من الطرق لتمييز النبي الصادق عن المتنبي الكاذب جمع القرائن والشواهد، وهذا الطريق ضابطة مطردة في المحاكم القانونية، معتَمَدٌ عليه في حَلّ الدعاوى والنزاعات، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم، ويستند إليه المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الغربية، الّتي تفتقد إلى القضاء على الأيمان والبَيّنات، وتقضي هذه الطريقة بجمع كلّ القرائن والشواهد الّتي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره.
ويمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في مورد دعوى النبوة، فنتحرى جملة القرائن الّتي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى، ومن هذه القرائن
1- نفسيات النبي
مّما يدلّ على كون مدّعي النبوة صادقاً في دعواه، تحلّيه بروحيات كمالية عالية، وأخلاق إنسانية فاضلة، غير منكب على الدنيا وزخرفها، ولا طالب للرئاسة والزعامة، لم ير له في حياته منقصة، ودناسة، بل عرف بكل خلق كريم، واشتهر بالنزاهة والطهارة.
فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه وباطنه، وبالتالي صدقه في دعواه.
2- سمات بيئته
إنّ ظهور مدّعي النبوّة في مجتمع أُمِّيٍّ، لا يعرف الكتابة، بعيد عن مظاهر الحضارة والتمدّن، ومجيئَه بشريعة تحمل سمات مناقضة بالكليّة لهذا الظرف السائد، قرينة على نبوّة هذا المدّعي.
فإنّ مجي إنسان بشريعة تَحْمِلُ الدعوةَ إلى التعلّم ونبذ الأميّة، وتشرّع القوانين الإجتماعية، والإقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة والتقنين والقضاء والروابط السياسية، أقول: إنّ إتيانه بهذه المظاهر الحضارية في مجتمع قبلي لم يسمع بشيء من تلك النظم، لدليل على ارتباط هذا الإنسان بمبدء أعلى، غير خاضع لمقتضيات تلك البيئة. بل إنّ ظاهرة كهذه هي بحدّ نفسها نوع من الإعجاز وخروج عن المألوف.
3- مضمون الدعوة
من جملة القرائن الّتي ترشد إلى صدق المدّعي أو كذبه في دعواه، مضمون العقيدة الّتي يحملها، والدعوة الّتي يدعو إليها، ومقدار التوافق بينهما.
فإذا كانت العقيدة الّتي يحملها، والمعارف الّتي يدعو إلى اعتناقها، معارف إلهية تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله، وكانت دعوته العملية مرشدةً إلى التحلّي بالُمُثل الأخلاقية، والفضائل الإنسانية، وناهيةً عن الرذائل النفسية وركوبِ الشهوات المنحرفة والفسقِ والمجونِ كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، ومبدء الخير والجمال.
4- ثباته في طريق دعوته
إنّ آية كون الدعوى إلهية، لا يبتغي صاحبها شيئاً من الأعراض المادية، والمناصب الدنيوية، ثباتُه في طريق دعوته، وتضحيته بنفسه وأعزّ أقربائه في ذاك السبيل.
وفي المقابل، إنّ انهزامه أمام المصاعب، وتعلّقه بحفظ حياته، دليل عدم إيمانه بما يدعو إليه، وبالتالي عدم ارتباط دعوته بمبدء إلهي.
5- الأدوات الّتي يستفيد منها في دعوته
من القرائن الّتي تدلّ على صدق المدّعي في دعوى النُبوّة والسفارة الإلهية، اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة والطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.
وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، وأساليب وحشية غير إنسانية، متمسكاً بقول ماكيافللي: "الغاية تبرر الوسائل"1، كان هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.
6- المؤمنون به
إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة وحواريه، دلالة خاصة على صدقه فيما يدّعيه، وذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به، واتّبعوا دعوته، وبلغوا فيها مراتب عالية من التقوى والورع، كان هذا دلاًّ على صدق المدعي في ظاهره وباطنه، وعدم التوائه وكذبه، لأنّ الباطل لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء والبطانة.
هذه القرائن وما يشابهها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة، ودعواه الّتي يدّعيها، كانت دليلاً قاطعاً على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، وإن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.
أول من طرق هذا الباب
إنّ أوّل من طرق هذا الباب، وجعل القرائن المفيدة للقطع بصدق المدّعي، دليلاً على صحة الدعوى، هو قيصر الروم، فإنّه عندما كتب إليه الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الّذي أتى به، أخذ (بعد استلامه الرسالة) يتأمّل في عبارات الرسول، وكيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، ومطّلع على أخلاقه وروحياته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأحضروا إلى مجلس قيصر، فطرح عليهم الأسئلة التالية:
قيصر: كيف نسبه فيكم؟.
أبو سفيان: محضٌ، أوسطنا نسباً2.
قيصر: أخبرني، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبّه؟.
أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.
قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟.
أبو سفيان: لا.
قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟.
أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء. وأمّا ذوو الأنساب والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.
قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أيحبه ويلزمه؟ أم يقليه ويفارقه؟.
أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.
قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟.
أبو سفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.
قيصر: أخبرني هل يغدر؟.
أبو سفيان: (لم أجد شيئاً مّما سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت): لا، ونحن منه في هدنة. ولا نأمن غدره. (وأضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).
ثم إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الأمور السابقة وأنّه كيف استنتج من الأجوبة الّتي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق، بقوله:
"سألتك كيف نسبه فيكم، فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه، لا يأخذه إلاّ من أوسط قومه نسباً.
وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله، فهو يتشبه به، فزعمت أن لا.
وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا.
وسألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء، وكذلك اتباع الأنبياء في كل زمان.
وسألتك عمّن يتبعه، أيحبّه ويلزمه، أم يقليه ويفارقه. فزعمت أنْ لا يتبعه أحد فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.
وسألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن صدقتني عنه ليغلبنيّ على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. إنطلق لشأنك".
قال أبو سفيان: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول: أي عباد الله، لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام3.
ومن المأسوف عليه أنّ هذا الطريق الّذي سلكه قيصر، ووجده وسيلة كافية لكشف الحقيقة بذكائه، قد تُرك بين المسلمين قرون عديدة.
وسلوك هذا الطريق، وجمع القرائن والشواهد الدالّة على صدق دعوى المدّعي، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث، الّتي مضت عليها قرون. نعم، المعاجز أشدّ تأثيراً، وأسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأُم عينيه. ولأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم.
وممن طرق هذا الباب في القرن الثالث عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة إسطنبول، فقد ألف كتابه "ميزان الموازين"، وأوعز إلى هذا الطريق عند البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء4. وبعده الكاتب السيد محمد رشيد رضا، مؤلّف المنار، في كتابه "الوحي المحمدي"، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد والقرائن.
وفي الختام نركّز على نكتة، وهي أنّ الإعتماد على الطريقين الأخيرين، لا يعني الإكتفاء بهما ورفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات والبيّنات، بل لكل موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير، والخطيب البارع، ويستفيد من كلٍّ حسب ما يناسبه الحال.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص117-122
1- نيكولو ماكيافللي (1469 ـ 1527 هـ). سياسي ومؤرخ إيطالي، أحد أعلام عصر النهضة في أوروبا، شارك في الحياة السياسية في إيطاليا ثم اعتزلها عام (1512 م) متفرغاً للتأليف. وعرف في تاريخ الفكر السياسي بمؤلفه الشهير "الأمير"، حيث أيّد فيه نظام الحكم المطلق، وأحلّ فيه للحاكم اتّخاذ كل وسيلة تكفل استقرار حكمه واستمراره، ولو كانت منافية للدين والأخلاق وذلك على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة. ومن هنا صار لفظ "المكيافللية" وصفاً لكل مذهب ينادي بأنّ الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة. غير أنّ ماكيافللي عاد في كتابه "المحاضرات"، فأيّد النظام الجمهوري الّذي يقوم على سيادة الشعب، وعدد مزايا هذا النظام وفَضّله على النظام الملكي.
2- أي أَعْلانا نسباً.
3- تاريخ الطبري، ج 2، ص 290 ـ 291. حوادث السنة السادسة للهجرة.
4- طبع الكتاب عام 1288.