنفال:42)، اذن فالعلم والقدرة والحكمة الإلهية كلها تقتضي وصول رسالته بصورة سليمة وصحيحة إلى عباده.
ومن هنا تثبت صيانة الوحي بالبرهان العقلي. وبذلك أيضا تثبت صيانة ملك أو ملائكة الوحي والأنبياء في مجال تلقي الوحي، وكذلك تثبت عصمتهم من الخيانة العمدية، أو من السهو والنسيان، في مجال إبلاغ الرسالة الإلهية. ومن هنا يتضح لنا السبب في تأكيدات القرآن الكريم على أمانة ملك الوحي، وقدرته على حفظ الأمانة الإلهية، ودفع تأثيرات الشياطين، وأمانة الأنبياء وبصورة عامة يتضح صيانة الوحي والحفاظ عليه حتى وصوله للناس ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾(التكوير:21)، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾(الأعراف:68).
سائر مجالات العصمة
إن العصمة التي أثبتناها بالبرهان السابق للملائكة والأنبياء عليهم السلام، مختصة بمجال تلقي الوحي وإبلاغه، وهناك مجالات أخرى للعصمة لا تثبت بهذا البرهان ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: مرتبط بعصمة الملائكة.
وثانيها: مرتبط بعصمة الأنبياء.
وثالثها: مرتبط بعصمة بعض الأفراد أمثال الأئمة المعصومين عليهم السلام، ومريم وفاطمة الزهراء سلام الله عليهما.
ففي مجال عصمة الملائكة: يمكن البحث في مسألتين غير تلقي الوحي وإبلاغه
إحداههما: عصمة ملائكة الوحي فيما لا يتعلق بتلقي الوحي وإيصاله.
وثانيتهما: عصمة سائر الملائكة الذين لا علاقة لهم بالوحي، أمثال الموكلين بالرزق وكتابة الأعمال أو قبض الأرواح وغيرها. وكذلك حول عصمة الأنبياء فيما لا يتعلق برسالتهم، يمكن البحث في مسألتين:
إحداهما: عصمة الأنبياء من الذنب والمعصية تعمدا.
والأخرى: عصمتهم عن السهو والنسيان.
وهاتان المسألتان يمكن البحث فيهما بالنسبة لغير الأنبياء أيضا.
أما المسائل المتعلقة بعصمة الملائكة في غير مجال تلقي الوحي وإبلاغه، إنما يمكن معالجتها بالبرهان العقلي فيما لو تعرفنا على حقيقة الملائكة، ولكن البحث عن حقيقتها كما أنه ليس يسيرا فهو غير مناسب لبحوث هذا الفصل، ومن هنا نكتفي بذكر آيتين تدلان على عصمة الملائكة، وهما الآية (27) من سورة الأنبياء: (بَلْ عِبَاد مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون). والآية (6) من سورة التحريم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون).
وهاتان الآيتان تدلان بصراحة على أن الملائكة عباد مكرمون، لا يعلمون إلا بالأمر الإلهي، ولا يعصون أمره، وإن بقي التساؤل حول تعميم الآيات لجميع الملائكة.
عصمة الأنبياء
هناك خلاف بين الفرق الإسلامية حول مدى تنزيه الأنبياء عن إرتكاب المعاصي والذنوب. فالشيعة الإمامية يعتقدون بأن الأنبياء معصومون من جميع المعاصي، صغيرها وكبيرها، من حين الولادة حتى الوفاة، فلا تصدر منهم المعصية حتى سهوا ونسيانا، ولكن هناك فرقا أخرى، تذهب إلى عصمة الأنبياء من الكبائر فحسب، وبعضهم من حين البلوغ، وبعضهم من حين النبوة. ونقل عن بعض الفرق من أهل السنة (وهم الحشوية وبعض أهل الحديث) أنهم ينكرون عصمة الأنبياء تماما، ويذهبون إلى إمكان صدور المعصية منهم عمدا حتى في فترة نبوتهم.
وقبل البحث في إثبات عصمة الأنبياء عليه السلام تلزمنا الاشارة إلى بعض الملاحظات:
الأولى: لا نعني بعصمة الأنبياء أو غيرهم، عدم إرتكاب المعصية فحسب، إذ من الممكن أن لا يرتكب الفرد العادي معصية خلال عمره كله، وخاصة لو كان عمره قصيرا، بل نعني به توفره على ملكة نفسانية قوية، تمنعه من إرتكاب المعصية حتى في أشد الظروف، وهي ملكة تحصل من وعيه التام والدائم بقبح المعصية، وإرادة قوية على ضبط الميول النفسية، وبما أن هذه الملكة لا تتحقق إلا بعناية إلهية خاصة، لذلك تنسب فاعليتها إلى الله تعالى، وإلا فان الله لا يمنع الإنسان المعصوم عن إقتراف المعصية جبرا، ولا يسلب منه الإختيار، وقد نسبت للّه عصمة بعض الأفراد الذين يمتلكون مناصب إلهية كالنبوة والإمامة بمعنى آخر وهو ضمانه عز وجل صيانتهم.
والثانية: إنه يلزم من عصمة الشخص ترك الأعمال المحرمة عليه، كالمعاصي المحرمة في كل الشرائع، والأعمال التي يحرم إرتكابها في الشريعة التي ينتمي إليها، إذن فلا تنافي عصمة نبي ممارسة العمل الجائز في شريعته لشخصه خاصة، وإن كان محرما في الشريعة السابقة عليه، أو سيكون محرما بعد ذلك.
الثالثة: المراد من المعصية، التي ينزه المعصوم عن إرتكابها هي: العمل الذي يطلق عليه مصطلح (الحرام) في الفقه، أو ترك العمل الذي يطلق عليه (الواجب) في الفقه. وأما لفظة المعصية وما يرادفها أمثال الذنب، فإنها تستعمل فيما هو أوسع من ذلك بما يشمل (ترك الأولى) وممارسة مثل هذه الذنوب لا تنافي العصمة.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص106-111